روي كوياس: الجمال لا يقل أهمية عن الحقيقة والعدالة والخير

الشاعر روي كوياس يرى أن العرب لعبوا دورا مهما في التاريخ والحضارة البرتغاليين والكثير من الناس اليوم لا يدركون الميراث العظيم الذي تركوه.
الأحد 2021/07/04
هناك دائما أفق للهشاشة البشرية (غرافيكس "الجديد")

لا يمكن للتاريخ أن يغفل قيمة الفترة الزمنية التي كانت فيها شبه الجزيرة الإيبيرية تحت الحكم العربي الأندلسي، وذلك من النواحي الفكرية والعلمية والثقافية والمعمارية، ولعل الأدب كان له نصيبه أيضا في عملية التأثير والتأثر والتفاعل بين مختلف المكونات داخل شبه الجزيرة تلك، بشقيها الإسباني والبرتغالي، فثمانية قرون متعاقبة من الحكم العربي في تلك البلاد لا بد لأدبها أن يأخذ شيئا من خصائص نظيره العربي وسيماه كما نجدها عند الشاعر البرتغالي روي كوياس. هنا حوار مع الشاعر عن تجربته وقضايا أخرى.

لغاية اليوم لا زال الأدب العربي، بقديمه وجديده، من الأشياء التي تجري العناية بها هناك، وما “المعهد البرتغالي العربي للتعاون” إلا ثمرة لجهود متراكمة في بلاد البحارة لإعادة الوصل بين تراثهم القديم، الذي يعتبر التراث العربي الأندلسي جزءا منه، وحداثتهم الراهنة التي هي أيضا تجد في الشعر العربي توأما لها، وشيئا من استمرارية تراثها التقليدي القديم.

ولعل الشاعر البرتغالي روي كوياس (1966) أحد الأصوات الحداثية التي تجد في الثقافة والأدب العربيين جزءا لا يجتزأ من الأدب البرتغالي الراهن، فصاحب “ترتيب العالم” لا يكف عن استحضار الجغرافيا وشعرية المكان في نصه الشعري (وهو ما يمكن اعتباره شيئا من استعراب الشعر في البرتغال)، وبالتالي يمكن اعتباره من أكثر الشعراء الذين يدركون مدى اتساع نطاق الأثر العربي في الحضارة البرتغالية عموما والأدب خصوصا.

الصوفي والشعري

الجديد: بعد ثلاث مجموعات شعرية وهي “مهنة الجغرافي” و”ترتيب العالم” و”أوروبا”، نجد أنك توقفت عن إصدار عمل شعري لك منذ أكثر من خمس سنوات. هل تصح تسمية هذا التوقف نوعا من الصمت الشعري الذي يلوذ به الشعراء خلال فترات متفاوتة من حياتهم؟ وإن كان صمتا، فكيف تحدد علاقتك، شعريا، معه؟

روي كوياس: عقب كتابي الأخير “أوروبا” كانت هناك فترة من الصمت بالفعل، صمت اعتقدت أنه موجود دائما. تعد مسألة تأليف عمل أدبي مهمة شاقة، وأحيانا مرهقة عقليا وحتى جسديا، لذلك علينا أن نترك الكتاب يتنفس، وقبل كل شيء أن ندع مشروع الكتاب ذلك ظلا لأنفسنا، أو شمسا تشرق في صمت.

يعتبر الارتباط بالصمت أمرا جوهريا، حتى صمت عدم الكتابة يعتبر ضربا من ضروب الكتابة. من ناحية أخرى فإن عمل الكتابة – القصيدة هو في الأساس قطعة صمت في حالة نقية، في جزء ضئيل من الوقت.

في الوقت الحالي أكتب كتابي التالي وأعمل على إكماله، فبعد “أوروبا” حصلت على منحة من الحكومة البرتغالية للعمل على كتابي الجديد، وذلك كمنحة للإبداع الأدبي من معهد الكتب والمكتبات (Instituto do Livro e das Bibliotecas) التابع لوزارة الثقافة، وكان من المفروض أن ينشر فعلا، ولكن مع تداعيات الوباء، كذلك أمام الواجبات الأسرية تجاه أطفالي الصغار، ومع كل ما حدث بشكل غير متوقع، فقد تأخر كل شيء للأسف. لكنني لا زلت متفائلا بنشره هذا العام.

على أي حال، نشرت مؤخرا نصوصا متفرقة، في شكل مختارات، داخل البرتغال وخارجها (صربيا، روسيا، إسبانيا، بنغلاديش، الهند، تلك التي أذكرها حاليا)، كما أنني أكتب المقالات بحيث أحب كتابة المقال الأدبي، وكل شيء مرتبط بالغموض.

