زيارة قطر سرا أو علنا مؤشر على فساد النواب الأوروبيين

ملفات الفساد التي تم كشفها مؤخرا وتورط فيها نواب وحقوقيون أوروبيون وضعت زيارة قطر كأحد المؤشرات على الفساد، وقد تدفع البعض من “حلفائها القدامى” من حقوقيين ونواب إلى تجنب زيارتها خوفا من أن يوضعوا في دائرة الشك.
لندن - توصلت التحقيقات التي تجريها النيابة العامة البلجيكية بالتعاون مع البرلمان الأوروبي، من الناحية الفعلية، إلى وضع مؤشر جديد يقوم على ما إذا كان المشتبه بارتكابهم أعمال فساد قد زاروا قطر أم لا، وهو “مؤشر” يجعل كل شكل من أشكال الدعوات لزيارة الدوحة نوعا من تهمة مسبقة، على اعتبار أن النتيجة منها غالبا ما تكون مشابهة للدعوات التي انتهت إلى الحصول على مكاسب غير مشروعة.
وبناء على هذا “المؤشر”، طلبت السلطات البلجيكية رفع الحصانة عن مارك تارابيلا عضو البرلمان الأوروبي الذي أقر بقيامه بزيارة غير معلنة إلى قطر، ليكون ثاني مشتبه به على أساس “الزيارة” بعد النائبة في البرلمان الأوروبي ماري أرينا التي أقرّت بأنها لم تعلن عن زيارة مماثلة إلى الدوحة.
وتعرض منزل تارابيلا للتفتيش بحثا عن رزم محتملة من الأموال، ولكن القناعة بين المحققين هي أن فرص العثور على رزم مماثلة للرزم التي تم العثور عليها في منزل النائبة إيفا كايلي أصبحت احتمالا بعيدا بعد حملات التفتيش السابقة التي طالت عددا من نواب البرلمان الأوروبي.
ووضعت زيارة قطر، زائد تصريح أدلى به في البرلمان الأوروبي في نوفمبر الماضي أشاد خلاله بـ”التطور الإيجابي” للحقوق في قطر، وعلاقته الوثيقة مع بيار أنطونيو بانزيري عضو البرلمان الأوروبي السابق الذي ينظر إليه على أنه “العقل المدبر” للعلاقات بين قطر وعدد من النواب، تارابيلا تحت طائلة شبهات جديرة بالاعتبار.
الأبحاث التي شملت العديد من النواب خلقت أجواء تفيد بأن زيارة معلنة أو غير معلنة هي مؤشر على وجود علاقة فساد محتملة
وأقر تارابيلا بالقيام بزيارة مدفوعة التكاليف إلى قطر في فبراير 2020 من دون إعلام البرلمان، رغم أنه ملزم بذلك. وقال محاميه إنه “تمت دعوته لحضور مؤتمر.
المنظمة دفعت التكاليف. وإنه لا شيء غير قانوني في أن تدفع منظمة ما تكلفة زيارة”، وأكد أن النائب الاشتراكي “ذهب لمشاهدة تشييد الملاعب وطلب مقابلة عمال”.
أما النائبة الاشتراكية البلجيكية في البرلمان الأوروبي ماري أرينا فقد أقرّت بأنها لم تعلن عن زيارة إلى قطر في مايو 2022 دفعت الإمارة تكلفتها، وبررت ذلك بان طاقم مكتبها نسي الأمر وأن وثيقة الإعلان عن أي زيارة “معقدة إلى حد ما”.
وكانت أرينا قد استقالت من رئاسة اللجنة الفرعية لحقوق الإنسان في البرلمان الأوروبي، وهو منصب سبق أن شغله بانزيري. ولم تواجه أرينا طلبا من السلطات البلجيكية برفع الحصانة عنها، إلا أن منزلها كان قد تعرض للتفتيش أيضا.
وخلقت قائمة “المشتبه بزيارتهم قطر” التي شملت العديد من النواب في عدة برلمانات أوروبية، ومسؤولين عن منظمات نقابية وحقوقية، أجواء في الأوساط السياسية الأوروبية تفيد بأن زيارة معلنة أو غير معلنة هي مؤشر على وجود علاقة فساد محتملة بالنظر إلى الطابع المحموم الذي تعاملت به قطر مع الانتقادات التي وجهت إلى سجلها الحقوقي الخاص برعاية مئات الآلاف من العمال الذين عملوا في بناء منشآت المونديال.
وهذا المؤشر هو ما دفع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى القول إنه يتحمل “كامل المسؤولية” عن زيارته إلى الدوحة خلال مبارتي فريق بلاده لكرة القدم في نصف نهائي المونديال مع المنتخب المغربي، وفي النهائي مع منتخب الأرجنتين.
