سياسة إسرائيل في حربي غزة ولبنان بلا نهايات واضحة

لا تملك الحكومة الإسرائيلية الآن أي خطط رسمية بشأن ما بعد الحرب في قطاع غزة ولبنان، لكن الأمر المؤكد أنها تفضل المضي قدما في الخيار العسكري المفتوح والذي ستحسم وفق نتائجه كيفية التعامل مع الوضع لاحقا.
القدس - تصعّب القيود السياسية على الحكومة الإسرائيلية صياغة خطط رسمية لمرحلة ما بعد الحرب في قطاع غزة ولبنان. ويزيد هذا من احتمالات اعتماد البلاد على الضغوط العسكرية المفتوحة المفروضة على حركة حماس وحزب الله.
وبحسب تقرير نشر في مركز “ستراتفور” الأميركي للدراسات الإستراتيجية والأمنية، يفتح غياب سياسة محددة وواضحة، المجال أمام القوى اليمينية في إسرائيل للدفع بأجندتها في إعادة التوطين في غزة وتطبيق خطط التوسع في لبنان. ويخلق الأمر احتكاكا مع شركاء إسرائيل الدوليين الرئيسيين.
وبرزت مؤخرا خطة أعدّتها مجموعة من الجنرالات الإسرائيليين السابقين وكبار المسؤولين قبل أشهر لما بعد الحرب على غزة. وأطلق عليها “خطة الجنرالات”، وهي تهدف إلى إنهاء الحرب في القطاع بشروط إسرائيلية.
وتدعو الخطة إلى فرض “حصار شامل” في شمال القطاع، ومغادرة جميع المدنيين المنطقة، واعتبار جميع الأشخاص المتبقين في هذه المناطق العسكرية المغلقة مقاتلين أعداء، ووقف جميع المساعدات.
وتشمل الخطة أيضا عنصرا لما بعد الحرب يترك الجزء الشمالي من غزة تحت الاحتلال الإسرائيلي الدائم حيث تسعى تل أبيب إلى تشكيل هيئة حكم لا تشمل حماس. وتدعو الخطة إلى مثل هذه التكتيكات القاسية، حيث لا يزال زعيم حركة حماس يحيى السنوار فاعلا بعد سنة من العمليات العسكرية المكثفة في القطاع، ولم يتسنّ تحرير 101 رهينة إسرائيلية، ولم تضع الحكومة إستراتيجية ما بعد الحرب لغزة.
إذا أعلنت الحكومة أنها ستنسحب في النهاية من غزة أو لبنان، فستخاطر بخسارة دعم اليمين المتطرف، وبالتالي استقرارها
ومع استمرار التقدم البطيء للغزو الإسرائيلي للبنان، لم تقدم الحكومة الإسرائيلية خطة للحفاظ على منطقتها العازلة باستثناء إعلان واسع النطاق بأنها ستواصل اعتماد الضغط العسكري ضد حزب الله في لبنان إلى أن تتضاءل قدرات الحزب أو تدمر بشكل كبير.
ولم يجر تبني “خطة الجنرالات” بشكل رسمي من قبل الحكومة الإسرائيلية. لكن تقرير لوكالة أسوشيتد برس نشر في 14 أكتوبر الجاري نقل عن مصادر حكومية إسرائيلية أن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو يدرسها (جزئيا على الأقل).
ولا تزال الأهداف الرئيسية للحكومة الإسرائيلية في غزة واسعة النطاق وتشمل تدمير حماس، وهو هدف يصفه جل المحللين العسكريين والسياسيين بالمستحيل بسبب الانتشار الجغرافي الواسع للحركة وقدرتها على التجدد وقاعدتها الواسعة من الدعم الشعبي بين السكان الفلسطينيين.
ويلاقي الهدف انتقادات حتى من السياسيين الإسرائيليين، بمن فيهم قائد الجيش السابق بيني غانتس، الذي غادر الحكومة في يونيو، قائلا إن نتنياهو رفض صياغة خطة قابلة للتطبيق بعد الحرب.
وأعلنت إسرائيل رسميا في سبتمبر أن إنهاء هجمات حزب الله على شمال إسرائيل تعدّ هدفا حربيا. لكنها لم توضح خطة محددة لتحقيقها. وقالت سابقا إنها تريد تأسيس منطقة عازلة على الجانب اللبناني من الحدود لا يستطيع حزب الله والجماعات الفلسطينية المسلحة الأخرى مثل حماس العمل فيها، أي تأمين شمال إسرائيل وإنهاء هجمات حزب الله الصاروخية المتقطعة على البلدات الشمالية.
ومن المرجح أن تمنع القيود السياسية الحكومة الإسرائيلية من توضيح شروط النصر المحددة، وهو ما يدفعها بدلا من ذلك إلى مواصلة تنفيذ هذه السياسة عمليا ثمّ تحديدها بأثر رجعي.
