سدوس.. مستوطنة سعودية قديمة تحاكي عمق التاريخ في المملكة

أنماط معمارية فريدة شغلت الباحثين العرب والأجانب.
الخميس 2024/05/02
واحة استقرار بشري

تعد سدوس واحدة من أقدم المستوطنات البشرية التي عرفتها الجزيرة العربية والمشهورة بتفرد معمارها ما جعلها محط اهتمام الباحثين العرب والأجانب حتى أن منهم من اختارها لتكون موضوع رسالته العلمية لنيل درجة الدكتوراه. وفي عام 2014، تم ترميمها وتطويرها لتتحول إلى قرية اقتصادية منتجة ومتكاملة ومشروع استثماري متنوع ينتشلها من الاندثار إلى الاستثمار.

الرياض ـ كثيرة هي المصادر التاريخية التي تُحدثنا عن قرية سدوس الواقعة على بُعد 70 كلم من العاصمة السعودية الرياض، حيث ورد ذكرها في كتابات الكثير من الرحّالة والمؤرخين.

وكانت عمارتها موضوعا لمؤلفات ودراسات أنجزها باحثون أجانب وعرب، وكذلك تاريخها والكثير من معالمها التي روت لنا المصادر العربية والأجنبية الكثير من التفاصيل عنها، وعن مساكنها وسكانها وعوالم معيشتهم وقبائلهم وموقعها ودروبها والطرق المؤدية إليها.

وإذا كانت سدوس قديماً واحدة من أقدم المستوطنات البشرية التي عرفتها الجزيرة العربية. فهي أيضاً واحدة من القرى ذات القيمة الحضارية والتاريخية في المملكة العربية السعودية، وقد احتضنت بين جنباتها معالم أثرية مُهمة بعضها اندثر، وبعضها بقي شاهداً على عراقة تلك القرية التي تضرب بجذورها في أعماق التاريخ.

وقد عرفت سدوس في المصادر العربية القديمة باسم (القُرَيَّة) والقرية، وقرية بني سدوس، وهو ما يشير ضمنًا إلى أن هناك من وصفها بالقريَّة تصغيرا لقرية كالبكري، وهناك من وصفها بالقرية كياقوت الحموي. وهذه القرية «بها بنو سدوس ابن شيبان بن ذهل بن ثعلبة». وقد أطلق اسم القُرَيّة على إقليم اليمامة. والسُّدُوسُ بالضم الطَّيْلَسانُ (كِسَاء أو قماش أَخضر يلبسه الخاصة وعلية القوم)، وفي الصحاح: سُدُوسٌ، بغير تعريف، وقيل هو الأَخْضَرُ منها.

وقد وردت سدوس على لسان بعض الرحالة العرب والمسلمين، الذين تحدثوا عن معالم أثرية كثيرة لهذه القرية، ومن أهمها؛ الكتابات والنقوش القديمة؛ وما كان موجودًا بها قبل عقود، والمتمثل في البناء المشيّد بالحجارة والمنسوب، بالإضافة إلى معالم أخرى كالمسلة (المنارة)، وحوض ماء (مدى) الإمام فيصل بن تركي، وحي البلاد وجدة والمرقب والطرق والدروب والسد وغيرها من المعالم الحديثة.

وتشكل سدوس اليوم عمقًا حضاريًا عريقًا في وسط المملكة، وهي كما وصفها الرحالة والمؤرخون واحة جميلة تحيط بها المزارع وبساتين النخيل وأشجار الأثل والرمَّان والطلح وغيرها من الأشجار المنتشرة في المزارع، أو على ضفاف شعاب الأودية وفروعها، وإذا ما نزل المطر تنمو النباتات الصحراوية كالريلة والسبط والبسباس والأرطي والعرفج، وكذلك نباتات الحمضي من القضا والشنان، لتبرز أمام المشاهد كمتحف مفتوح يروي بجمالياته أحداثا تاريخية، ويعززها بمنظومة من الأيقونات والقطع الأثرية التي تشهد على حضارة ورقي وتطور إنساني أصيل.

