سفينة "فونيسيا" تتعقب رحلة القرطاجيين من تونس إلى العالم الجديد

مغامرون يواجهون رياح المحيط الأطلسي بحثا عن المكتشف الحقيقي للقارة الأميركية.
الثلاثاء 2019/10/01
تحديات مناخية

المصادر التاريخية القديمة تقول إن الإيطالي كريستوفر كولومبس هو المكتشف الأول للقارة الأميركية لكن فريقا جديدا يعتقد أن القرطاجيين سبقوه بنحو ألفي سنة في رحلاتهم البحرية ما جعلهم يبحثون في مؤيدات تثبت أن ملوك البحار في العصر القديم وأسياد التجارة في البحر المتوسط هم أوائل من وطأوا القارة الجديدة.

تونس - على حافة أطلال ميناء مدينة قرطاج الأثرية، يأمل المغامرون فوق سفينة “فونيسيا” إلى إعادة اكتشاف العالم الجديد، في محاكاة لرحلة يُعتقد أن الفينيقيين القدامى كانوا سبّاقين إلى القيام بها قبل الرحلات الاستكشافية للبحار الإيطالي كريستوف كولومبس.

يقول المغامرون وعددهم 12 من عدة جنسيات على غرار إنكلترا وأميركا ونيوزلندا ولبنان والمكسيك وتونس، إن السفينة ذات الألواح الشراعية التي تستعد لشق المحيط الأطلسي هي نسخة طبق الأصل لسفن الملاحة القرطاجية القديمة، وقد صُنعت في جزيرة أرواد في طرطوس من سوريا، باعتماد تقنيات ومواد البناء التقليدية واستنادا على حطام سفينة جول فيرن 7، التي يعود تاريخها إلى العام 600 قبل الميلاد، وفق ما توصّل إليه باحثون وعلماء الآثار في جامعة “آكس أون بروفانس” الفرنسية.

السفينة التي يقدر وزنها بـ50 طنا ويبلغ طولها 20 مترا وارتفاعها 15 مترا، قامت بأول رحلة لها حول أفريقيا بين 2008 و2010.

يقول قبطان السفينة الضابط السابق في البحرية الملكية البريطانية فيليب بيل، “كنت مسؤولا عن إبحار السفينة خلال عامين بين 2008 و2010 في أفريقيا. والآن نحن نغادر من قرطاج في رحلة تحاكي رحلة الفينيقيين قبل اكتشاف كريستوف كولومبس. نريد أن نثبت أن القرطاجيين كانوا سبّاقين في الوصول إلى الأراضي الأميركية”.

ذاع صيت الفينيقيين الذين قدموا من الشرق (أرض لبنان) وأسسوا مدينة قرطاج الشهيرة في تونس عام 814 قبل الميلاد، كملوك البحار في العصر القديم وأسياد التجارة في البحر المتوسط حتى سقوط إمبراطورية قرطاج عام 146 قبل الميلاد بعد حروب طاحنة ومشهودة مع القوة الصاعدة روما.

12 مغامرا من عدة جنسيات يجوبون الأطلسي على سفينة شبيهة بسفينة يعود تاريخها إلى العام 600 قبل الميلاد

وبيل من أشدّ المدافعين عن نظرية وصول الفينيقيين الذين ملكوا أكبر قوة بحرية في تلك الفترة، إلى السواحل الأميركية قبل نحو ألفي عام من رحلة كريستوف كولومبس عام 1492.

ومع أن باحثين وعلماء مثل مارك ماكناماين أستاذ الأركيولوجيا بجامعة “مونت هوليوك” بماساشوسيت، وسيروس غوردون مدير الدراسات المتوسطية بجامعة برانديس الأميركية، قد أثبتوا وجود مسكوكات وأشكال خزفية فينيقية في مناطق بالأمازون، لم ترق هذه الاكتشافات إلى مرتبة الدليل العلمي القاطع على قدوم بحارة فينيقيين إلى سواحل القارة الأميركية. لكن بيل يرفض دحض هذا الاحتمال، معتقدا، أن القطع الأثرية التي تمّ العثور عليها يفترض أن تعزّز من وجود حقائق تاريخية أخرى.

وتنطلق فكرة محاكاة الرحلة من احتمال أن الرحلة الأصلية حدثت قبل نحو 600 عام من ميلاد المسيح.

يقول القبطان، “أعلم أن العلماء عثروا على قطع أثرية تعود إلى الحضارة القرطاجية وجدت بأميركا كالقطع النقدية الصغيرة، كانوا يروّجون دائما على أنها قد تكون وقعت سهوا من أحدهم، ليس هناك دليل قطعي يدافع عن نظريتنا بأسبقية القرطاجيين في اكتشاف أميركا”.

ويضيف بيل، “أشعر بأن لأمر غريب بعض الشيء، لأن علماء الجغرافيا اليونانيين قالوا، إن القرطاجيين كان لديهم 300 مستعمرة في الجانب الشرقي للمحيط الأطلسي، وحتى إن اعتبرنا الرقم مبالغا فيه، نتحدث مثلا عن 100 مستعمرة، حتما خلال الرحلات اليومية إلى مستعمراتهم، كانوا جاهزين لقطع مسافات أطول في الأطلسي، نظريّا كان سيسهل عليهم فعل ذلك”.

