زيادة الإقبال الخليجي على القاهرة لغايات اقتصادية وسياسية

يلاحَظ في المدة الأخيرة تركيز خليجي لافت على الاستثمار في مصر التي تعرف أن الأمر لا يتعلق بالعائد المالي لهذه الاستثمارات، وأن الهدف منها دعم البلاد للخروج من الأزمات التي تعيشها ومساعدتها على إنجاح الإصلاحات التي بدأتها في السنوات الماضية لإنقاذ اقتصادها.
عندما ناشد الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي الدول الخليجية الصديقة مؤخرا تحويل ودائعها في البنك المركزي إلى استثمارات كان يعلم أن الدعوة ستجد صدى إيجابيا لأن الأزمة الاقتصادية التي تمر بها البلاد محتدمة وقد تصطحب معها تداعيات قاتمة تؤثر على المنطقة ومصالح من فيها، لذلك لا تصلح معها مسكنات مؤقتة.
واستجابت الإمارات والسعودية، ثم جاءت قطر مع زيارة أميرها الشيخ تميم بن حمد آل ثاني إلى القاهرة لتبدي استعدادا للمزيد من الاستثمار الذي لم ينقطع طوال الفترة الماضية، ولكل دولة دوافع اقتصادية وسياسية من وراء زيادة حصتها في مصر.
وتبدو الحماسة هذه المرة مختلفة عن المرات السابقة، لأن المطلوب تدفقات مالية كبيرة يمكنها أن تحدث انتعاشة اقتصادية سريعة في مصر، وتجلب المزيد من رؤوس الأموال الأجنبية التي تسهم في وقف نزيف العملات الصعبة وتمنح الإصلاحات الاقتصادية دفعة مادية جديدة تمكنها من مقاومة الصعوبات.
وتستثمر دول الخليج في أماكن شتى في العالم وصناديقها السيادية العامرة تراكمت لها خبرات جعلتها تستطيع أن تحدد بسهولة المناطق التي تستحق والواعدة وتلك التي يجب أن تتجنبها؛ فالاستثمار عموما بات إحدى أدوات السياسة الخارجية، حيث يوفر للدولة، أي دولة، وسائل للتأثير على القضايا التي تهمها وإحداث تغيير في التوجهات داخل الدول المستهدفة، وهو ما رفع تأثير الاستثمار ونقله من الاقتصاد إلى السياسة.
عرض موانئ مصرية وشركات للخصخصة يمثل حافزا مهما لبعض الدول المغرمة بالاستثمار في مجالات حيوية
وانتبهت غالبية دول الخليج إلى هذه النتيجة مبكرا، وضاعفت من ضخ رؤوس الأموال في دول عديدة وفي مجالات متنوعة، ووصلت إلى دول في أقصى أفريقيا وأميركا اللاتينية وآسيا، ناهيك عن الولايات المتحدة ودول أوروبية عديدة، ووظفت عائدات ثروات النفط والغاز بطريقة حكيمة.
ولم تكن دعوة الرئيس السيسي عاطفية أو مقتصرة على الروابط التاريخية مع الدول الخليجية، بل لها دوافعها المحلية والإقليمية والدولية التي أسهمت في رفع أهميتها في الخطاب الرسمي كي تحقق أهدافها القريبة والبعيدة، وينطوي هدفها الاقتصادي على آخر سياسي سوف تظهر تجلياته في المستقبل.
محليا اتخذت مصر جملة من الإجراءات التي ستمكنها من تشجيع رأس المال الخليجي على المزيد من التدفق إلى البلاد. ولم تكتف ببرنامج الإصلاحات الذي تبنته الحكومة منذ ستة أعوام، حيث أضافت إليه إغراءات تتولى تحسين بيئة الاستثمار، ومشاركة القطاع الخاص في الاستحواذ على بعض الشركات العامة المغرية التي يفضي التحكم في مفاصلها إلى تحقيق مكاسب متعددة لا تتوقف حصيلتها عند الاقتصاد.
ويمثل عرض عدد من الموانئ المصرية وشركات وطنية ذات سمعة ديدة للخصخصة حافزا مهما لبعض الدول المغرمة بالاستثمار في مجالات حيوية، ويؤكد عمق التغير الحاصل في الإدارة التي تريد مواجهة التحديات الاقتصادية بكل جدية قبل أن تترتب عليها روافد تؤدي إلى غضب شعبي ينعكس سلبا على قوة النظام الحاكم وبالتبعية قد تصل تداعياته إلى حلفائه في الخليج العربي.