وبينما تميل الحكومة الإسرائيلية إلى اليمين المتطرف، إلا أن عناصر يمين الوسط تعارض الاحتلال المفتوح في غزة ولبنان، نظرا إلى تاريخ البلاد الطويل والمثير للجدل في هذه المناطق. لكن الأحزاب اليمينية المتطرفة وأنصارها يدعمون هذا الخيار بشكل متزايد، ويطمحون إلى إعادة التوطين في غزة وتوسيع المستوطنات الإسرائيلية في جنوب لبنان لتأمين المناطق العازلة.
يمين الوسط يعارض الاحتلال المفتوح في غزة ولبنان، نظرا إلى تاريخ البلاد المثير للجدل في هذه المناطق
وإذا أعلنت حكومة نتنياهو أنها ستنسحب في النهاية من غزة أو لبنان، فستخاطر بخسارة دعم اليمين المتطرف، وبالتالي استقرارها. وستخسر أنصار يمين الوسط وتغذي المعارضة التي تستفيد من الإرهاق في زمن الحرب إذا قبلت الحاجة إلى احتلال عسكري طويل الأمد لهذه المناطق.
وتبرز سياسات رئيس الوزراء الإسرائيلي التي يعود تاريخها إلى العام 1990 أنه من المرجح أن تؤدي هذه القيود إلى تجنب الحكومة تحديد سياستها، وأن تسعى بدلا من ذلك إلى تغيير الحقائق على الأرض ببطء في غزة ولبنان لمنع أيّ من طرفي الحوار الداخلي من الشعور بأنه مهمش.
وفي سبتمبر الماضي، دعا الحاخام يتسحاق جينسبيرغ، وهو قومي ديني إسرائيلي بارز، إلى غزو لبنان واستيطان جنوبه. وكان أول زعيم يميني متطرف يدعو إلى ذلك علنا منذ اندلاع الحرب بين إسرائيل وحماس. ولا يزال هذا الموقف لا يحظى بشعبية بين جل الإسرائيليين، الذين يشعرون بالقلق من تكرار حرب العصابات التي خاضتها إسرائيل مع حزب الله من 1982 إلى 2000.
ودعت حركة “العودة إلى الوطن” اليمينية المتطرفة في نوفمبر 2023 إلى إعادة إنشاء المستوطنات اليهودية التي تقرر إخلاؤها من غزة في 2005. وكان وزير المالية اليميني المتطرف بتسلئيل سموتريتش ووزير الأمن القومي إيتمار بن غفير هما من الأبطال الصريحين لهذه السياسات.
وصرح وزير الدفاع يوآف غالانت، وهو من يمين الوسط في حزب الليكود، بأنه يعارض إعادة احتلال غزة إلى أجل غير مسمّى. حيث عايش المشاكل الأمنية والانتقادات الدولية التي تلت سيطرة إسرائيل على غزة من 1967 إلى 2005.
المتطرفون الإسرائيليون سيحاولون تعزيز أجنداتهم لإعادة الاستيطان في غزة وتطبيع بناء المستوطنات في جنوب لبنان دون سياسة محددة
وصنع نتنياهو مسيرة طويلة من التجاهل الهادئ لبنود اتفاقات أوسلو والقانون الدولي من خلال الموافقة على المستوطنات في الضفة الغربية دون الإعلان صراحة عن سياسة السيطرة الدائمة على هذه المناطق. وتوصف هذه السياسة بتغيير “الحقائق على الأرض” للتأثير على التسوية النهائية المتوقعة بين الفلسطينيين والإسرائيليين.
وستواصل إسرائيل في غزة الميل نحو احتلال عسكري مفتوح يشمل السيطرة على الحدود مع مصر وغزة، إضافة إلى العمليات العسكرية المتكرّرة مع قوات بحجم لواء. وهذا ما يصعّب الانتقال الرسمي بعد الحرب إلى السيطرة الفلسطينية في القطاع.
وقد تختار الحكومة الإسرائيلية التركيز على السيطرة الفعلية على طرق النقل الرئيسية بين شمال غزة وجنوبها والحدود المصرية في محاولة للضغط على الإمدادات التي قد تصل إلى حماس عوضا عن وضع القطاع تحت سيطرة السلطة العسكرية الإسرائيلية (مكتب تنسيق الحكومة في المناطق) التي تسيطر على الضفة الغربية.
ومن المرجح أن تواصل إسرائيل في الأثناء إستراتيجيتها للغارات والانسحاب باستخدام قوات بحجم لواء يتراوح قوامها من ألف إلى 4 آلاف جندي، بدلا من الوحدات الأصغر التي تميز عملياتها العسكرية في الضفة الغربية.
وبينما ستشبه هذه الإستراتيجية احتلال إسرائيل للضفة الغربية، إلا أنه من غير المرجح أن تعرّفها الحكومة قانونيا بالاحتلال، وتحدّدها بدلا من ذلك على أنها مواصلة لعمليات قتالية ضد التمرد المستمر الذي من المتوقع أن يحتفظ بقوته على المدى الطويل.
لكن هذه الإستراتيجية ستصعّب انتقال السلطة بعد الحرب في غزة، فمن غير المرجح أن توافق حماس على وقف إطلاق النار دون توسيع حريتها في غزة. كما لن توافق السلطة الفلسطينية على حكم غزة دون تعهد إسرائيل بالحد من العمليات القتالية والتفاوض على حل الدولتين الذي تغادر القوات الإسرائيلية بموجبه غزة.