كما اشتهر من بني سدوس علماء ومؤرخون، ومن أشهر هؤلاء مؤرج بن عمر السدوسي (ت: 195هـ/810م)، وكان عالمًا باللغة والحديث والأنساب، حيث كان كتابه (الأنواء) بداية لسلسلة كتب الأنواء التي ضمنها مؤلفوها من اللغويين جميع صنوف الملاحظات عن الطقس وحركة الفلك والبروج وظواهر الطبيعة الأخرى مصحوبة بتعليقات لغوية وغير لغوية، وله من المؤلفات أيضًا (المعاني) وغيره. ومن علماء بني سدوس أيضًا، أبوبكر بن حفص بن يزيد السدوسي (ت:293هـ) وهو الذي روى (تاريخ الخلفاء) لأبي عبدالله بن محمد بن زيد وزاد فيه. كما أن منهم قتادة بن دعامة السدوسي الفقيه البصري الأعمى.

شعراء من سدوس

سدوس احتضنت بين جنباتها معالم أثرية مُهمة بعضها اندثر، وبعضها بقي شاهداً على عراقة القرية الضاربة بجذورها في أعماق التاريخ

وكان لسدوس شعراء ذائعو الصيت، بقيت أشعارهم شاهدة على نبوغهم وامتلاكهم لناصية اللغة، ونذكر من القُدامى الشاعر جُرُولْ بن أَوس بن مالِك العبسي المعروف بِالْحُطَيْئَةِ، وهو شاعر  عربي مُخضرم، (أدرك الجاهلية والإسلام) ويُعد من فحول الشعراء ومقدّميهم وفصحائهم، وكان ينصرف في جميع فنون الشعر من مَدح وهجاء وفخر ونسب ويجيد في جميع ذلك.  كان ذا شرّ وسفه. عُرِف بمتانة شعره وبذاءة ألفاظه، تنوّع شعره بين المدح والذم والهجاء. بالإضافة إلى الشاعر عمران بن حطان بن ظبيان بن شعل بن سدوس والشاعر شيبان بن سلمة السدوسي، فضلاً عن تميم بن جميل السدوسي، الذي أبهر الخليفة العباسي المعتصم، بفضل حكمته وبلاغته وشعره كبير الأثر، حيث أهداه المعتصم ولاية على نهر الفرات وخمسين ألف درهم.

وسدوس واحة استقرار بشري موغلة في القدم، وتحتوي على الكثير من المعالم الأثرية، ومن الآثار الباقية التي لم تندثر، تشهد على تاريخ حدث، ووقائع كبرى مرت بها. ومن المعالم؛ مسلّة أثرية وجدت عليها نقوش وكتابات تعود للعصور القديمة، وكذلك قصر قديم يرجّح البعض أن سيدنا سليمان بن داود عليه السلام، قد بناه إلى جانب معالم أخرى ونقوش كتابية منقوشة على الحجر. وهناك الأبراج الحالية التي تمثل جزءًا من العمارة التقليدية في سدوس ومنها: برج آل معمَّر وهو برج الزاوية الشمالية الغربية لسدوس، ويبلغ قطر هذا البرج خمسة أمتار ويرتفع عن مستوى الأرض من 10 إلى 20 مترًا. وقد بني بالأسلوب نفسه والشكل المتبع ذاته في الأبراج الأخرى بالقرية، ويمتد السور الشمالي للقرية من هذا البرج حتى البرج الشمالي الشرقي ويبلغ طول السور الواصل بين هذين البرجين (54) مترًا. وكذا برج السلطان وبرج الجميعة.

ومن معالم وأثار سدوس أيضًا، كتابات ونقوش قديمة عثر عليها في السلسلة الجبلية شمال المنطقة وهي أحرف من المسند الجنوبي يقدر عمرها ما بين 2000 إلى 3000 عام. وقد وُجدت في الجهة الشمالية، قطعة حجرية مستديرة الشكل، مأخوذة من أعمدة بعض الدور التي أُقيمت في القرية قديمًا. وهناك كذلك، تحصينات سدوس التي تحيط بالبلدة من جهاتها الأربع، وهذه الأسوار كانت مزودة بأبراج دفاعية، إضافةً إلى البوابة الرئيسة (الدروازة) التي بمنتصف السور الجنوبي. وأيضًا برج المراقبة في الجهة الجنوبية الذي يبعد عن السور الجنوبي المسمى بالمرقب حوالي 250مترا.

