سوريا ما بعد الأسد.. الفروسية تعود إلى أهلها

جيل جديد من الفرسان الذين يمتطون صهوة الحرية في ميادين ديماس.
الثلاثاء 2025/05/20
الفوز لمن يستحق

في ميادين ديماس قرب دمشق، يستعيد فرسان سوريون أحلامهم في رياضة طالما احتكرتها عائلة الأسد، فبعد عقود من القمع والتمييز، تتنفس الفروسية حريتها، وتتحول الخيول التي كانت رمزًا للسلطة إلى أدوات أمل لجيل جديد يسابق نحو التغيير بثقة وشغف بآمال التتويج في البطولات المحلية والدولية.

دمشق - يواظب الشاب زياد أبوالذهب منذ أسابيع على تدريباته في نادٍ سوري للفروسية، استعدادًا للمشاركة في مسابقة محلية، آملاً في تحقيق الفوز في رياضة احتكرتها عائلة الأسد والمقرّبون منها على مدى عقود.

يقول أبو الذهب: “قبل الإطاحة ببشار الأسد، كانت النتائج محسومة للفرسان المقرّبين من السلطة، وكانت أقصى طموحاتي تحقيق المركز الثالث، أما اليوم، فأستطيع أن أطمح إلى المركز الأول، وأحقق نتائج جيدة مع حصاني الجديد.”

ويتابع الفارس البالغ من العمر 25 عامًا، بينما كان يسير إلى جانب حصانه البني في أرض رملية قرب مضمار السباق في النادي العام للفروسية في الديماس قرب دمشق: “شروط المنافسة مع العائلة الحاكمة كانت مستحيلة، لأن إمكانيات خيولنا المحلية متواضعة للغاية مقارنة بخيولهم الأوروبية.”

كانت الفروسية جزءًا من نفوذ العائلة الحاكمة، بدءًا من باسل الأسد في التسعينات، وصولًا إلى ابنة شقيقه شام

عند مدخل النادي، يرتفع تمثال لباسل الأسد، شقيق بشار، الذي قضى في حادث سير عام 1994، وقد غُطِّي وجهه بالعلم السوري الجديد الذي اعتُمد بعد سقوط النظام في ديسمبر الماضي.

عرفت رياضة الفروسية في سوريا قفزة نوعية في التسعينات، بعدما اتخذها باسل الأسد هواية مفضلة، وبرز اسمه في مجالها. وشارك النجل البكر لحافظ الأسد في المسابقات المحلية والدولية، وعُرف بـ”الفارس الأول” في سوريا.

أسهمت شعبية باسل ومكانته السياسية في تسليط الضوء على هذه الرياضة وتوسيع انتشارها. ومنذ ذلك الحين، ارتبطت الفروسية ارتباطًا وثيقًا باسمه، وباتت جزءًا من الهوية الرياضية الرسمية للدولة.

وامتدّ حضور الفروسية إلى الجيل التالي من العائلة، ولاسيما من خلال شام، ابنة ماهر، شقيق باسل وبشار، التي شاركت في بطولات دولية وحققت مراكز متقدمة. وقد عكست مشاركاتها، التي كانت تحظى باهتمام إعلامي، ارتباط هذه الرياضة بالعائلة الحاكمة آنذاك، كأداة ترويجية للنظام، مثيرةً للجدل.

أطلق النظام السابق اسم “الباسل” على عدد كبير من المؤسسات العامة والمرافق الحيوية، من مستشفيات وساحات إلى منشآت رياضية وتعليمية، تكريسًا لرمزيته. كما نُصبت تماثيل لباسل الأسد ممتطيًا جواده في أكثر من مدينة، ما عزّز الربط بين الفروسية والعائلة الحاكمة، حتى غدت هذه الرياضة امتدادًا لحضور آل الأسد في الفضاء العام.

ودفع ارتباط الفروسية بعائلة الأسد، واحتكارها لها، والد الفارسة مُنانا شاكر (26 عامًا) إلى منعها من تحقيق حلمها في مزاولة هذه الرياضة حتى سقوط النظام.

اختفى البطل من الورق
اختفى البطل من الورق

وتقول شاكر، بينما تلاعب فرسها البيضاء “مريانا”: “منعني والدي من ممارسة الرياضة خوفًا من العائلة الحاكمة، وكان دائمًا يخبرني بأن المنافسة معهم مستحيلة.”