من منشورات روي كوياس
من منشورات روي كوياس

الجديد: ارتبط الشاعر القديم بالمعجم الجغرافي لبيئته وللأرض عموما حتى تماهى معها، وأنت تختار عناوين مجموعاتك الشعرية بناء على اصطلاحات جغرافية بحتة. ما الذي يجعل الشعر مرتبطا في ماهيته بجغرافيات الأمكنة والأشياء، وما الذي يضيفه العالم الجغرافي للشعر والشعرية ولا يضيفه غيره لهما؟

روي كوياس: سؤال مثير للاهتمام ومميز للغاية، تبدو الإجابة عنه سهلة للغاية، لكنها قد تكون أيضا صعبة للغاية. منذ أولى كتبي ارتبطت أعمالي ارتباطا وثيقا وشكلت نوعا من التناسج، كما لو كانت جميع نصوصها متصلة بشكل لا شعوري مشكّلة مشروعا واحدا، نصا واحدا، وطريقة واحدة لفهم العالم. هذه الأعمال تشير إلى ذلك الاهتمام بالمناظر الطبيعية، ليس كشيء ينبغي وصفه بعناية، بل كشيء يجب اكتشافه، الشعور به وتجربته.

يتولى المؤلف في القصائد دور عالم جغرافي من نوع ما في رحلاته، تنزهاته، في أسفاره من الوديان إلى الجبال، الكثبان، الصحاري، ومن الغابات إلى الجزر المفقودة أو “المدن المدمرة”، يلاحظ ويبلور في هذه المشاهد الطبيعية أسطرا وأفكارا تتبع ترتيبا في الذاكرة.

وهكذا تصبح جميع الأماكن والفضاءات والخرائط غير المكتشفة جسما حيا للذاكرة، وكذلك الإمكانية الوحيدة، بالنسبة إلينا، للحفاظ على ذكرياتنا ونقل تلك الذكريات التي ليست لنا. تذكرنا المباني والمدن والحقول والحدائق أيضا بأداء الذاكرة والماضي وحياتنا، والتي ليست زمانية فحسب بل، ربما بشكل أكثر أهمية، مكانية أيضا، ودائما ما كان وينفرد جورج سيبالد يكتب عن هذا في كتبه ومقالاته.

هذه وجهة نظر تأملية، طريقة فلسفية لمحاولة فهم الزمن، ماضينا وحاضرنا وتاريخنا البشري، وأبحث داخل شبكة من النماذج التي يتم من خلالها تعليق الأماكن في حالة من المد والجزر.

يحمل الفكر الأوروبي هذا الظل من مسار المشاة، حيث أن الأفكار والأنظمة العظيمة التي ابتكرها وطورها علماؤه وفلاسفته وكتابه هي نتيجة، في الكثير من الحالات، لسفر جغرافي وروحي، ونتيجة لذلك عبر مفترق طرق العقليات والمشاعر المشتركة في كل أزمنتها وأمكنتها.

في الكثير من الأحيان ينظر إلى أن القيام برحلة الحج، بالسفر أو حتى بالترحال، كعمل من أعمال اتباع الطريق. من الصعب رؤية عملية بسيطة، يومية وضرورية كالسفر أو كأداء الحج، ما لم يتم ذلك بطريقة رمزية أو مجازية. ومع ذلك فإن القيام بسفر يتطلب أكثر من ذلك، وهو أن يحرك المسافر قدميه وروحه، أي أن تتضمن رحلته الجسدية في ذات الوقت رحلة موازية ذات طبيعة روحانية، ففي رحلة الحج يكون الإطار الذهني الذي يدفع الإنسان إلى الأمام نحو هدف محدد أكثر أهمية من فعل السير الجسدي في الطريق إلى نهايته.

الجديد: في شعرك ملامح دينية صوفية لامعة، واستفاضة في وضع الفروق بين الحياة الدنيوية والغيبيات. وبين السخيف والعميق، يقع صوت الشاعر ويمارس الحفر فيهما كاشفا عن مكامن القوة والضعف فيهما. كيف يساهم الصوفي العميق في تعزيز تجربتك الشعرية؟

روي كوياس: أجل، السعادة الصغيرة والمتواضعة دائما في متناول أيدينا، وكذلك نجد الجمال الذي يسمو فوقنا، والذي يمكن التماثل به مع الله.

ما يبحث عنه شعري باستمرار هو الجمال، وما يلتقطه عملي هو الملموس والأشكال التي تعتبر هي أيضا مؤقتة وعابرة، مستكشفا التوازن بين ما هو مبني وفوضوي، حيث تتواجد الموضوعات العظيمة للموت والجمال والذاكرة والمعرفة وتتشابك في مسار واحد استثنائي.