رحّالة ومؤرخون

بناءات قديمة بأشكال هندسية فريدة
بناءات قديمة بأشكال هندسية فريدة

مرَّ الرحالة البريطاني لويس بيلي بسدوس في الثالث من شهر مارس عام 1865م، وذكر في كتابه (رحلة إلى الرياض): “لقد توقفنا هذا المساء في (سدوس) وكانت عبارة عن مجموعة مزارع صغيرة وجميلة، اجتمع بعضها إلى البعض الآخر في الوادي حول حصن صغير، لقد كانت المنازل وجدران الحدائق أنيقة ومتصلة”

كما ذكرها الرحّالة الإنجليزي جون جوردون لوريمر، صاحب كتاب: (دليل الخليج) بقسميه التاريخي والجغرافي، حيث قال: «إن قرية سدوس كانت مكوّنه من 160 منزلاً». وقد اكتسبت القرية اسمها من اسم سدوس بن شيبان ابن ذهب بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل. وورد ذكرها في أشعار القدماء كما عند الحارث بن عباد، وبشار بن برد وغيرهما.

وتشير المصادر التاريخية، إلى أن أول استقرار في المنطقة كان لقبيلة هزان الأولى البائدة، ثم تلاها استقرار قبيلتي طسم وجديس قبل الميلاد، وكان نفوذ طسم يشمل بلادًا واسعة، منها، سدوس. ثم سكن المنطقة بنو سدوس بن شيبان وبنو حنيفة والجميع من بكر بن وائل، وكان استقرارهم فيها قبل الإسلام بقرنين من الزمن تقريبًا.

لعبت المنطقة دورًا بارزًا في العصرين الجاهلي والإسلامي، حيث احتلت موقعًا على إحدى طرق الحج القديمة. وكان لموقعها المتوسط في نجد وتربعها على إحدى الطرق المهمة في الجزيرة العربية، تأثير ملموس في التطور، والنمو العمراني للقرية.

وأهم ما يميز عمارة سدوس التقليدية، هو تكامل عناصرها وتنوعها، ما يجعل منها قرية نموذجية. ونادرًا ما نجد قرية مشابهة لها فهي ليست متداخلة العناصر مع غيرها بمعنى أنها مبنية بطريقة واحدة وفي فترة واحدة، ويمكن أن يطلق عليها (قرية تراثية حضارية) بالنظر إلى تاريخها الذي يقدر بحوالي مائتي عام.

أهم ما يميز عمارة سدوس التقليدية، هو تكامل عناصرها وتنوعها، ما يجعل منها قرية نموذجية ونادرًا ما توجد أخرى مشابهة لها

كما أن ما يميز سدوس هذه المدة الطويلة عدم وصول يد الإنسان العابثة بالحديد والأسمنت إلى مبانيها، وهي تنفرد بأنماط معمارية لا توجد إلا في القليل جدًا من مباني إقليم نجد، وتنعدم في مباني المنطقة الغربية من المملكة، كمكة وجدة والمدينة.

وإذا كانت سدوس، شغلت الباحثين العرب؛ فقد شغلت أيضًا الباحثين الأجانب، مثل العالم والمهندس المعماري الألماني كريستوف هانكه، الذي اختار عمارة سدوس لتكون موضوع رسالته العلمية لنيل درجة الدكتوراه من جامعة كيسر زلاوترن الألمانية، وقد عنون تلك الرسالة بـ(سدوس: نموذج للقرية النجدية بالمملكة العربية السعودية)، ونال عنها درجة الدكتوراه بالفعل عام 2004.

