سيناريوهان صعبان للعلاقات الأميركية - العراقية

مرة أخرى تجد العلاقات الأميركية – العراقية نفسها أمام مفترق طرق ينذر بتمزقها، وهو سيناريو يصب في مصلحة إيران ولا يخدم العراق اقتصاديا وأمنيا. ويقع العبء الآن على عاتق بغداد لإنقاذ هذه العلاقة.
بغداد - يرى محللون أن سياسة التضييق على العراق التي تنتهجها واشنطن باستمرار تركت الولايات المتحدة أمام خيارات غير مستساغة، لكن التخبط هو خيار أفضل على المدى القصير من السماح للعلاقة بالتمزق.
وفي 28 يناير الماضي أدى هجوم شنته ميليشيات عراقية في الأردن إلى مقتل ثلاثة من أفراد الخدمة الأميركية وإصابة العشرات، ما دفع الوضع إلى خطوة أخرى على سلم التصعيد الذي ظهر في أواخر العام الماضي.
وأنهت حرب غزة فترة هدوء دامت أشهراً في هجمات الميليشيات ضد أهداف أميركية داخل العراق، ما حفز الجماعات الموالية لإيران تحت مظلة “المقاومة الإسلامية في العراق” على بدء موجة جديدة من الهجمات التي بلغ عددها 180 في آخر إحصاء.
ورداً على ذلك نفذت القوات الأميركية ضربات ضد شخصيات إرهابية محددة في بغداد، ما أعاد إيقاظ الجوقة السياسية المناهضة لواشنطن وامتناعها عن إزالة الوجود العسكري الأميركي رسميًا.
البقاء في العراق قد لا يمثل انتصارا لواشنطن، لكن المغادرة ستؤدي إلى المزيد من تشويه السمعة وفقدان المصالح والسلطة
وفي تناقض صارخ مع تأكيداتها السابقة بشأن وقف التصعيد في العراق، تعد إدارة بايدن الآن بمعاقبة مرتكبي هجوم الأردن، والسؤال الذي يفرض نفسه في هذا السياق هو: كيف وأين؟
ويقول الباحث في شؤون الشرق الأوسط بلال وهاب في تقرير نشره معهد واشنطن “ما لم تنتهك واشنطن نمطها القديم وقواعد الاشتباك غير المكتوبة مع طهران، فإنها لن تهاجم إيران مباشرة”.
ويضيف “ومع ذلك فإن التكتيك الأميركي الأخير المتمثل في استهداف الأصول الإيرانية في سوريا لن يبعث رسالة قوية بما يكفي لردع طهران أو استرضاء الأميركيين الغاضبين في الولايات المتحدة”.
ويبدو العراق جهة أكثر ملاءمة للعمل العسكري الأميركي، كما حدث في يناير 2020 عندما أمرت واشنطن باستهداف الجنرال الإيراني قاسم سليماني وزعيم ميليشيا الحشد الشعبي العراقية أبومهدي المهندس في بغداد.
ومهما كان المسار الذي تختاره الإدارة الأميركية، فسوف تحتاج إلى الأخذ في الاعتبار التأثيرات المحتملة على العلاقات بين الولايات المتحدة والعراق.
وفي هذا الصدد يبدو القرار بمثابة اختيار بين سيناريوهين صعبين؛ فإما التخبط في العلاقة أو السماح لها بالتمزق.
تمزق
في هذا السيناريو الأكثر تطرفاً تنهار العلاقة بين الولايات المتحدة والعراق بشكل لا يمكن إصلاحه، وتسود الإملاءات الإيرانية على الوكالة العراقية. وأحد المسارات المحتملة لهذه النتيجة هو التصعيد غير المقيد.
وعندما كثفت الميليشيات المدعومة من إيران هجماتها في أواخر العام الماضي، كان الرد الأميركي الأولي عبارة عن مزيج من الضغط الدبلوماسي والعمل العسكري المحسوب (عادة في سوريا)، حيث حاولت واشنطن تجنب تصعيد العنف أو الإخلال بالوضع السياسي والاقتصادي الدقيق في العراق.
