شادية عالم سعودية متمردة على الأسوَد

قبل ربع قرن التقيت منيرة موصلي وصرنا صديقين. امرأة من مكة وترسم. ثنائية مربكة. أكان علي أن أفسر تلك العلاقة الملتبسة؟ رسامة من مكة. مفردتان لا تنسجمان. ما الغريب في ذلك؟ لم يكن الخطأ في الموصلي بالتأكيد.
كنت أفكر بطلاسم حياة خفية تمتزج فيها الأساطير بالانخطاف الصوفي. ذلك ما سأراه في وقت لاحق في رسوم شادية عالم التي كان من الممكن أن يروق لها أن تبقى مزوقة كتب. مهنة تستعيرها من عصور لا تكف عن إظهار ولعها بها.
عالم لا تعنيها الصفة المتاحة بقدر ما يعنيها الأداء الجمالي.
فهي رسامة. ذلك مؤكد. غير أنها تتنقل بيسر بين المواد والتقنيات ولا تقف عند حدود المشهد الذي تود أن ترسمه بل تخترقه لتصل إلى الجذر الذي يشكل مصدر إشعاع أزلي. هناك تمتزج الفنون ببعضها البعض. وهو ما استفادت منه الرسامة فكانت تقبض على خلاصة الحكايات بالقوة نفسها التي تقبض بها على روح الشعر.
وهو ما أعانها على النظر إلى المفردات التراثية بطريقة تجريدية؛ فالأشكال التي تمتزج بالكلام لا تبقى على حالها حين تدخل في مرآة الرسم.
بتأثير الشعر القديم والسرد الذي لا يزال يتموج على الشفاه ترسم عالم المشاهد التي تحاول إعادة صياغتها بصريا كما أنها تصنع لتلك المشاهد مسرحا يناسب رغبتها في إعادة خلق العالم.
رسامة تطارد الجنيات
عالم رسامة تجليات. تهوى الفوتوغراف غير أنها تنحرف بالصورة عن موقعها الثابت لتدخل في خضم تحولات غير متوقعة. تلجأ الرسامة أحيانا إلى الكولاج من أجل أن ترى هوية في طريقها إلى التشكل.
هناك عالم يتكون من مجموعة متلاحقة من الألغاز التي يمحو بعضها البعض الآخر وهو ما تستفيد منه الرسامة في التسلل إلى حياة أسطورية، مادتها تكاد لا ترى. وهي المادة التي استعملتها الرسامة في تنفيذ كتاب “جنيات لار” مع أختها الروائية رجاء عالم. لقد غرقت عالم في مياه نهر لار الأسطوري فرسمت مشاهد مستلهمة من عالم لا مرئي؛ عالم لا يراه سوى الغرقى.
ولأن رجاء مولعة باللعب باللغة فقد كان المجال مفتوحا أمام شادية لكي تلعب بالصور والأشكال. إنها مناسبة للهدم وإعادة البناء. وهو ما تفكر فيه شادية لكي تزيح الأشياء عن مكانها وتقترح عليها وظيفة جديدة.
في عملهما المشترك “القوس الأسود” سعت الأختان، الفنانة شادية عالم والكاتبة رجاء عالم، إلى خلق عمل فني مفاهيمي كان في حقيقته نوعا من التحدي للحدود التي تفصل بين الكتابة والتشكيل البصري. ما فعلته شادية أنها جهزت السرد لكي يكون مرئيا، وقد عُرض ذلك العمل المركب في بينالي فينيسيا بدورته الرابعة والخمسين.
الأشياء وهي تتحول
ولدت عالم في مكة عام 1960. درست الأدب الإنجليزي في جامعة الملك عبدالعزيز. عام 2011 اختارت الإقامة في باريس. في تسعينات القرن الماضي برز اسمها واحدة من أهم الفنانات السعوديات المجددات. ولقد عُرفت عالم باستلهامها الحكايات التراثية والشعبية لكن بطريقة تنأى بها عن التوضيح، فكانت تعيد صناعة الحكاية بما يتناسب مع عناصر وشروط الفن الحديث، وهو ما جعلها قريبة من السرياليين وبالأخص حين تعاملت مع تقنية الكولاج حيث بدا واضحا تأثرها بتجارب الفنان الألماني ماكس إرنست.
أقامت معرضا في متحف مونبرناس بباريس عام 2004 وكان بعنوان “الكل تغير”، ولهذا العنوان دلالة مثيرة تسلط الضوء على تجربتها الفنية التي تستند أصلا على التحولات التي تتعرض لها طرق الرؤية إلى الأشياء ومن خلالها إلى الوقائع.
