ساعاتي يختزل تغييرات الزمن على شارع الرشيد في بغداد

الساعات اليدوية لم تفقدها التكنولوجيا بريقها بل تغيّرات تشهدها المدينة.
الأربعاء 2020/12/23
ساعاتي شاهد على حركة الزمن في الشارع

يعدّ شارع الرشيد من أقدم شوارع بغداد وأشهرها التي يعرفها كل عراقي مرّ من العاصمة، وبقي الشارع يذكّرهم بالتاريخ والثورات والحركة التجارية والثقافية التي يلخصها ساعاتي ظل صامدا يضبط آلات الزمن، ولم يغادر المكان الذي فقد بريقه وتهاوت عمارته.

بغداد - يواظب يوسف عبدالكريم على فتح محله لتصليح الساعات يوميا في شارع الرشيد بوسط بغداد، ليواصل ممارسة مهنة ورثها عن والده وجدّه، صامداً في وجه التغيّرات التي مرّت على الشارع العريق.

عند العبور في شارع الرشيد، لا يمكن تجاهل متجر يوسف عبدالكريم الصغير وواجهته المكسوّة بالغبار. ومن خلف الزجاج، تتراءى المئات من الساعات من أزمنة مختلفة، بألوان وتصاميم متنوعة، وضعت في كافة أرجاء المتجر دون ترتيب واضح.

في الداخل، يجلس عبدالكريم البالغ من العمر 52 عاما والمعروف بـ”أبويحيى” على كرسيه أمام مكتب خشبي قديم، محاطا بالساعات من الجهات الأربع.

تنتشر الساعات في كل مكان، داخل صناديق بلاستيكية على الأرض وفي علب كرتونية على الرفوف وداخل حقائب مختلفة، ما يجعل التنقل داخل المتجر الضيّق مهمة صعبة، لكن الرجل يعرف تفاصيله ومكان كل ساعة عن ظهر قلب.

بدأ عبدالكريم تصليح الساعات في سنّ الحادية عشرة بعد وفاة جدّه الذي أسس المتجر قرابة العام 1940. وتعلّم المهنة من والده على مدى أعوام قبل أن يتقاعد هذا الأخير ويأخذ عبدالكريم مكانه.

يقول الرجل الخمسيني، إن شارع الرشيد كان يعجّ بالعشرات من محلات تصليح وبيع الساعات خلال الثمانينات، لكنها باتت تعد على أصابع اليد الواحدة الآن.

ويضم الشارع الذي كان ذات يوم مركزًا ثقافيًا نشطًا في قلب بغداد، ويبلغ طوله 4 كيلومترات، جوامع تراثية، وأسواقا قديمة مشهورة هي سوق هرج وسوق السراي وسوق الصفافير والشورجة وشارع المتنبي وخان مرجان، والمتحف البغدادي.

نوادي الثقافة ودورها ذهبت ريحها
نوادي الثقافة ودورها ذهبت ريحها

قد يكون للتكنولوجيا دور في تراجع الإقبال على الساعات اليدوية، لكن عبدالكريم ينسب المسؤولية أيضا إلى التحولات العميقة التي شهدتها المدينة.

مع ذلك، يرفض عبدالكريم فكرة أن الساعات صارت شيئا من الماضي، ويستدل على ذلك بتدفق الزبائن على المحل أغلب ساعات النهار، ويعتبر أن “الأناقة تبدأ من الساعة”.

يزور المتجر أشخاص من أعمار وانتماءات مختلفة، من الباحثين عن ساعات زهيدة إلى المولعين بجمع أخرى ثمينة وبينهم وزراء ومسؤولون سابقون، ويؤكد عبدالكريم بفخر، أن “الكل يجد ضالته هنا”.

ويرجع الرجل كثرة زبائنه إلى الثقة التي بناها طوال عقود.

يرى هذا الساعاتي صاحب تقاسيم الوجه وحركات الجسد الهادئة، أن ديكور محله “الذي لم يتغير منذ نحو 50 عاما” يشكّل عنصر جذب أيضا، وهو لا ينوي تحديثه “للحفاظ على هوية المكان”.