تقبّل مُنانا فرسها التي تصهل بصوت حنون، وتنصاع بين يديها في حلبة التدريب، قبل أن تتابع: “لم يكن والدي يرغب في أن نختلط بأبناء عائلة الأسد نهائيًا. أخبرني بقصة الفارس الذي سُجن بعد أن تفوق على باسل الأسد، ولم يشأ أن يعرّضني للخطر.”

ذاع صيت الفارس عدنان قصار مطلع التسعينات، حين تفوّق على باسل الأسد في إحدى البطولات، في واقعة تحوّلت لاحقًا إلى إحدى أكثر القصص إثارةً للجدل في الأوساط السورية.

وينسب إلى عائلته الفضل في تأسيس نادي الفروسية في منطقة الديماس بريف دمشق، فهو ينحدر من عائلة احترفت الفروسية منذ الصغر.

وخلال مسيرته المهنية، دأب قصار على المشاركة في العديد من البطولات المحلية والدولية، وأثبت جدارة وكفاءة منقطعتي النظير، وقاد المنتخب السوري نحو إنجازات بارزة، كان أبرزها الفوز بلقب بطولة البلقان للفروسية عام 1991.

فرسان وخيول مستعدون
فرسان وخيول مستعدون

وفي عام 1992، كان قصار قائد المنتخب السوري للفروسية، وشارك إلى جانب باسل الأسد في دورة ألعاب البحر المتوسط. لكن تحت الضغط، اضطر باسل إلى الانسحاب، ليتولى قصار زمام الأمور.

واتسم أداء قصار في الشوط الثاني من البطولة بالمهارة والحرفية، ما أدى إلى تغيير مسار المنافسة وترجيح كفة الفوز لصالح المنتخب السوري.

ورغم تتويج سوريا ببطولة تلك الدورة، لم يرق للابن البكر لحافظ الأسد تصدر قصار وحصده اللقب، فدفعت الغيرة إلى حرمانه من الاحتفاء، وسُجن بعد عودته إلى البلاد متوجًا بالكأس.

واعتُقل قصار عام 1993 من دون محاكمة، بتهمة محاولة اغتيال باسل الأسد، بينما اعتبر كثيرون أن السبب الحقيقي كان تفوّقه عليه في ميدان الفروسية. وقد قضى أكثر من عقدين في السجن، قبل أن يُفرج عنه عام 2014 بمرسوم رئاسي.

تُضيف مُنانا: “ابتعدتُ عن هذه الرياضة طويلًا، لكن حان وقت العودة بقوة. أنا الآن من عائلة شاكر، ولستُ من عائلة الأسد.”

خلال التحضير لبطولة محلية، يجهّز المدرب شادي أبوالذهب (48 عامًا) خيولًا هولندية وألمانية كانت في السابق حكرًا على عائلة الأسد، وقد تفوقت على الأداء المحلي للمنافسين الآخرين.

ويشرف على نحو 240 رأس خيل في منشأة مخصصة لتربيتها وتدريبها بمنطقة الديماس قرب دمشق، لافتًا إلى أن “نحو أربعين فرسًا وخيلًا كانت مخصصة لعائلة الأسد، ولم يكن يُسمح لأحد بالاقتراب منها.”

مهارة عالية
مهارة عالية

انتقلت قبضة العائلة على هذه الرياضة إلى الجيل التالي، ومنها شام، ابنة ماهر الأسد، التي اعتادت التنافس في البطولات المحلية والدولية، وتحظى بتغطية إعلامية واسعة.

وقد أثار هذا الاهتمام الإعلامي جدلًا، إذ رأى النقاد أنه كان أداة دعائية للنظام.

ويلاحظ المدرب إقبال وجوه جديدة على التسجيل والمشاركة في هذه الرياضة منذ الإطاحة بالأسد، مضيفًا: “لدينا مهارات جديدة نكتشفها بشكل يومي، وأطفال متحمسون… صار لدينا عدد كبير من الفرسان الطامحين إلى المنافسة والألقاب.”

تخرج إلى الحلبة الفرس “توبسي”، التي اعتادت شام الأسد ركوبها، لكن اليوم يمتطيها شاب في العشرين من عمره، يقفز بها من حاجز إلى آخر برشاقة.

ويشجع المدرب صلاح الأحمد (52 عامًا) ابنه جواد، الذي حقق حلمه أخيرًا بركوب “توبسي”، وتدمع عيناه بعدما أنهى جولة محلية كاملة من دون أخطاء.

ويقول الوالد بفخر: “هذا ابني على توبسي التي كانت تمتطيها شام الأسد. كان يحلم بأن يلمسها أو يمسح على رأسها، لكن في العهد الجديد، صارت الفرس معه، وربح بها مباراتين… إنه حلم يتحقق.”

16