ومع تصاعد الهجمات وعدم قيام الحكومة العراقية بأي شيء، تحولت الولايات المتحدة إلى مهاجمة أهداف داخل العراق، وضربت معقل الميليشيات في جرف الصخر وقتلت قائد كتائب حزب الله في بغداد، كما يمكن أن يؤدي الهجوم على القاعدة الأردنية إلى تحفيز المزيد من عمليات الولايات المتحدة بشكل أكثر كثافة.
وفي الوقت نفسه ألحقت الحكومة العراقية المزيد من الضرر بالعلاقة في وقت سابق من هذا الشهر من خلال الانضمام إلى جوقة الدعوات لطرد القوات الأميركية. ومن المرجح أن يؤدي العمل العسكري الإضافي إلى تضخيم هذه الدعوات.
في تناقض صارخ مع تأكيداتها السابقة بشأن وقف التصعيد في العراق، تعد إدارة بايدن الآن بمعاقبة مرتكبي هجوم الأردن، والسؤال الذي يفرض نفسه في هذا السياق هو: كيف وأين؟
وقد يدفع ذلك أيضًا بعض الميليشيات إلى توجيه صواريخها وطائراتها دون طيار ضد السفارة الأميركية في بغداد والقنصلية في أربيل، وهما من الأهداف التي أفلتت منها في الغالب.
وسيتم بعد ذلك تهميش الحكومة بشكل أساسي حيث تلجأ القوات الأميركية وقوات الميليشيات إلى تصعيد المناوشات المتبادلة، ما قد يؤدي إلى انهيار دبلوماسي كامل.
وكانت المرة الأخيرة التي واجه فيها البلدان قطيعة في عام 2020، عندما ردت الولايات المتحدة على موجة من هجمات الميليشيات بقتل سليماني والمهندس.
وفي وقت لاحق أطلقت إيران صواريخ باليستية على القوات الأميركية المتمركزة في قاعدة الأسد الجوية. ولوقف التصعيد هددت إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب بسحب قواتها تحت الإكراه وإغلاق السفارة، بحجة أنها لا تستطيع الوثوق بالقوات العراقية لحماية دبلوماسييها.
وكان تهديد عام 2020 قوياً ويمكن أن يمنح إدارة بايدن نفوذاً اليوم، سواء لإنقاذ العلاقة أو، في حالة الفشل في ذلك، خلق ظروف أفضل لاستهداف المصالح الإيرانية والميليشيات.
ووسط الأعمال العدائية النشطة سيكون لسحب القوات الأميركية فجأة تأثير الدومينو على الأعضاء الآخرين في التحالف المناهض لتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) الذين لا يزال لهم وجود في العراق.
وعلاوة على ذلك، وبمجرد خروج أفرادها من خط النار، ستكون لدى الولايات المتحدة مخاوف أقل بشأن مهاجمة الميليشيات العراقية، أو فرض عقوبات على الشركات العراقية والكيانات الحكومية، أو إلغاء الإعفاءات التي تسمح لبغداد بشراء الكهرباء والغاز الطبيعي الإيراني، أو قطع إمدادات الطاقة عن إيران أو تدفق الدولار، وهي خطوة قد تؤدي إلى انهيار العملة العراقية.
وتجنبت واشنطن منذ فترة طويلة فرض عقوبات على الوكالات الحكومية والشركات التي تديرها الدولة، لكن تصنيف وزارة الخزانة الأميركية الأخير لشركة الطيران فلاي بغداد يجعلها أقرب إلى تجاوز هذا الخط.
وفي المرة الأخيرة التي واجهت فيها الحكومة العقوبات -بعد غزو صدام حسين للكويت- انهار الاقتصاد العراقي. ولم تتمكن البلاد من بناء ما يكفي من المرونة الاقتصادية لتحمل العقوبات اليوم، كما أن طهران لن تهب لمساعدتها.
ومع ذلك يعد التمزق سيناريو يخسر فيه كلا البلدين. وقد لا يكون البقاء في العراق بمثابة “انتصار” لواشنطن، لكن المغادرة ستؤدي إلى المزيد من تشويه السمعة وفقدان المصالح والسلطة.
