سطوة العشائر العراقية تطال أروقة الامتحانات

الاتجاهات الحالية للثقافة الدينية تتحمل المسؤولية عن استشراء الغش بأشكاله، ومنه الغش الدراسي وبيع وشراء الأسئلة الامتحاناتـ، فالمجتمع يبدو في حالة فقدان للبوصلة الأخلاقية.
الأربعاء 2018/06/27
الأجيال الناشئة في العراق ضحية الحرب والعنف والفساد وهيمنة العشائر أيضا

لا يعيش العراق معركة ضد الإرهاب فقط وتحريره من قبضة الدولة الإسلامية وباقي الجماعات المتطرفة، بل يواجه معضلة الفساد وهي المعركة الأخطر على حد تعبير رئيس الوزراء حيدر العبادي، خاصة أن الفساد طال مؤسسات التعليم بعد استشراء ظاهرة الغش في الامتحانات وتجارة بيع الأسئلة أمام صمت المؤسسات الدينية، التي تكتفي بالوعظ فقط عند القضايا السياسية، وهو ما يكشف سقوطها في فخ التوظيف السياسي، فيما تحمي العشائر هذه الظاهرة بهدف الحصول على أرباح مادية، وتروّج للغش تحت راية الانتماء للعشيرة، ما يجعل العراق أمام أزمة أخلاقية في المقام الأول.

يعبّر الغش في الامتحانات المدرسية عن أزمة ثقافية، وتكفي عبارة “في الامتحان يكرم المرء أو يهان” لاختزال نظرتنا للامتحانات؛ بمعنى أننا لا نعتبرها اختبارا لمدى استيعاب الطلاب للمادة العلمية وكفاءة الطالب والمنهج والمعلم؛ لكنها في وعينا هي تقييم لاستحقاق الطالب، إذ أن الامتحانات ترتبط “بمصائرنا” في التخصص الجامعي والعمل والمكانة الاجتماعية والحياة عموما، ما يجعل اجتيازها بمثابة اختبار نفسي وجودي بالنسبة للكثير من الطلبة والأسر، ولا تستغرب أن يضحي بعضهم حتى بقيم النزاهة والأمانة في سبيل اجتيازها بنجاح.

لا شك أن ثمة ضغطا نفسيا واجتماعيا هائلا يتم تسليطه على الطلبة خلال الامتحانات، من شأنه أن يخلق مناخا من الخوف: الخوف من عواقب الامتحان على مستقبل الطالب، والموقف الأسري والمجتمعي الذي يعتبر الامتحانات النهائية مسألة مصيرية وقضية “حياة أو موت”، والقلق الذي ينتاب الطالب من التبعات المعنوية المترتبة في حال إخفاقه، وتوجسه من أن تلاحقه الإهانة في حال فشله، لذلك هناك طلبة انتحروا بسبب شعورهم بالعار من نتائجهم الدراسية.

اختراق تكنولوجي

تتحمل الاتجاهات الحالية للثقافة الدينية المسؤولية عن استشراء الغش بأشكاله، ومنه الغش الدراسي وبيع وشراء الأسئلة الامتحانات، فالمجتمع يبدو في حالة فقدان للبوصلة الأخلاقية، وكان من المتوقع أن تقوم المرجعيات الدينية بدور توعوي في هذا الشأن، لكن المؤسسة الدينية انشغلت عن مجال التعليم وكرست توجيهاتها لمناقشة القضايا السياسية، ووقع بذلك تهميش المشاغل الاجتماعية والسلوكية.