وإقليميا ترى مصر أن هناك أحاديث مختلفة حول مشاريع للتعاون بين دول المنطقة ذات منحى اقتصادي، وأن الدولة التي لديها حوافز ربما تستقطب جزءا كبيرا من رؤوس الأموال الخليجية التي أصبحت وسيلة لتعزيز العلاقات السياسية، وأن الانفتاح التركي الراهن على الخليج وتجاوز مرحلة المناكفات السياسية يمكن أن يحوّلا أنقرة إلى منافس رئيسي للقاهرة، لذلك من الضروري أن تهتم مصر بجذب الاستثمارات في البر والبحر.
وتتهيأ مصر لما سيجري من تحولات في منطقة تستعد لحدوث تغيرات في شكل التعاون الإقليمي الذي يتخذ من الاقتصاد مدخلا مهما له لتحقيق عائد سياسي مرتفع لاحقا، وما لم تتمكن من استقطاب رؤوس أموال خليجية كبيرة بعد توفر الأجواء المناسبة لها سوف تنتقل رؤوس الأموال إلى دول أخرى على استعداد لتقديم إغراءات كبيرة.
وبدأت المنافسة الإقليمية تتخذ شكلا استثماريا، فقوة الاقتصاد أو ضعفه هما اللذان يحددان بوصلة السياسة في الداخل والخارج، الأمر الذي تنتبه إليه مصر جيدا؛ فبعد اتخاذها حزمة من الإصلاحات الهيكلية تستعد للمرحلة التالية التي تعتمد على الاستفادة من رؤوس الأموال الخليجية والمزايا النسبية والتفضيلية التي تتمتع بها القاهرة.
ودوليا أحدثت نتائج الحرب الروسية في أوكرانيا تعديلا في خارطة الاستثمارات العالمية ودقت جرس الإنذار؛ فما جرى لرجال أعمال روس من تطويق ومضايقات ومصادرات وتصفيات مالية، جعل الكثير من المستثمرين يعيدون النظر في وضع جزء كبير من أموالهم في سلة دول غربية، ويفكرون في توجيه جزء منها إلى دول أخرى، وهو ما تسعى إليه مصر، مستفيدة من العلاقات الوطيدة بينها وبين الدول الخليجية.
يقولون إن “رأس المال جبان”، وما لم توفر مصر الفرص الحقيقية والمناسبة لن تتمكن من جذب استثمارات تتجاوز الحدود التقليدية التي تلتزم بها الدول الخليجية لمساعدتها اقتصاديا وسياسيا، فالرهان على أموال مضاعفة يحتاج إلى إحداث تغيير في المعادلة السابقة التي تقوم على المساعدة بقدر وتوازن وتقف عند سقف معين.
ما تتمناه القاهرة يفوق وضع حصة من الأموال في البنك المركزي لتقوية عملتها؛ إذ تعمل على تعزيز الاستثمار
وما تتمناه القاهرة وتطمح إليه يفوق وضع حصة من الأموال الخليجية في البنك المركزي لتقوية العملة المحلية، إذ تعمل على استقطاب أموال لتعزيز الاستثمار وتوسيع نطاقه من أجل إحداث انتعاشة حقيقية في شرايين الاقتصاد الذي يمثل معضلة دقيقة للنظام المصري بعد أن أفرط في الاقتراض من صندوق النقد الدولي والبنوك الأجنبية.
ويحتاج هذا الاتجاه إلى توازن بين الاقتراض والاستثمار، ومهما بلغت الطموحات السياسية للدول الخليجية في علاقتها بمصر فهي في النهاية مربوطة بجملة من الثوابت التي تكفل عدم موافقتها على حدوث خلل في بنية الدولة المصرية والتصدي لأي تطورات تؤثر على هياكلها، ما يجعل القاهرة تميل نحو الاستثمار الخليجي.
وتتغير الآلية التي تتعامل بها الدول الخليجية مع مصر في مجال الاستثمار تدريجيا، حيث تتجه غالبيتها إلى وقف تقديم المنح والمساعدات بلا ضوابط، والعمل على توظيفها بالشكل الذي يمكنها من تحقيق عوائد كبيرة ومباشرة، وتخضع لحسابات عميقة محكومة بالقليل من العواطف والكثير من الحوافز.
وتعد هذه الصيغة عادلة من وجهة نظر الدول الخليجية، ويمكن أن تكون غير ذلك من وجهة النظر المصرية وفقا لصيغة تعتقد أن القاهرة لا تزال هي صمام الأمان الحقيقي للدول الخليجية. ومهما حصل من تفاوت نسبي في التقديرات الخاصة بالتعامل مع بعض القضايا لن تتخلى مصر عن مسؤوليتها القومية حيال دول الخليج العربي.
وظهرت هذه الشفرة كثيرا في الخطابات الرسمية واختزلت مرارا في عبارة “أمن الخليج جزء من الأمن المصري”، والتي لو حدث تعديل سياسي فيها من قبل الدول الخليجية فسوف تظل ثابتا في العقل المصري الذي لم يتخل عن الخليج في أحلك الفترات توترا مع بعض دوله.