شغفت الفنانة بالفوتوغراف واعتبرته معادلا للرسم حيث مزجت بين الفنين في عدد كبير من أعمالها، كما لجأت إلى التركيب والتجهيز في تنفيذ عدد آخر من أعمالها الكبيرة.
شهد عام 2011 حدثا كبيرا في مسيرتها الفنية؛ يومها تم تكليفها وأختها رجاء بتمثيل السعودية في بينالي فينيسيا بدورته الرابعة والخمسين. حمل عملهما المشترك عنوان “القوس الأسود”، وكان ذلك العمل الكبير الذي احتل مساحة الجناح كله خليطا من الكتابة والرسم والنحت والتجهيز. كانت الأشياء في ذلك العمل تنتقل بخفة بين صلابة وسيولة مدهشتين كما في الأساطير.
بعد اللون الأسود ومن خلاله
“لقد عبرنا الأسود باتجاه قوس المعرفة” تقول عالم وهي تشير إلى اللون الأسود في حياة المرأة السعودية وكثافة رمزيته في الحياة العامة. كان “القوس الأسود” عملا ينطوي على دلالات تعبيرية؛ فهو يجمع بين ما هو شخصي وما هو عام، إضافة إلى أن مشاركة رجاء عالم قد أضفت عليه الكثير من الدلالات الأدبية التي نجحت شادية في إذابتها فنيا.
تقول “يلعب مكان الولادة دورا أساسيا في رؤية المرء للعالم من حوله، فهناك مواقع تتيح مجالا أوسع للرؤية. وهذا يظهر في بناء عملنا ‘القوس الأسود’. فالقادم من باب صالة العرض يرى السواد فقط لكنه لو استدار إلى اليمين أو اليسار فستظهر له لمحات مما وراء. وهناك مَن يعبر مباشرة إلى الوراء وبلا عناء. الحركة هي السر. عندما تتحرك نحو الأمام ترى الأمور بشكل مختلف وبالتالي تعيد تكوين العالم من حولك. ولا شك أن ذلك يعتمد أيضا على طبيعة الشخص نفسه فالعديد من الناس سيرون اللون الأسود فقط”.
كالعادة كانت هناك حكاية. ولكنها حكاية يمكن أن تنسى لتحل محلها رحلة الأختين عالم في اتجاه حياة يغلب عليها طابع الكشف عن الحقائق التي تنطوي عليها الوقائع اليومية التي لا تخلو من أفكار ما ورائية.
تجربة في الإيقاع البصري
ما الذي فعلته عالم لتستحق صفة الفنانة الطليعية؟ عبر مسيرتها الغنية بالتحولات جمعت عالم بين اهتمامات يمكن اعتبارها متناقضة ولا يكمل بعضُها البعضَ الآخر. فهي من جهة مولعة بالتراث، الشفهي منه كالشعر والمادي كالمفردات الجمالية التي تزين الجدران والأبواب والشبابيك والثياب، ومن جهة أخرى استلهمت صور الحياة المعاصرة مستعينة بالصور الفوتوغرافية. غير أن ذلك كله لم يشكل تناقضا، ذلك لأن الفنانة استطاعت بذكاء أن تصهر كل عناصر إلهامها في بوتقة أسلوب شخصي لا يمكن أن تخطئه العين.
لقد استطاعت من خلال طريقتها الخاصة في النظر إلى الأشياء والأحداث أن تخلق أسلوبا يجمع بين التوثيق الحسي والأثر الجمالي وما يمكن أن يتجلى من أبعاد بصرية تجريدية. صحيح أنها لجأت إلى كتابة الشعر، غير أن تلك الكتابة لم تكن مقصودة لذاتها. كان الشكل بما يخلقه من إيقاع بصري هو المقصود وفي المقابل فإن صور الوقائع المعاصرة يمكن أن تخلق أثرا إيقاعيا هو الآخر مع ما يمكن أن يحدثه من صخب في المشاعر.
ما يميز تجربة عالم أنها تضع مصادر إلهامها في سياق تجريب جمالي معاصر يضفي عليها طابعا شخصيا؛ فلا شعر امرؤ القيس يبقى في مكانه ولا عناوين الصحف التي تشير إلى وقائع معاصرة. تكتسب الأشياء المستعارة على يدي الفنانة حياة أخرى لا تمت بصلة إلى حياتها السابقة.
رسمت الفنانة كائنات خرافية وفي الوقت نفسه رسمت حفلات زفاف. وكانت الإشارات الرمزية في الحالين واضحة. ولم يكن الواقع بالنسبة إليها عبر كل تحولاتها الأسلوبية إلا مرآة فارغة. خلقت شادية عالم واقعا يتناسب مع رؤيتها إلى العالم فكانت طليعية في اختراع عوالم سحرية للرسم.