سياسة الغموض الهدامة بين مصر والسعودية

التحولات تفرض الاستعداد لنمط جديد من العلاقات المشتركة.
الأحد 2023/02/12
تحولات تفرض إعادة ترتيب الأولويات لا زعزعة العلاقات

الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي سعى لتطويق الأزمة مع السعودية بالنأي بنفسه وبالحكومة عن الحملة الإعلامية التي طالتها في وسائل الإعلام المصرية ومن بينها صحيفة الجمهورية الناطقة باسم المؤسسة العسكرية.. فتدخّل السيسي يظهر أن التوتر مع الرياض بلغ مستوى غير معهود وأنه قد يخرج عن السيطرة.

حاول الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي نزع فتيل ما تردد حول وجود أزمة بين بلاده والسعودية، وقال ما أفاد بنفيها وعدم صواب الاستنتاجات المترتبة عنها، وأن بعض المواقع ومنصات التواصل الاجتماعي السبب في اختلاقها، وهو حديث فضفاض حاولت القاهرة من خلاله منع تصاعد أزمة قد لا تتوقف عند ما ظهر من ملامحها في بعض وسائل الإعلام التابعة للبلدين من تراشق متبادل نادر.

حسنا فعل السيسي، فهذه هي المرة الأولى التي يتوقف عندها مسؤول كبير في مصر للنفي مباشرة، وهي عادة لم تكن معروفة في المحكات السابقة التي وصلت فيها الخلافات إلى مستوى القبول بالأزمات المكتومة والتعايش معها وتظل محاطة بغموض لأن كل طرف يثق بأن الخلاف مسألة عابرة. لكن قد يكون استمراره هذه المرة هداما.

في مرات سابقة، كانت الرسائل التي يوجهها كل طرف نحو الآخر من قبيل العتاب الذي يعكس درجة التقارب بينهما، وفي صورة غير مباشرة أيضا ولا تستغرق وقتا طويلا، لأن الدولتين تعرفان جيدا أن العلاقات بينهما إستراتيجية ولن يتم التفريط فيها.

وقتها كانت المنظومة العامة، السياسية والإعلامية، محددة بأطر تجعل كل طرف يعلم الحدود التي يتوقف عندها ولا يجب أن يتخطاها، غير أن المشكلة في الخلاف الجديد الناشب أساسا بسبب رؤية السعودية لشكل المساعدات التي تقدمها لمصر في أزمتها الاقتصادية أنه جاء في خضم تطوّرين مهمّين.

التطور الأول، يتعلق بأن الرياض قررت تغيير منهجها في آلية المساعدات، التي كان أعلن عنها وزير المالية محمد الجدعان، وهي لا تقصد بها القاهرة وحدها بل تنطبق عليها وعلى غيرها، انطلاقا من رؤية بدأت تعمل بها لتعظيم الفوائد المختلفة التي يمكن أن تتحصل عليها بهذه الورقة التي يتزايد دورها، بعد أن تأكدت من عقم الآلية السابقة أو أنها لم تحقق المرجوّ منها.

◙ تغيير آلية المساعدات،  التي أعلن عنها الجدعان،  لا تنطبق على القاهرة وحدها بل عليها وعلى غيرها
تغيير آلية المساعدات،  التي أعلن عنها الجدعان،  لا تنطبق على القاهرة وحدها بل عليها وعلى غيرها

والتطور الثاني، أن هناك تحولات في المشهد الإقليمي فرض على السعودية تبني حسابات قد تتباعد عن توجهات مصر في هذه المرحلة، وهذا لا يعني أن أحدهما على صواب والآخر على خطأ، ففي هذا النوع من القضايا تتوقف سياسات كل دولة حسب المرحلة وطموحات القيادة والوسائل التي يتم بها تحقيق الأهداف النهائية.

الواقع أن منهجية التحول الجذري والصواب والخطأ هنا غير واردة، لأن الأزمة ناجمة عن تبني الرياض لتصورات تبدو غير مألوفة للقاهرة ولم تستعد جيدا للتعاطي معها، سواء بالنسبة إلى الطريقة التي ستقدم بها المساعدات أو شكل الحسابات الجديدة التي لا تتقاطع مع تصورات القاهرة في الكثير من تفاصيلها.

ربما يكون مصدر الإزعاج لدى مصر من المفاجأة، ولدى السعودية من عدم تقدير القاهرة لطبيعة التحولات الجارية في الرياض، وتعيد بموجبها صياغة الكثير من الملفات، والتي ليس المستهدف منها إحراج مصر أو حشرها في مأزق اقتصادي.

يثق كل من يتابع تطور العلاقات بين البلدين أن السحابة التي تخيّم عليها الآن وتعرّض لها الرئيس السيسي بطريقة دبلوماسية ستمرّ كما مرّ غيرها من السحب، والفرق الوحيد بين ما مرّ أن الأخيرة لن تؤدي إلى عودة العلاقات إلى ما كانت عليه، أي عفا الله عما سلف والرجوع إلى المربع الأول.

