سداد الديون الصينية يهدد استقرار أفقر دول العالم

بكين- تشهد الدول النامية المقترضة من الصين هذا العام موجة مالية غير مسبوقة، حيث من المتوقع أن تسدد هذه الدول مبالغ قياسية لبكين، تصل إلى حوالي 19 مليار يورو خلال عام 2025، وفق دراسة حديثة أجراها معهد لوي الأسترالي ونشرت نتائجه أمس الثلاثاء.
وواصفة هذه الظاهرة بـ”تسونامي مالي”، تبرز الدراسة مدى الضغط المتزايد على هذه الدول الناشئة نتيجة سداد القروض والفوائد المترتبة عليها، والتي تشكل جزءًا من مبادرة الصين الطموحة المعروفة باسم “طرق الحرير الجديدة.”
وتُعد مبادرة “طرق الحرير الجديدة”، التي أطلقتها بكين في عام 2013، أحد أضخم البرامج التنموية العالمية التي تهدف إلى تطوير شبكة واسعة من البنى التحتية التجارية واللوجستية تربط الصين بمختلف أنحاء العالم.
وتشمل هذه المبادرة بناء الطرق والسكك الحديدية والموانئ ومحطات الطاقة والاتصالات، وتُعتبر محورا رئيسيا في إستراتيجية الصين لتعزيز نفوذها التجاري والسياسي في الأسواق الخارجية، وضمان تأمين مصادر الطاقة والمواد الخام الضرورية لنموها الاقتصادي.
القروض التي تمنحها الصين للدول النامية تلعب دورًا محوريا، إذ توفر التمويل اللازم لهذه المشاريع التي تعاني غالبًا من نقص في الموارد المالية
وتلعب القروض التي تمنحها الصين للدول النامية دورًا محوريا، إذ توفر التمويل اللازم لهذه المشاريع التي تعاني غالبًا من نقص في الموارد المالية. غير أن هذه القروض، رغم أهميتها التنموية، تحمل معها تبعات مالية جسيمة.
ومن المتوقع، بحسب الباحث رايلي دوكن من معهد لوي، أن تتحول الصين خلال العقد المقبل من مجرد “بنك” للدول النامية إلى “محصّل قروض”، أي أن المبالغ التي تتلقاها الصين من هذه الدول من سداد الديون والفوائد ستفوق بكثير ما تمنحه من تمويلات جديدة.
وتشير الدراسة التي استندت إلى بيانات البنك الدولي إلى أن نحو 75 دولة فقيرة ستواجه هذا العام ضغطًا غير مسبوق على موازناتها، جراء التزاماتها المالية الضخمة تجاه الصين، ما قد يؤثر سلبًا على استقرارها الاقتصادي والاجتماعي.
ويبرز هذا الأمر كأحد التحديات الكبرى التي تواجهها هذه الدول، التي قد تضطر إلى تقليص الإنفاق على القطاعات الحيوية مثل الصحة والتعليم والبنية التحتية، أو اللجوء إلى قروض جديدة لسداد الديون القديمة، مما يخلق حلقة مفرغة من الأعباء المالية.
وعلى الرغم من تراجع معدلات الإقراض الصيني في معظم أنحاء العالم، تبرز بعض الحالات الاستثنائية التي تخالف هذا الاتجاه، مثل حصول هندوراس وجزر سليمان على قروض جديدة بعدما قطعتا علاقاتهما الدبلوماسية مع تايوان، ما يعكس البُعد السياسي في علاقة الصين بالدول المقترضة.
وبالإضافة إلى ذلك، وقّعت دول كإندونيسيا والبرازيل اتفاقات قروض حديثة، حيث تسعى الصين عبر هذه التمويلات إلى تأمين إمداداتها من المعادن والفلزات الحيوية اللازمة لصناعات التكنولوجيا والطاقة المتجددة التي تتطور بسرعة.
وأثار هذا التداخل بين الاقتصاد والسياسة مخاوف وانتقادات من قبل خبراء التنمية الدوليين الذين يحذرون من وقوع بعض الدول في “فخ الديون”، حيث يصبح العجز عن السداد أداة للضغط الاقتصادي والسياسي، تؤدي إلى فقدان السيطرة على الأصول الحيوية أو فرض شروط تمويلية قاسية.
ويؤكد الدكتور محمد العوضي، خبير الاقتصاد الدولي، أن “استمرار هذا الاتجاه يعيد تشكيل موازين القوى الدولية، ويضع الدول الضعيفة تحت تبعية مالية وسياسية متزايدة.”
وفي المقابل، تصر الحكومة الصينية على أن قروضها تمتثل لمعايير السوق الدولية، وتؤكد على أن هناك جهات أخرى، مثل المؤسسات المالية متعددة الأطراف والدائنين التجاريين من الدول المتقدمة، تلعب دورًا رئيسيًا في تراكم ديون الدول النامية، وأن تحميل الصين المسؤولية وحدها هو تبسيط خاطئ للمسألة.
وتأتي هذه التطورات في ظل مشهد جيوسياسي واقتصادي أكثر تعقيدًا، حيث تتنافس القوى الكبرى على النفوذ في مناطق حيوية حول العالم.
وتسعى الصين من خلال مبادرة “طرق الحرير الجديدة” إلى ترسيخ حضورها في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، بينما تحاول الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي واليابان تقديم بدائل تمويلية تتسم بشروط أكثر شفافية وأقل إشكالية.
ويعتبر المحلل السياسي سامر حسين أن “القروض الصينية ليست فقط أدوات اقتصادية، بل هي جزء من إستراتيجية أوسع لبناء نفوذ تجاري وسياسي في مناطق كانت تخضع لنفوذ القوى الغربية سابقا.”
وفي هذا السياق، تبرز أهمية الشفافية والحوكمة الرشيدة في إدارة ديون الدول النامية، إذ يرى خبراء التنمية أن غياب المعلومات الدقيقة حول شروط القروض يجعل من الصعب تقييم المخاطر، ويزيد من احتمالات وقوع أزمات ديون مدمرة.
وتقول المحللة الاقتصادية ليلى منصور “الشفافية هي المفتاح لضمان استخدام القروض في مشاريع تنموية حقيقية، وليست أداة لزيادة التبعية.”
ويمثل “تسونامي” الديون الصينية تحديًا حقيقيًا للدول النامية، التي تجد نفسها في معادلة صعبة بين الحاجة إلى التمويل لتنمية بنيتها التحتية والضغط المتزايد لسداد ديون قد تهدد استقرارها الاقتصادي.
وعلى المستوى الدولي، تتزايد الدعوات إلى تنسيق أوسع لضمان استدامة ديون هذه الدول، وتفادي إغراقها في أزمات مالية قد تكون لها تداعيات إنسانية وسياسية خطيرة. ويبقى أن تُظهِر السنوات القادمة كيف ستتعامل الدول المقترضة مع هذا الواقع الجديد، وما إذا كانت المبادرات الدولية ستنجح في خلق بيئة تمويلية أكثر عدالة واستدامة.