يصلح عبدالكريم نحو خمس ساعات يوميا، لكنّه يقول إن نظره في تراجع، ويقدّر أنه سيضطر إلى التقاعد “خلال خمسة أعوام على الأكثر”، مع أنه يريد مواصلة العمل “أطول ما يمكن”.

على الرغم من ذلك، لا يبدو أن مستقبل المحل الأقدم في شارع الرشيد مهدد، إذ يعكف عبدالكريم على تدريب ابنيه يحيى (24 عاما) ومصطفى (16 عاما) على أمل أن يخلفه أحدهما وأن ينقل هذا الإرث العائلي إلى أحفاده.

يبدو ولع عبدالكريم بمهنته واضحا في كلامه، لكنه يكشف أيضا تمسكا بشارع الرشيد “المختلف عن بقية مناطق بغداد”.

وتأسس الشارع مطلع القرن العشرين ليكون إحدى أولى الجادات الحديثة في البلاد، وتغيّر اسمه أكثر من مرة ليستقر في الثلاثينات على “الرشيد” نسبة إلى الخليفة العباسي هارون الرشيد.

ينفخ الرجل دخان سيجارته وهو يستذكر بحنين معالم الشارع وأجواءه خلال شبابه في الثمانينات والتسعينات.

ويتحدث مطولا عن دور السينما والمسارح والمقاهي والمتاجر “التي لا تغلق أبوابها ليلا” والزبون الذي باعه ساعة في الثالثة فجرا.

التجاعيد تكسو أشهر شوارع بغداد
التجاعيد تكسو أشهر شوارع بغداد

يقول إنه كان يبيع ويصلح “ما يصل إلى 500 ساعة كل أسبوع” في الثمانينات، قبل أن تتراجع كثافة العمل في العقد التالي نتيجة العقوبات الاقتصادية التي فرضت على البلاد، لكن ذلك على شدّته لا يقارن بما جرى إثر الغزو الأميركي وإطاحة نظام الرئيس صدام حسين عام 2003.

ومنذ بداية القرن الماضي، كان الشارع مسرحا لثورة العراقيين ضد الاستعمار البريطاني، وبقي منذ ذلك التاريخ ساحة للتحركات الشعبية ضد الأنظمة السياسية في البلاد.

يخوض المحتجون الشباب اليوم احتجاجات للتنديد بالفساد، وشح الخدمات وندرة الوظائف بالرغم من ثروة العراق النفطية الهائلة.

وعاش عبدالكريم على غرار بقية العراقيين “معاناة الصراع الطائفي” الذي بلغ ذروته بين عامي 2006 و2008.

كان وصوله إلى المحل يتطلب منه “قطع خمسة كيلومترات سيرا على الأقدام” نتيجة غلق الطرقات واضطراره إلى تغيير مكان سكنه.

وأدى ذلك إلى “تراجع عدد الزبائن بنحو 90 في المئة مع مغادرة كثيرين لبغداد”، لكنه حرص حينها على مواصلة فتح المتجر قدر الإمكان.

يخبر أنه تدريجيا “انمحت معالم الشارع” و”انتقل أغلب أصدقائي” إلى خارج البلد أو نحو مناطق تجارية جديدة في العاصمة بعد أن باعوا محلاتهم التي تحول معظمها إلى تجارة الزيوت وقطع غيار السيارات والأدوات الكهربائية.

أما الشقق ذات الطراز البغدادي العتيق المصفوفة فوق المتاجر والتي كانت تسكنها غالبية من اليهود مطلع القرن العشرين، فقد صار أغلبها خاويا ومتداعيا لغياب الترميم والعناية.

يقول يوسف عبدالكريم بحسرة “كنت أتمنى أن يصبح الوضع أفضل بعد سقوط نظام صدام حسين، لكنه تغيّر إلى لأسوأ”، رغم ذلك، يؤكد “سأبقى متمسكا بمهنتي”.

20