والغش في الامتحانات باستخدام سمّاعات إلكترونية مخفية لا يمكن اختزال أسبابه بوجود أزمة أخلاقية فقط؛ ولكنه يكشف عن الفجوة الهائلة بين تطور تكنولوجيا الاتصالات (التي جعلت الغش سهلا) وبين تخلّف النظام التعليمي الذي لا يتجسّد في طريقة وضع الأسئلة ولا محتوى المادة التعليمية فحسب؛ ولكنه في المنظومة التعليمية ككل وفي “المنهج الخفي”، أي منظومة القيم التعليمية الضمنية والمستترة والكامنة ضمن البيئة التعليمية، فالبيئة التعليمية السائدة لا تزرع الثقة في نفوس الطلبة، التي تتشابك العلاقات داخلها، وذلك الأثر الذي يتركه المناخ الدراسي والسياسات المعتمدة من المؤسسة التعليمية في الطالب وسلوكه، بل تزرع نقائضها من الانكسار والانهزامية الأخلاقية ومشاعر النقص، ما يؤدي إلى عدم احترام الطلاب لذواتهم وبالتالي يسهل عليهم خيانتها بالغش والسلوك المنحرف.

أطراف سياسية توظف العشائر لابتزاز الناس ماليا
أطراف سياسية توظف العشائر لابتزاز الناس ماليا

وتكشف ظاهرة تسريب الأسئلة وغش الطلبة عن اهتراء المؤسسات التعليمية وتقادم فلسفتها وأساليبها، حيث لم تتصد لإغراءات تكنولوجيا الاتصال التي جعلت سرقة الأسئلة وتداولها من الأمور اليسيرة والمتاحة، فلم يعد ممكنا حجب معلومة في عصر فيسبوك والهواتف الذكية، وأمام اختراق التكنولوجيا للمؤسسات التعليمية لم يعد أمامنا سوى مسارين: الأول وهو اعتماد وسائل إلكترونية محمية في إيصال الأسئلة إلى المراكز الامتحانات وتقليل التماس البشري معها والأيدي التي تتداولها واختصار المسافة الجغرافية التي تنتقل خلالها. والثاني استراتيجي وهو التغيير البنيوي في أساليب التعليم نفسها واعتماد تقنيات جديدة قائمة على الإبداع والتفكير لا الحفظ والتلقين، ما يعني أن الامتحانات ستعتمد عندئذ على مهارات التفكير والتحليل لدى الطالب لتعزيز قدراته المعرفية.

ويكشف الغش عمق أزمة التعليم في العراق التي تجسّد بدورها جملة من الأزمات المتراكمة والمتتابعة على مدى عقود، ولا يمكن فهم ظاهرة الغش إذا نظرنا إليها بمعزل عن الظواهر السياسية والاقتصادية والاجتماعية المهيمنة، فشيوع ثقافة الفساد والنزعة الغنائمية والتطاحن على المكاسب غير المشروعة في الدولة، نتيجة لسلوك فئات سياسية ونخبوية، هي أحد روافد دفع الطلبة إلى استخدام أساليب غير نزيهة في تحصيل الدرجات العلمية، فهم يتأثرون بالجو العام السائد في المجتمع. وليست ظاهرة الغش في الامتحانات ببعيدة أو منفصلة عن ظاهرة الشهادات المزورة والألقاب العلمية المنتحلة فكلها تعبّر عن فساد مركب إداري واجتماعي يعاني منه البلد.

وبالمثل تلعب ثقافة الاتجار وجمع المال والربح السهل والإثراء السريع دورا في التحريض على سرقة الأسئلة وبيعها، وهذه الثقافة باتت شائعة في ظل توظيف أحزاب سياسية للمقدسات الدينية لكسب النفوذ والثروة، وتوظيف أطراف للأعراف العشائرية في ابتزاز الناس ماليا. وعرض الأسئلة للبيع هو استجابة للطلب الحاصل عليها في المجتمع.

نفوذ العشائر

يشتكي مدرسون عراقيون من تعرضهم للضغوط أو التهديد بشكل مستمر من قبل العشائر على مدار العام، وسط عجز السلطات الحكومية عن توفير الحماية اللازمة لهم أو ملاحقة المعتدين عليهم وتقديمهم للقضاء.