فهذه المرة سوف تخلف وراءها شكلا جديدا للعلاقات على الطرفين تحديد أطره بوضوح وصراحة كبيرين، لأن العودة من دون دراسة أبعاد الأزمة ودروسها أو تفاهم شامل حول الأطر الجديدة سيجعلها تتأثر بأول اختبار لها في المستقبل، بالتالي تصبح الانعكاسات السلبية عرضة لأن تتكرر بوتيرة أسرع.

ساهم ترك بعض وسائل الإعلام ومواقع التواصل للعبث بها في إطالة مدة الاحتواء، وبدا دخول السيسي على الخط منحصرا في نزع الصفة الرسمية واستنكار ما تردّد عبر وسائل مصرية رسمية، لأن أحد المنابر الحكومية (جريدة الجمهورية) في القاهرة لم يكن ليجرؤ على نشر ما يمكن وصفه بـ”الإهانة” للسعودية قبل الحصول على ضوء أخضر من الجهة التي تدير دفة غالبية وسائل الإعلام في البلاد.

والملاحظ أن المقال الثاني الذي كتبه رئيس تحرير جريدة الجمهورية وحوى ما يشبه الاعتذار عمّا جاء في الأول، أنه لم يحدث الأثر الإيجابي المستهدف، وظل تأثير المقال الأول مخيما على أذهان كل من تابعوا تداعياته، ربما من هول الصدمة والجرأة، وربما لأن هذه الطريقة غير مألوفة في مصر، خاصة مع السعودية.

كان يمكن تجاوز إشكالية المقال الأول لرئيس تحرير جريدة الجمهورية لو نشر في موقع آخر أو صحيفة صغيرة، لكن اختيار الجمهورية التي أسسها تنظيم الضباط الأحرار في مصر بعد ثورة يوليو 1952 أكد أن اختيارها ليس جزافا، فالانتقادات السعودية على تويتر طالت المؤسسة العسكرية المصرية ودورها في الحياة السياسية وتدخلاتها الاقتصادية، والجمهورية هي الصحيفة الوحيدة التي أنشأها الجيش لتكون متحدثة باسمه بعد ثورة يوليو.

درجت مصر الرسمية في إدارة سياستها مع دول الخليج والسعودية خصوصا على الاحتفاظ بمسافة للعودة وعدم التمادي في الثأر، وبدا الإعلام أداة رئيسية فيها، وكانت هذه العملية تتم في السابق بطريقة متوازنة بما يمنع وصول الأمر إلى حد متدن في السب والقذف، وعندما ينشر مقال مثلا يحوي قدحا ينشر في اليوم التالي مقال يحوي مدحا.

لذلك احتفظت علاقات مصر بدول الخليج بعمقها وخصوصيتها والقدرة على الاحتواء سريعا، وبدت قواعد اللعبة مفهومة لكل جانب، عكس ما يحدث الآن، فقد مرت أسابيع ولم تعلن تفاصيل عن مكاشفة ومصارحة، وهو نوع من الانكار للأزمة، يشير إلى أن المسافات لا تزال متباعدة، أو أن هناك ارتياحا لهذا الوضع إلى حين يعيد كل طرف تموضعه بالطريقة التي يراها مناسبة للطقوس الجديدة.

هناك تحولات في المشهد الإقليمي فرض على السعودية تبني حسابات قد تتباعد عن توجهات مصر في هذه المرحلة

مهما كان سبب الأزمة لن تستطيع مصر تحمل تكاليف خصومة طويلة من السعودية، كما أن الأخيرة تدرك أن القاهرة لن تتخلى عنها إذا جرى الاعتداء على حرمة أراضيها من قبل إيران أو غيرها أو احتاجت إلى مساعدات عسكرية، حتى لو كانت تعتبر أن مصر لم تحقق تطلعاتها كاملة لها في حرب اليمن.

تعد العلاقات بين مصر والسعودية أشبه بالزواج الكاثوليكي، فقد يحدث خلاف وتراشق، وحروب بالوكالة (سابقا) ولم تصل إلى مستوى القطيعة التامة أو الصعوبة في المعاجلة، لكن كانت الأمور واضحة في حالتي السلام والخلاف إلى حد بعيد.

تكمن الخطورة حاليا من الغموض المتبع في مناقشة الأزمة، فالرئيس السيسي مرّ على هوامشها ولم يخض في العمق وكأنها غير موجودة، وهي مسألة مفهومة في اللقاءات العامة، ومن حيث أراد تصغير الأزمة وإرجاعها إلى تدخلات إعلامية مراهقة، أوحى أنها كبيرة بما أسبغه عليها من عبارات تؤكد أنها مختلقة.

علّمتنا سياسة الغموض المتبعة في بعض التفاعلات الإقليمية فكما أنها تكون بناءة في وضع الترتيبات لحل أزمة وتمرير روشتة، يمكن أن تكون هدامة أيضا إذا كانت الخطوط والفواصل فيها مبهمة ولا أحد يريد فك ألغازها، وهي نقطة يمكن من خلالها إعادة تصحيح المسارات بين القاهرة والرياض، لأن الغموض في هذه الحالة سيكون هداما.

4