ويتابع بيل بكل ثقة، “أنا أؤمن جدا بوصولهم قبل كولومبوس، وأؤمن أنّ هناك دليلا علميا يثبت ذلك ولم نجده بعد، نريد أن نكشف عبر الرحلة الدور الدقيق الذي لعبه القرطاجيون في حضارة أوروبا القديمة”.

تعدّ قرطاج الحقبة الأهم في تاريخ تونس القديم، كونها امتدت على فترة طويلة كقوة إمبراطورية في حوض المتوسط قبل أن تتحوّل لاحقا إلى مقاطعة رومانية، ولكنّ المؤرخين والباحثين الأركيولوجيين في تونس لم يتوصلوا إلى إثباتات علمية لأسبقية القرطاجيين في الوصول إلى السواحل الأميركية برغم أسطولهم البحري الضخم.

يقول فيصل الستيتي، وهو باحث أركيولوجي (آثار) في تاريخ قرطاج بالمعهد العالي لمهن التراث بتونس، “من المؤكد أن القرطاجيين قد قاموا بعدّة رحلات بحرية استكشافية حتى جزر البليار في المحيط الأطلسي، كما جابوا حوض المتوسط كاملا، لكنّ الرحلة في عمق الأطلسي نحو السواحل الأميركية لم تثبت”.

وتابع الستيتي، “لا زلنا في علم الأركيولوجيا نعتمد المصادر الكلاسيكية، وهي المصادر الإغريقية والرومانية القديمة، وهذه المصادر لم تذكر شيئا عن تلك الرحلة بشكل واضح. عند تدمير قرطاج لم يبق الرومان أي أثر لمصادر العصر القرطاجي”.

وضع المغامرون مسارا تقريبيا للرحلة الأصلية المفترضة، إذ ابحرت سفينة “فونيسيا”  الأربعاء 25 سبتمبر، انطلاقا من الميناء التاريخي القديم لقرطاج في تونس نحو جبل طارق، ومنها إلى ساحل مدينة كاديز الإسبانية، ومن بعدها إلى مدينة الصويرة المغربية، وبعدها إلى جزر الكاناري، مرورا بالمحيط الأطلسي نحو سواحل القارة الأميركية، في انتظار أن تقرّر الرياح نقطة وصول السفينة، التي من المرجّح أن تكون بفلوريدا أو الكاراييب.

تحديات مناخية
قبل رحلة البحث في التاريخ 

يتوقّع القبطان بيل أن تدوم الرحلة بالطرق البدائية ذاتها التي توخّاها القرطاجيون وباعتماد قوة الريح، نحو ثلاثة أشهر.

واعتبرت شيماء مازن من لبنان، إحدى المشاركات، أن الرحلة ستكون فريدة من نوعها نظرا إلى رمزية الانطلاق من قرطاج إحدى أعظم المدن الفينيقية البونية عبر  التاريخ، إضافة إلى مواجهتهم طيلة الفترة المقضاة بعرض البحر لنفس التحديات المناخية والظروف الطارئة، التي واجهها الفينيقيون والبونيون آنذاك داخل السفينة الشراعية وباعتماد وسائل بدائية في التعرّف على الطريق.

وعبّرت مازن عن أملها في أن يوفّقوا في هذه الرحلة، التي وصفتها بالصعبة جدا والجريئة، ويتم تصحيح التاريخ في ما بعد في الاعتراف بأن الفينقيين والبونيين هم من اكتشفوا أميركا وليس غيرهم. قال منظمو الرحلة، إنهم حصلوا على جائزة “المغامر” لمؤسسة “كابتن سكوت” وسيستخدمون قيمة الجائزة 2000 جنيه إسترليني للمساعدة في تمويل الرحلة، بجانب تبرّعات لمنظمات أخرى.

يقول الإعلامي والمخرج البرازيلي يوري سندا الذي سيوثّق الرحلة بالكاميرا، “الأمر مذهل بالنسبة لي أن أكون هنا، وأعيش التجربة التي خاضها الفينيقيون قديما. من المذهل أن يتخّيل المرء ذلك، إن أغمضت عينيك، وتخيّلت الحياة قبل ألفي عام، عندها لم يكن هناك أضواء ولا منارات”.

ويضيف سندا، “ما يميّز هذه المغامرة عن بقيتها، هو أنها قد تغيّر ما هو موجود في كتب التاريخ، لذلك علينا أن نثبت الحقيقة وتقديم أدلة ملموسة للمؤرخين حتى يتمموا بحوثهم. ربما يستغرق ذلك سنوات، لكن ما نحن عازمون عليه هو إيجاد نظرية مغايرة، ونحن بذلك نقوم بمساعدتهم على إيجاد الحقيقة التاريخية”.

بجانب البحث عن الحقيقة، فإن الشغف الكبير بقرطاج يدفع المغامرين إلى استكشاف المزيد عن الإمبراطورية البحرية قبل صعود روما، وهو أمر لا يخفيه القبطان فيليب بيل،

 “قرطاج مثيرة للاهتمام، لأنها ثرية بالقصص والمعاملات مع مصر القديمة واليونان وروما. يعلم الجميع كيف أن القرطاجيين كانوا يملكون نحو 200 سفينة حربية، وأن لهم أكبر قوة عسكرية واقتصادية في العالم القديم”.

ويتابع بيل في انبهار، “هنا كانوا يتاجرون في الذهب والمعادن والفضة والأسماك من الأطلسي إلى البحر المتوسط، وكانوا يبيعون كل أنواع الزيوت والخمور لأوروبا. ومن هنا خرج أيضا القائد العسكري الفذّ حنبعل”.

20