وعلى الرغم من أن ماكرون التقى بأمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، إلا أن دفاعه عن الزيارة وتحمله “كامل المسؤولية” عنها يمثل إقرارا ضمنيا بأنها مثيرة للشبهات وإنه على دراية تامة بما قد تورثه من انطباعات.
ويقول مراقبون إن زيارة قطر ستظل مبعث إثارة للشبهات إلى درجة يمكن أن تؤدي إلى “مقاطعة” غير منظورة من جانب مسؤولي المؤسسات العامة والمنظمات الأهلية الأوروبية. كما أن كل أعضاء الشبكات التي ارتبطت بقطر، سواء الذين لاحقتهم اتهامات أم الذين بقوا في مأمن منها سوف يكونون عاجزين عن متابعة علاقاتهم مع الدوحة أو إسداء الخدمات لها.
وعلى سبيل المثال، فإن العديد من الشخصيات السياسية الذين عملوا كأعضاء في مجلس الإشراف على منظمة “مكافحة الإفلات من العدالة” التي أسسها بانزيري أعلنوا عن استقالتهم من العمل مع المنظمة.
ويسود الاعتقاد بأن هذه المنظمة هي إحدى الشبكات التي اعتمدت عليها قطر لاصطياد شخصيات سياسية مؤثرة بوصفها كـ”جماعة ضغط” رغم أنها ليست مسجلة رسميا على هذا النحو. وبينما تقول المنظمة إن مهمتها الرسمية مطاردة مجرمي الحرب، إلا أن النيابة العامة البلجيكية قالت إنها من الناحية العملية كانت تقدم خدمات لقطر.
وتشير التحقيقات إلى أن المفوض السابق في المفوضية الأوروبية ديميتريس أفراموبولوس كان قد حصل على 60 ألف يورو كمكافأة مقابل عمله “التطوعي” في مجلس الإشراف على المنظمة.
وشملت دائرة الاتهامات لوكا فيسينتيني الأمين العام السابق للاتحاد الدولي للنقابات، الذي كان على اتصال بمنظمة “مكافحة الإفلات من العدالة”، وقال إنه تلقى تبرعا بحوالي 50 ألف يورو من المنظمة، بعضها لسداد كلفة حملته الانتخابية لمنصبه.
وكان فيسينتيني زار قطر في أكتوبر الماضي واجتمع مع وزير العمل القطري علي بن صميخ المري وجلس على ذات الكرسي الذي جلست عليه نائبة رئيسة البرلمان الأوروبي إيفا كايلي في أكتوبر الماضي أيضا قبل أن تنفجر الفضيحة التي أدت إلى سجنها مع ستة أشخاص آخرين عُثر في منازلهم على أموال نقدية تبلغ نحو 1.5 مليون يورو.
ومن المعروف أن منظمة “الشفافية الدولية” تصدر تقريرا سنويا لمؤشر مكافحة الفساد، يقوم بالدرجة الرئيسية على تقييمات تقدمها جامعات ومراكز بحوث مثل “المعهد الدولي للتنمية الإدارية”، و”لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية لأفريقيا” و”المنتدى الاقتصادي العالمي”، و”مركز بحوث السوق الدولية” وغيرها.
ولم يسبق من قبل أن أصبحت زيارة بلد من البلدان هي بحد ذاتها مؤشرا على احتمالات فساد. إلا أن الأمر أصبح نوعا من حقيقة ثابتة من خلال التحقيقات التي تقوم بها النيابة العامة البلجيكية بالتعاون مع البرلمان الأوروبي. وذلك بالنظر إلى أن العديد من المسؤولين السياسيين والنقابيين والشخصيات العامة الذين زاروا قطر وجدوا أنفسهم، باتهامات أم من دونها، تحت طائلة الشكوك والشبهات.
وفي العادة، فإن مؤشر الفساد العالمي يركز في اهتمامه على دائرة علاقات الفساد الداخلية في بلد من البلدان، مما يؤدي إلى إضعاف أنظمة العدالة والقانون، ويدفع إلى تفكيك المعايير الأساسية التي تتخذ على ضوئها القرارات الحكومية. ولكن لم يحدث من قبل أن أصبح بلد، هو نفسه محدود الفساد، مصدرا للفساد في دول أخرى.
وتحتل قطر المرتبة 31 في مؤشر مكافحة الفساد لعام 2021، ما يجعلها واحدة من أفضل دول العالم، بينما تحتل سوريا والصومال المرتبة 178 والعراق المرتبة 154 ولبنان المرتبة 140. إلا أن قطر تحتل الآن المرتبة الأولى في قائمة الشبهات، من وجهة نظر البرلمان الأوروبي والمؤسسات الأوروبية الأخرى، حتى ليكاد من المستحيل أن يزورها مسؤول من دون أن يتخذ لنفسه احتياطات مسبقة تجعله مؤهلا للقول إنه يتحمل “كامل المسؤولية” عن الزيارة.