وقام معالي الأستاذ فيصل بن عبدالرحمن بن معمر، المشرف العام على مكتبة الملك عبدالعزيز العامة، بنشر رسالة الدكتوراه التي أعدها الألماني كريستوف ماريه هانكه، في كتاب قال في مقدمته: “إن رحلة هذا العمل الأكاديمي بدأت عام 1981، حينما استثمر العالم كريستوف ماريه هانكه وجوده الرسمي في المملكة العربية السعودية، وذلك للعمل في بعض المجالات والاهتمام بالنهضة التنموية بالمملكة، ووجد الفرصة مناسبة لإنجاز دراسة عن قرية سدوس والتي ضمت الكثير من المباني التي تعود إلى ما قبل القرن الثاني عشر هجريا (الثامن عشر ميلاديا) وحملت تصاميمها مؤشرات على روابط دينية اجتماعية كانت باعثًا في التخطيط، حيث التقى كريستوف في بداية رحلته العلمية بوالديْ الشيخ عبدالرحمن بن إبراهيم ابن مشاري بن معمر، أمير سدوس، والذي أكرم وفادته وعائلته وقدم له كل ما يخدم أبحاثه ومعلوماته التاريخية”.

ومن أهم المؤرخين القدامى، الذين تناولوا سدوس، ياقوت الحموي في كتابه: (معجم البلدان) وأبو الحسن الهمداني في كتابه: (صفة جزيرة العرب) والأصمعي في كتابه: (سير أعلام النبلاء).

كما تناولها عدد من أهم المؤرخين المحدثين، وذكرها كل من الرحالة البريطاني لويس بيلي في كتابه (رحلة إلى الرياض) والرحّالة البريطاني جون جوردون لوريمر، في كتابه: (دليل الخليج).

واكتسبت سدوس أهمية كبرى، على مرِّ التاريخ نظرًا لموقعها المميز، قرب إمارة العينة قبل توحيد المملكة العربيَّة السعوديَّة. كما كانت محطة بارزة في الطريق البري الذي يربط منطقة اليمامة بمكة المكرمة، إضافة إلى قربها من مراكز الأحداث المهمة خلال مراحل تأسيس الدَّولة السعوديَّة الأولى والثانية، ثمَّ في عهد الوحدة والاستقرار، بعد توحيد المملكة على يد الملك المؤسس عبدالعزيز آل سعود.

تعد سدوس واحة استقرار بشري موغلة في القدم، ويرجع قِدَمها لعوامل عدَّة أسهمت في ذلك الاستقرار، أهمها: المياه، ثمَّ جودة التربة، وقربها من أهم الطرق في وسط الجزيرة العربيَّة، ثمَّ وجود مناطق رعوية وغابات تُعدُّ جيدة في الشعاب والأودية المحيطة به.

قرية اقتصادية منتجة

Thumbnail

في العام 2014 أزيح الستار عن قرية سدوس التراثية التي أصبحت جدرانا طينية تتهاوى وتنقص مع مرور الزمن وعقود من الهجران، وكادت أن تعصف بتاريخها، ليبدأ بعد ذلك ترميمها وتطويرها لتتحول إلى قرية اقتصادية منتجة ومتكاملة ومشروع استثماري متنوع ينتشلها من الاندثار إلى الاستثمار.

وتم تنفيذ مشروع تطوير بلدة سدوس على ثلاث مراحل، تضمنت المرحلة الأولى تطوير وسط المدينة خلال 520 يوماً، وتم تنفيذ المشروع بالتعاون بين الهيئة العامة للسياحة والآثار ووزارة الشؤون البلدية والقروية ووكالة أمانة منطقة الرياض لشؤون بلديات المنطقة، كما تضمنت المرحلة الأولى من المشروع تنظيف الممرات والفراغات والمباني من المخلفات والأنقاض وتجميعها وفرزها وتسويتها، وإعادة تأهيل البنية التحتية للبلدة للأعمال الكهربائية والميكانيكية، وإعادة رصف الشارع الرئيسي حول البلدة وتطويره بطريقة تتماشى مع شكل القرية، وإعادة بناء وترميم سورها بالكامل، والمحافظة على منابع مياه الآبار والكشف عنها، والمحافظة على اللوحات الجصية والجدران والأعمدة، وإعادة بناء الجدران الطينية بمختلف عناصرها وطبقاتها وسماكتها.

أما المرحلة الثانية للمشروع فتم خلالها إكمال ما تم الانطلاق فيه في المرحلة الأولى، في حين تضمنت المرحلة الثالثة تطوير ما تبقى من حي البلاد، والاهتمام بالأحياء التراثية الأخرى كحي الرأس والمنارة والقصر القديم ومرقب سدوس وغيرها.

16