وإذا انسحبت الولايات المتحدة فإن حكومة رئيس الوزراء محمد شياع السوداني ستسقط قريباً. ومن ثم ستتولى الميليشيات المدعومة من إيران السيطرة على الدولة بالكامل، ومن المرجح أن تخلص إلى أنها لم تعد بحاجة إلى رئيس وزراء “محايد” لتحقيق التوازن في علاقات العراق المعقدة مع واشنطن.
وستبرز الانقسامات الداخلية إلى الواجهة، ما قد يؤدي إلى العنف داخل “المقاومة” وضد كردستان العراق.
وستكون هذه الفوضى أرضًا خصبة لعودة تمرد تنظيم الدولة الإسلامية، خاصة وأن واشنطن وبغداد لن تكون لهما فائدة تبادل المعلومات الاستخبارية حول داعش. كما أن مغادرة العراق من شأنه أن يجعل الدعم اللوجستي لمهمة مكافحة الإرهاب الأميركية في سوريا أكثر صعوبة وأكثر كلفة.
التخبط

يتمثل الخيار الثاني أساسا في العودة إلى الوضع السابق: الهدنة الفعلية التي سادت قبل أن تعيد إيران تنشيط شبكة وكلائها أثناء حرب غزة.
وقد تعتمد جدوى هذا السيناريو على مدى سرعة انتهاء المرحلة القتالية الرئيسية في تلك الحرب، على الرغم من أن إحدى الميليشيات الكبرى على الأقل -كتائب حزب الله- قد أعلنت استعدادها لوقف الهجمات بغض النظر عما يحدث في غزة، خشية رد فعل أميركي كبير على هجوم الأردن.
وقد يتكشف المزيد من التهدئة إذا أدت تحذيرات إدارة بايدن إلى ردع الميليشيات بشكل أكبر، أو إذا عانت من العمليات العسكرية الأميركية؛ وفي كلتا الحالتين قد تكون لدى الحكومة العراقية مساحة كافية لتأكيد سلطتها على المسائل الأمنية.
وسيتعين على واشنطن وبغداد بعد ذلك التعامل مع الوضع الدبلوماسي والسياسي الفوضوي، والحفاظ على العلاقة من خلال حفظ ماء الوجه وكسب الوقت. وهذا يمكن أن يمكّن كلا منهما من تحقيق أهدافه الأساسية؛ وهي إبقاء القوات الأميركية في العراق بموجب شروط مُعادة صياغتها تساعد بغداد على استرضاء الميليشيات وداعميها الإيرانيين.
ومع ذلك، ولكي ينجح هذا السيناريو، سيحتاج المسؤولون العراقيون إلى حل التناقض بين توقعاتهم الخاصة والموقف العام.
وسط الأعمال العدائية النشطة سيكون لسحب القوات الأميركية فجأة تأثير الدومينو على الأعضاء الآخرين في التحالف المناهض لتنظيم الدولة الإسلامية
وعلى سبيل المثال تريد الأحزاب الكردية أن يواصل التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة قتال تنظيم الدولة الإسلامية، لكنها أحجمت عن دعم وجوده بشكل علني وجماعي.
ولدى الأحزاب السنية مخاوفها الخاصة بشأن رحيل الولايات المتحدة ولكنها تكره التعبير عنها بصوت عالٍ.
وفي المقابل تتبنى الأحزاب الشيعية هذا الاحتمال علناً بينما تستمتع بسيطرتها على المؤسسات في بغداد، حيث أصبحت السلطة مركزية إلى حد كبير على مر السنين.
ويبدو أن رئيس الوزراء السوداني يسعى إلى إيجاد حل وسط، من خلال موازنة الأصوات المتشددة المناهضة للولايات المتحدة في ائتلافه مع الأصوات الأكثر واقعية التي ترغب في الحفاظ على الامتيازات المالية للتواجد الأميركي دون الثغرات الأمنية.
ومن أجل استرضاء كلا المعسكرين دعا إلى تشتيت التحالف المناهض لتنظيم الدولة الإسلامية أثناء التفاوض على صفقات ثنائية مع الدول الأعضاء فيه.