وبفعل هيمنة قوى مناهضة لفكرة الدولة من جماعات عشائرية وفصائل متنمّرة على المجتمع العراقي وعلى السيادة الداخلية للدولة؛ تحوّلت ممارسات الخروج على القانون والانفلات السلوكي إلى ثقافة سائدة لا سيما بين الأجيال التي نشأت في ظل الأزمة العراقية وهم لا يتمتعون اليوم بالثراء النفسي والمعرفي اللازم لتزويدهم بحصانة ذاتية؛ مرد ذلك أنهم لم يحصلوا على مناعة تربوية وتوعوية تغذي دفاعاتهم الداخلية ضد الانزلاق إلى السلوك المنحرف، فالدولة والمجتمع تخلّيا عن مسؤوليتهما في تقديم التنشئة الاجتماعية السليمة لهذه الأجيال لانشغالهما بصراعات السياسة وحروب الهويات.

ويبدو الوعي المهيمن في المجتمع العراقي اليوم هو وعي السلطة الحاكمة الذي يتسم بازدواجية تجعل سلوكها مناقضا لمزاعمها الأخلاقية التي تنادي بها، واعتناق مفهوم عن الأخلاق والشرف والصلاح يحصرها في زاوية تحريم الجنس والخمر وإعلاء الولاء الديني وتقديس الهوية المذهبية ورموزها، فيما لا يعير أهمية لقيم النزاهة والأمانة والإخلاص في العمل والمسؤولية تجاه الذات والمجتمع.

الحرمان من الإنترنت مقابل التصدي للغش في العالم العربي

اختارت دول عربية كمصر والجزائر على غرار العراق التصدي لظاهرة الغش عبر حجب مؤقت للانترنت، لكن قطعها واجه انتقادات كثيرة واستنكار الرأي العام، التي رأت في هذا الإجراء تعطيل لمصالح المواطن والشركات، وأنه كان على الدولة التوصل إلى حلول أخرى.

◄ الجزائر: يسود الجزائر جدل واسع حول قطع السلطات خدمة الإنترنت خلال امتحانات البكالوريا (الثانوية العامة)، لمنع محاولات الغش عبر تسريب مواضيع الامتحانات. ومنذ 2016، عمدت الجزائر إلى قطع الإنترنت خلال هذه الامتحانات، بعد تسريب ونشر امتحانات على شبكات التواصل الاجتماعي قبل إجرائها. وفي ذلك العام، ألغت السلطات جزئيا امتحانات الثانوية العامة وأعادت إجراءها بسبب عمليات التسريب. واعتبر مغردون على منصات التواصل الاجتماعي، أن السلطات لم تراعِ مصالح المواطنين والشركات المحلية والأجنبية العاملة في البلاد، التي صار الإنترنت من صميم عملها.

◄ مصر: خلال الأسابيع الماضية، أعلنت إدارة امتحانات الثانوية العامة بمصر، عن إغلاق العشرات من صفحات الغش الإلكتروني على الإنترنت، وضبط عدد من وقائع الغش داخل اللجان. ويجرم القانون المصري الغش في الامتحانات بالمراحل التعليمية المختلفة، ويعاقب بالحبس مدة لا تقل عن سنة، وبغرامة لا تقل عن 20 ألف جنيه (1100 دولار)، ولا تتجاوز 50 ألف جنيه (2800 دولار)، أو بإحدى العقوبتين.

وفي 2016، شهدت مصر عدة وقائع تسريب كانت هي الأوسع في تاريخ اختبارات الثانوية العامة في البلاد، ما أدى إلى اتخاذ قرارات حكومية بإعادة امتحانات بعض المواد، والقبض على مسؤولين وطلاب وتحويلهم إلى القضاء بتهمة “تسريب الامتحانات والإضرار العمد بمصلحة البلاد”. والعام الماضي، أقرت مصر نظام “بوكليت” لمنع الغش وتسريب الأسئلة، والقائم على دمج أسئلة الامتحان في كراسة الإجابة، بعد أن كانت تجرى بورقتي أسئلة وإجابة منفصلتين.

ويتجلى ذلك في شيوع وعي عام يمنح الشعائر والطقوس والشعارات الدينية أولوية على السلوك القويم والجوهر الأخلاقي، واهتمام جهات حكومية بتطبيق سياسات دينية مثل ملاحقة غير المحجبات؛ ما يشوّه مفهوم الفضيلة ويعيد تشكيل معانيها ومعاييرها ويبعث رسالة للمجتمع بأن الغش بأنواعه لا يتعارض معها. وصار مفهوم الحرام فقط عند المساس برموز السياسة والدين أو المناداة بالحريات والحقوق وليس الغش والاحتيال والكذب والتقصير في العمل.

