سياسات ترامب تعرض النظام الدولي الليبرالي للخطر

الأولوية للمصالح الأميركية على حساب التعددية وهياكل الحوكمة.
الأربعاء 2025/03/05
لكل مرحلة أدواتها

التقلبات المتزايدة في دوائر السياسة الخارجية الأميركية تشير إلى تحول كبير في الدور العالمي للولايات المتحدة، ما يشكّل تحديا للنظام العالمي الليبرالي الذي طالما دافعت عنه واشنطن.

واشنطن - في تحول صادم للأحداث، دعمت الولايات المتحدة روسيا مرتين في التصويت في الأمم المتحدة بمناسبة الذكرى الثالثة للغزو الروسي لأوكرانيا. ولم تقتصر هذه الخطوة الأولى من نوعها منذ عقود من جانب الولايات المتحدة على معارضة قرار صاغته أوروبا بهدف إدانة الغزو، بل تضمنت أيضا قرارا لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، صاغته الولايات المتحدة نفسها، يدعو إلى وقف الصراع ولكن دون أي انتقاد لروسيا.

ويرى المؤلفان راؤول ميشرا وبيتر برايان م. وانج في تقرير نشره موقع مودرن بوليسي أن نهج الرئيس الأميركي دونالد ترامب بشأن الصراع بين روسيا وأوكرانيا يتناقض بشكل حاد مع بقية الغرب وحلفائه في حلف شمال الأطلسي مما يشير إلى انقسام عميق بين الولايات المتحدة وأوروبا، والذي ستكون له عواقب بعيدة المدى.

وشكلت عودة ترامب إلى البيت الأبيض مجموعة جديدة من التحديات للاستقرار العالمي والتوازن الإستراتيجي. من سياسة التجارة الأميركية أولا، وشعار “لنجعل أميركا عظيمة مرة أخرى”، وفرض التعريفات الجمركية على الجيران والأصدقاء والمنافسين على حد سواء، إلى خطة غزة أحادية الجانب والمتقلبة، والابتعاد عن المؤسسات متعددة الأطراف العالمية، والتهرب من الالتزامات الأمنية طويلة الأمد مع أعضاء حلف شمال الأطلسي، جلب ترامب 2.0 نوعا من تسونامي الدبلوماسية إلى العالم، مما أجبر البلدان في جميع أنحاء العالم على اتخاذ تدابير وقائية مضادة.

تغييرات

وتشير التزامات ترامب المتغيرة إلى التآكل الوشيك للنظام الدولي الليبرالي ومبادئه الأساسية. وبينما يزعم البعض أن هذه التطورات جاءت كرد فعل على صعود الصين وتعزيز القوة الاقتصادية والعسكرية الأميركية، فإنها تشير إلى أن الولايات المتحدة نفسها في مهمة لتفكيك النظام الدولي الليبرالي، الذي كانت تزعم هي نفسها بأنها وصية عليه وزعيمته.

وبدلا من الدفاع عن نظام قائم على القواعد، تعطي الولايات المتحدة الأولوية للقومية الاقتصادية والانسحاب الإستراتيجي من الأصدقاء، مما يجعل مستقبل الحكم العالمي غير مؤكد. وتمثل حرب التعريفات الجمركية التي شنها ترامب إعادة تفكير أساسية في الأمن الاقتصادي الأميركي.

وتقليديا، افترض الفكر الاقتصادي الليبرالي أن الترابط الاقتصادي يقلل من الصراع ويعزز الاستقرار. ومع ذلك، فإن سياسة التجارة الأميركية أولا تعيد صياغة الاعتماد الاقتصادي باعتباره مسؤولية، مما يشكل تحديا للمبادئ الأساسية للتجارة الدولية الحرة والمفتوحة.

ومن خلال تأطير التجارة كمكون للأمن القومي، تبتعد الولايات المتحدة عن افتراض أن التحرير الاقتصادي يعزز السلام والاستقرار، وتعتنق بدلا من ذلك نهجا محصلته صفر يعطي الأولوية للسيادة الاقتصادية الوطنية على التجارة متعددة الأطراف الليبرالية الحرة والمفتوحة.

ويوضح انسحاب ترامب من مؤسسات حقوق الإنسان العالمية ــ مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة والمفوضية العليا للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين ــ بشكل أكبر التراجع عن الحوكمة العالمية والتحول نحو نهج السياسة الخارجية القائم على المعاملات وقصر النظر، حيث تعطي الولايات المتحدة الأولوية للمنافع المادية على أدوارها القيادية العالمية التي ادعى أسلاف ترامب أنها تضطلع بها.