وباعتباره القائد الأعلى للقوات المسلحة في العراق، فإنه يتمتع بسلطة تسمح له بأن يطلب ببساطة من التحالف الرحيل؛ وبدلاً من ذلك قام بتشكيل لجنة حول هذه المسألة وقاد المناقشات في بغداد قبل أسبوعين، ما يشير إلى رغبته في تهدئة الوضع واتخاذ نهج جماعي لتشكيل المرحلة التالية من العلاقة الأمنية.
أسوأ النتائج
لم يتغير هدف إيران الرئيسي؛ فهي تريد إجبار الجيش الأميركي على الخروج من الشرق الأوسط. وفي العراق كانت إستراتيجيتها لتحقيق هذا الهدف ناجحة بشكل محبط: استخدام وكلاء مسلحين لإبقاء المسؤولين الأميركيين مركزين على حماية القوة ومنعهم من الدفاع عن حلفاء واشنطن المحليين.
ونتيجة لذلك تُركت واشنطن دون أي شركاء عراقيين قادرين وراغبين في الدفاع عن الولايات المتحدة في مواجهة الإملاءات الإيرانية.
وحتى لو تمكنت القوات الأميركية من البقاء هذه المرة، فقد تم تحديد الظروف اللازمة لحدوث تمزق في نهاية المطاف، خاصة إذا تصاعدت الضغوط الداخلية الأميركية من أجل الانسحاب، فيما هناك ديناميكية مماثلة تعمل في سوريا.
وفي الماضي أتاح خفض التصعيد وقتًا لواشنطن، لكن خفض التصعيد وحده لا يشكل أساسًا لعلاقة صحية.
وإذا كان هناك شيء قد تحقق، فهو أنه منح الميليشيات المدعومة من إيران مساحة أكبر لتخويف المعارضين وقلب نتائج الانتخابات وإحكام القبضة على الحكومة والاقتصاد العراقيين.
وعلى الأرض رأى أصدقاء الولايات المتحدة أن واشنطن ليست لديها تحفظات كثيرة بشأن السماح للجماعات الإرهابية المحددة بإدارة الوزارات أو مهاجمة إقليم كردستان وشركات الطاقة والمجتمع المدني.
ويدرك العراقيون وغيرهم في المنطقة أن الميليشيات تشكل أكبر تهديد منذ بروز تنظيم الدولة الإسلامية، ولكن على عكس داعش لا تملك الولايات المتحدة إستراتيجية متماسكة ضد الميليشيات.
وأصبحت هذه الجماعات المسلحة الآن في وضع يمكنها من السيطرة الكاملة على العراق ما لم تضع الولايات المتحدة بغداد أمام مسؤولية أكبر بشأن احتوائها وحماية الأفراد الأميركيين.
وقد امتنعت بعض الميليشيات ذات الخلفيات الأكثر عنفاً (مثل منظمة بدر وعصائب أهل الحق) عن مهاجمة القوات الأميركية، ويرجع ذلك في جزء كبير منه إلى دورها الكبير في الحكومة.
ومع ذلك، فإن الجماعات الثلاث المسؤولة عن معظم الهجمات -كتائب حزب الله، وحزب الله النجباء، وكتائب سيد الشهداء- تحتجز الآن الحكومة بأكملها كرهينة.
وعلى مدى سنوات سعت واشنطن إلى تحقيق مصالح تضيق باستمرار في العراق، وهي الآن تتلخص في مجرد دعم المهمة ضد داعش.
وقد أدى هذا التخفيف إلى جعل الوجود الأميركي غير فعال في نظر الأصدقاء والأعداء على حد السواء.
ومع ذلك، فإن الانسحاب من شأنه أن يخاطر بالمزيد من عدم الاستقرار، لذلك فإن التخبط هو الهدف الأكثر حكمة في السياق الحالي للاضطرابات الإقليمية والحملة الانتخابية الأميركية.
وعلى المدى الطويل ستستمر سياسة واشنطن بالعراق في التدهور دون إستراتيجية شاملة لردع إيران وميليشياتها. ورغم ذلك يقع العبء الآن على عاتق بغداد لإنقاذ هذه العلاقة، حيث أن واشنطن قد تقرر الانسحاب بدلاً من استثمار المزيد من الجهد في مثل هذا الشريك المزعج.