ولا يمكن اختزال أسباب ظاهرة الغش في انفلات الأجيال اليافعة والشابة من الطلبة، فهم ضحايا للبيئة النفسية والاجتماعية والتربوية السائدة، والغش دليل على فساد ممارسات الأجيال السابقة التي صنعت البيئة التي أنبتت الأجيال الجديدة. الطلبة ضحايا بيئة اجتماعية وسياسية ومؤسسية أقوى منهم، وكل ما فيها من اتجاهات وسياسات وسلوكيات وخطابات إنما يحرّضهم على الانحراف بأشكاله عبر الإيحاء الخفي والهندسة الذهنية والتسريب القيمي من خلال اللغة المهيمنة في المجتمع ومنطقها وسردياتها. الغش جريمة أخلاقية وقانونية ولكن النظام السياسي والاجتماعي يتحمّل مسؤولية خلق المناخات والسياقات المشجّعة على ارتكاب هذه الجريمة.

ومن دوافع غش الطلبة تعرضهم إلى عنف مادي ولفظي ومعنوي من الهيئات التدريسية، فالمدارس تحولت إلى بيئة طاردة والمناهج وطرائق التدريس أصبحت عبئا ثقيلا على الطلبة. وفي هذا السياق القمعي، حتى الامتحان الدراسي بات الطلبة يرونه عملا عدوانيا ضدهم وأداة في يد المدرسين للانتقام منهم وترويضهم، لذلك هم يواجهون هذا العنف المؤسسي الممنهج بالتمرّد والتنمّر، وبالغش كوسيلة عنف مقابلة تتضمن الاحتيال على المؤسسة ومحاولة إضعافها وتقويض هيمنتها عبر انتهاك قوانينها، فالمسألة أشبه بصراع الإرادات بين المدرسة والطالب، لا سيّما أن الاستقواء والتنمّر وانتهاك القانون هي سمة المرحلة الراهنة.

وفي ظل هيمنة الثقافة العشائرية والفئوية يتم إضفاء طابع أخلاقي على الغش والاحتيال واعتبارهما نوعا من التعاضد والالتزام تجاه الجماعة، وكما يغش الوزير ويستمرئ الفساد لخدمة مصالح طائفته وتعصّبا لها في مواجهة طوائف أخرى؛ فإن الطلبة يتعصبون لبعضهم أيضا ويعتبرون تبادل الغش نوعا من التعاون الأخوي والولاء للجماعة في مواجهة السلطة المدرسية.

ولمواجهة هذه المعضلة التربوية في العراق يجب زرع احترام الذات والثقة فيها داخل الطالب وهو أفضل حصانة نفسية وأخلاقية وسلوكية ضد الغش، أما لجوء السلطات التربوية للإجراءات القهرية وأساليب الاستعباد والتنكيل ضد الطلبة؛ فإنه يندرج في إطار “الإدارة بالرعب” و”التربية بالعنف” وهدفه تدجين الطلبة بالقمع والترهيب، فأن تتغاضى المدارس عن الغش في الامتحانات لهو أهون وأقل ضررا من إجبار الطالبات على خلع ملابسهن في حمامات المدارس لتفتيشهن بحثا عن سمّاعات الغش الإلكترونية، كما جرى في بعض مدارس بغداد. لكن كيف استساغت السلطة التربوية أن تحمي الامتحانات من الغش بانتهاك كرامة وخصوصية وإنسانية الطالبات؟ هذا الأسلوب هو جزء من نهج شامل في الدولة قوامه إصلاح الخطأ بالخطأ ومكافحة الجريمة بالجريمة وحماية القيم بانتهاك القيم. لذلك فإن تقويض ثقة الطلبة في أنفسهم وتدمير الثقة بينهم وبين المؤسسة التعليمية هما أحد أبرز أسباب انزلاقهم إلى الغش كرد فعل على الاضطهاد التعليمي الذي يتعرضون له.

12