وستتجنب الحكومة الإسرائيلية وضع إستراتيجية شاملة لإنهاء هجمات حزب الله في لبنان. وستترك الضغط العسكري المفتوح ضد الجماعة المسلحة بدلا من ذلك سياسة أساسية لها. والمرجح أن تبقي إدارة نتنياهو أهدافها الحربية في لبنان واسعة، مع التركيز على أهداف يصعب قياسها مثل إضعاف “قدرات” حزب الله بدلا من السيطرة على الأراضي لتجنب تكرار فشل إسرائيل في تدمير حزب الله خلال 2006، وإدراكا من الحكومة لعجزها عن الحفاظ على منطقتها العازلة السابقة.
وسيصاحب هذا الهدف التدمير واسع النطاق للهياكل الأساسية العسكرية والمدنية في جنوب لبنان لجعل المنطقة غير صالحة لتمركز هذه القوات. كما ستمنح مثل هذه الإستراتيجية الحكومة الإسرائيلية مرونة في المفاوضات الدبلوماسية المحتملة مع حزب الله حول وضع الحدود وتجنب تنفير العناصر الرئيسية في ائتلافها. لكنها تلزم إسرائيل أيضا بصراع عسكري مفتوح في جنوب لبنان مع حزب الله حتى حل دبلوماسي أو انهيار معنويات أحد الأطراف.

وسيحاول المتطرفون الإسرائيليون تعزيز أجنداتهم لإعادة الاستيطان في غزة وتطبيع بناء المستوطنات في جنوب لبنان دون سياسة محددة. وسيزيد هذا من توتير علاقات إسرائيل مع الولايات المتحدة والدول العربية.
وبما أن الحكومة الإسرائيلية لن تفصل سياستها الاستيطانية في غزة أو لبنان، فمن المرجح أن يعمل أنصار اليمين المتطرف والوزراء فرديا على تعزيز هدف المستوطنات في كلا المنطقتين. ومن المرجح أن تظهر المستوطنات غير القانونية في القطاع، وخاصة في المناطق العسكرية المغلقة مثل شمال غزة، حيث تُعتمد سياسة الأرض المحروقة.
وقد يقيم أنصار المستوطنات بؤرا استيطانية غير قانونية في هذه المناطق. ويعني غياب أيّ سياسة حكومية واضحة لإزالتها أنهم سيطبّعون مع عودة المستوطنين اليهود إلى غزة، مما قد يؤدي إلى التهجير الدائم للفلسطينيين من هذه المناطق.
وبينما يبقى من المرجح أن تظل المستوطنات في جنوب لبنان غير شعبية بين معظم الإسرائيليين على المدى القريب، سيحاول الحزبيون تطبيع جنوب لبنان كهدف مستقبلي للغزو والاستيطان في الخطاب العام، خاصة مع استمرار الحرب في لبنان.
وقد يستغرق مسعى أنصار اليمين المتطرف إقامة مستوطنات غير قانونية في جنوب لبنان سنوات، وستصبح أكثر احتمالا في الصراعات المستقبلية بين إسرائيل وحزب الله. وسيسبب احتمال إنشاء مستوطنات جديدة في غزة ولبنان توترا دبلوماسيا بين إسرائيل وشركائها في الخارج بغض النظر عن الوتيرة، حيث سيعارضون هذا التوجه بشدة. وسيتجلى التوتر في المزيد من العقوبات الأميركية ضد المستوطنين الإسرائيليين والمزيد من التباطؤ في التطبيع بين إسرائيل والدول العربية مثل المملكة العربية السعودية.
واستغرق التطبيع مع فكرة المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية وقطاع غزة سنوات في المجتمع الإسرائيلي، حيث افترض العديد من السياسيين والمواطنين الإسرائيليين في البداية أن مصير هذه المستوطنات سيكون تفكيكها أو مقايضتها مقابل معاهدات سلام نهائية مع جيرانهم العرب. ثم خلص جل الإسرائيليين، بعد عقود من التوسع والتحول في الأيديولوجيا العامة، إلى أن المستوطنات، وخاصة في الضفة الغربية، ستكون دائمة وجزءا من إسرائيل في أيّ اتفاق نهائي مع الفلسطينيين.
وحاول المتطرفون الإسرائيليون بالفعل اقتحام غزة لإقامة مواقع أمامية، لكن القوات الإسرائيلية أزالتها بسبب العمليات القتالية المكثفة هناك. لكنها كانت أكثر تراخيا في وقف توسيع المستوطنات غير القانونية في الضفة الغربية في ظل حكومة نتنياهو.
وألغت الحكومة الإسرائيلية أجزاء من قانون الإخلاء لسنة 2005 الذي سحب المستوطنات من الضفة الغربية وغزة، مما سمح بإعادة إنشاء المستوطنات التي تقرر تفكيكها سابقا في الضفة الغربية.