◙ ترامب يعطي الأولوية للقومية الاقتصادية والانسحاب الإستراتيجي بدلا من الدفاع عن نظام قائم على القواعد

ويتجلى هذا التحول بشكل خاص في إصرار ترامب على الفوائض التجارية والنفوذ الاقتصادي على تنمية القوة الناعمة والنفوذ الدبلوماسي. ويتجلى إعطاء الأولوية للمصالح الأميركية على حساب الحلفاء في فرض التعريفات الجمركية ــ 25 في المئة على الصادرات الكندية والمكسيكية و10 في المئة على الواردات الصينية.

وفي حين تبرر هذه التدابير رسميا مخاوف مثل الهجرة غير الشرعية والاتجار بالفنتانيل، فإنها تعكس أيضا إستراتيجية أوسع نطاقا تهدف إلى معالجة اختلال التوازن التجاري ومكافحة الصعود الاقتصادي للصين. ونظرا لأن كندا والمكسيك والصين من بين أكبر مصادر الواردات الأميركية، فإن هذه السياسات تشير إلى إستراتيجية أوسع نطاقا للانفصال الاقتصادي بدلا من مجرد إجراءات عقابية.

ويثير التوسع المحتمل لهذه التعريفات الجمركية المزيد من المخاوف. فخلال حملته الانتخابية، حذر الرئيس ترامب من أن أوروبا “ستدفع ثمنا باهظا” لفشلها في شراء ما يكفي من السلع الأميركية. وعلى نحو مماثل، قد يواجه الشركاء الرئيسيون للولايات المتحدة في آسيا ــ فيتنام واليابان وكوريا الجنوبية وتايلاند والهند ــ قيودا تجارية أيضا.

وتشير بيانات التجارة العالمية المتكاملة لعام 2022 إلى أن هذه البلدان تحتفظ بفوائض تجارية كبيرة مع الولايات المتحدة، مما يجعلها أهدافا محتملة للتدابير الاقتصادية المستقبلية.

وتظل الجدوى طويلة الأجل لهذه التدابير موضع شك في إطار التزامات الولايات المتحدة تجاه منظمة التجارة العالمية. وبموجب قواعد منظمة التجارة العالمية، لا بد أن تظل زيادات التعريفات الجمركية ضمن الالتزامات المقيدة. ونظرا لنظام التجارة الليبرالي تاريخيا في الولايات المتحدة، فإن تجاوز هذه الالتزامات من شأنه أن يشير إلى تحول أوسع نطاقا بعيدا عن الامتثال لمنظمة التجارة العالمية، مما يثير شبح حرب تجارية عالمية.

وقد تكون عواقب مثل هذه الحرب التجارية عميقة. وقد وجدت دراسة أجرتها منظمة التجارة العالمية حول الحرب التجارية السابقة بين الولايات المتحدة والصين أنها أدت إلى تحويل تجاري كبير وإعادة تنظيم سلاسل التوريد في شرق آسيا.

وإذا تصاعدت التوترات بين الولايات المتحدة والصين بشكل أكبر وسعتا إلى فصل سلاسل التوريد بشكل عدواني، فقد يتحول المشهد الاقتصادي بشكل كبير، مما يؤدي إلى تعطيل طرق التجارة العالمية وتغيير أنماط الترابط التجاري. وفي حين قد تستفيد بعض الأطراف الثالثة من تحويل التجارة، فإن هذه المكاسب ستكون قصيرة الأجل. إذ إن أي مزايا مستمدة من إعادة تشكيل سلسلة التوريد يمكن تعويضها إذا استمرت التوترات الجيوسياسية في التصاعد. ومن شأن زيادة التدقيق الأميركي في سلاسل التوريد لمنع التحايل على القيود التجارية أن تزيد من تعقيد ديناميكيات التجارة العالمية.

تحول إستراتيجي

وبعيدا عن التجارة، تشير الولايات المتحدة إلى تحول إستراتيجي في الالتزامات الأمنية. ففي بيان صدر مؤخرا، أكد وزير الدفاع الأميركي بيت هيجسيث أن الدول الأوروبية لا بد أن تتحمل مسؤولية أكبر عن أمنها، مما يجعل من الواضح أن الولايات المتحدة غير راغبة في معالجة التهديدات العالمية بمفردها.

وفي حين لا يشير هذا إلى التخلي الكامل عن حلف شمال الأطلسي، فإنه يعكس الإحباط المتزايد إزاء ديناميكيات تقاسم الأعباء في التحالف، وهو الشعور الذي تردد صداه في الإدارات الأميركية السابقة، من بوش الابن إلى جو بايدن.

ويحدث هذا التحول الواضح جنبا إلى جنب مع تطور الأطر الأمنية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ. وتتوسع الترتيبات الأمنية الصغيرة مثل كواد، وأوكوس، وتي.أس.دي، وجافوس، وجاروكوس، في حين أصبحت الاتفاقيات الثنائية مثل تلك المبرمة بين الفلبين واليابان وكوريا الجنوبية أكثر بروزا.

وتشير هذه الهياكل الأمنية المتطورة إلى إعادة هيكلة أوسع لتحالفات الدفاع العالمية، وإن كان ذلك بطريقة مجزأة لم تصل بعد إلى مستوى التماسك المؤسسي لحلف شمال الأطلسي.

ولطالما درس خبراء العلاقات الدولية والدبلوماسية كيف ولماذا تتصرف الدول وتتفاعل وتمارس القوة كما تفعل في السعي لتحقيق مصالحها الوطنية. ويمتد هذا التحليل إلى كيفية تنظيم الدول لنفسها من خلال المؤسسات والمبادئ التوجيهية، وتشكيل ما يسمى بالنظام الدولي بشكل جماعي.

 إليزابيث إيكونومي: الصين تعمل بنشاط على تحويل النظام الدولي وضمان مركزيتها مع محو القيم الغربية من المؤسسات العالمية.
 إليزابيث إيكونومي: الصين تعمل بنشاط على تحويل النظام الدولي وضمان مركزيتها مع محو القيم الغربية من المؤسسات العالمية.

واليوم، تظل المنافسة بين القوى العظمى قوة مركزية في تشكيل الديناميكيات العالمية. ويعيد التنافس النظامي بين الولايات المتحدة والصين تشكيل النظام الدولي بشكل أساسي، وإن لم يكن بالطريقة التي تشير إليها السرديات السائدة.

وفي مقال رأي في مجلة فورين أفيرز بعنوان “النظام البديل للصين”، تزعم الباحثة إليزابيث إيكونومي أن الصين تعمل بنشاط على تحويل النظام الدولي، وضمان مركزيتها مع محو القيم الغربية من المؤسسات العالمية.

ورغم إقرارها بالحاجة إلى الإصلاح، فإنها تشكك في قدرة الصين ونواياها في قيادة مثل هذا التحول. وبدلا من ذلك، تدعو الولايات المتحدة وحلفاءها إلى تقديم بديل قائم على “الانفتاح والشفافية وسيادة القانون والمساءلة الرسمية” ــ المبادئ التي تشكل السمات المميزة للديمقراطيات السوقية في العالم.

وتشير التطورات الأخيرة إلى أن الولايات المتحدة، التي يطلق عليها حامية النظام الدولي الليبرالي، تبدو محبطة بشكل متزايد إزاء هذه المبادئ، وتعمل بنشاط على تفكيك النظام الدولي الليبرالي دون تقديم بديل قابل للتطبيق.

والواقع أن انسحاب ترامب من مؤسسات مثل منظمة الصحة العالمية، واتفاقية باريس للمناخ، والمفوضية العليا للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، ومجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، إلى جانب سياسته التجارية “أميركا أولا” والعقوبات المفروضة على المحكمة الجنائية الدولية، تؤكد التحول نحو إعطاء الأولوية للمصالح الأميركية على حساب التعددية وهياكل الحوكمة العالمية.

وتتحدى سياسة التجارة الأميركية أولا، على وجه الخصوص، الفرضية المؤسسية الليبرالية القائلة بأن الترابط الاقتصادي المتبادل يعزز الاستقرار والأمن العالميين. وبدلا من ذلك، فإنها تضع التبعية الاقتصادية في إطار الضعف الإستراتيجي، وتدعو إلى تدابير حمائية مثل التعريفات الجمركية، وإعادة سلاسل التوريد إلى الداخل، والسياسة الصناعية للحد من الاعتماد على الاقتصادات الأجنبية.

وإذا استمرت الولايات المتحدة على هذا المسار، فإنها تخاطر ليس فقط بتنفير الحلفاء ولكن أيضا بتقويض المؤسسات التي ساعدت في بنائها ذات يوم. وقد يجد العالم نفسه قريبا في عصر لا يحدده الحكم العالمي التعاوني بل تحدده ديناميكيات القوة المجزأة والمعاملاتية، حيث لم يعد الاستقرار مضمونا، وأصبحت تكاليف الانسحاب واضحة بشكل متزايد.

7