هذا هو التأمل، وهذه هي الفلسفة والميتافيزيقا التي تقربنا من عالم متسام يمكن أن يكون عالم الله. ثمة بعد للتفكير فيما أكتبه وكأن الأماكن التي نمر بها، والمشهديات الطبيعية، والقصص التي تحدث في حياتنا هي الطريق إلى الفكر، الطريق إلى جوهر الأمور حيث يأتي كل شيء.

في هذه الأوقات الغريبة التي نعيشها اليوم في عالم العولمة الخبيث، من واجبنا أن نعود مرة أخرى إلى البعد الفكري والبعد الديني. دائما ثمة هشاشة في كل شيء، ففي هذا العالم المتسامي غير الملموس – على الرغم من العولمة والحاجة إلى السرعة وما إلى ذلك – نجد الإبداع الفني باعتباره انعكاسا للنشاط الفكري. هنا تظهر الحياة التي تعرفنا والصورة التي تكمن خلف صورة أخرى في طبقات، وتظهر كل صورة على مستوى، مرتبطة بما يسبقها ويتبعها، إذا كان هذا التحول قد حدد مشاركة الجنس البشري مع العالم. هذه أيضا تجربة داخلية، فكرة، رؤية شبه صوفية بمعنى الفلسفة والشعر الصوفي، نقاء.

أستحضر الآن ما كتبه الشاعر والفيلسوف الفرنسي فيليب تانسلين عن ترجمة كتابي “ترتيب العالم” المنشورة في فرنسا عن دار لارماتان “من النظرة المحاصرة في ذاكرة الأصل هذه، والتي تطرح ترتيب الأشياء في تعقيدها السحري، نلتقط الإنسان، الوحش، العناصر وفقا لمواجهة لا هوادة فيها، رقيقة وعنيفة في آن معا”.

ملمح أوروبي

يتولى المؤلف في القصائد دور عالم جغرافي من نوع ما في رحلاته، تنزهاته، في أسفاره من الوديان إلى الجبال، الكثبان، الصحاري، ومن الغابات إلى الجزر المفقودة أو “المدن المدمرة”، يلاحظ ويبلور في هذه المشاهد الطبيعية أسطرا وأفكارا تتبع ترتيبا في الذاكرة

الجديد: صدرت مجموعتك “أوروبا” عام 2016 بعد مئة عام من دخول البرتغال للحرب العالمية الأولى، ولم تغب بعض نصوص المجموعة عن استعادة الحرب. كيف يجري استذكار البرتغال في الحرب من خلال الأدب البرتغالي؟

روي كوياس: مجموعة “أوروبا” هي انعكاس لمفهوم أوروبا الذي يحاول تكوين صورة للمشهديات الطبيعية الحالية أو الماضية في الأجواء والأماكن التي يمكن التعرف عليها أحيانا، على الرغم من أنها، في بعض الأحيان، قد تكون نتيجة مزيج من أوقات مختلفة.

في الكتاب فصل تحت عنوان “دموع الحرب العذبة”، وهو مجموعة من القصائد التي تعد وجهة نظر سياقية حيال معركة السوم عام 1916، كما لو كانت في مكان أو في عدة أماكن مترابطة في ما بينها، وكما لو أن الكاتدرائية أقيمت خلال زمن يحتوي على بوادر انقراضها، كلها مقسمة على موجات متناسقة ومتباعدة، سواء أكانت أجزاء من الجغرافيا، من التاريخ، من العمل البشري، من الماضي الفردي والمشترك أم من ماضي التقوى.

في الأساس، لو أردنا الحرب كفعل ميتافيزيقي، كتأمل في غاية ما، حيث يقترب الصمت وتبسط الأرض هذا الصمت في المسافة. فجأة تذكرت استخدام موضوع الحرب، أحد أعظم مواضيع الإنسانية، للحديث عن أشياء أخرى، ودائما ثمة حزن أكثر من الرعب. في الحقيقة أفكر دائما في التاريخ والذاكرة والتصاوير الطبيعية والوقت والحب.

من خلال هذا المعنى، فإن الحرب التي تدعو إلى تأمل فلسفي تقدم رسما خرائطيا حقيقيا لكل من القارة الأوروبية وأسس الصوت البشري الهش من خلال القصائد والمذكرات التي كتبها فلاسفة وشعراء قاتلوا خلالها، وذلك في أكثر أوقاته تنوعا وأكثر مساحاتنا الثقافية في طور الاختفاء.

في هذه القصائد تنعكس التجربة الإنجليزية والألمانية للحرب أكثر من التجربة البرتغالية، فقد كتب العديد من الجنود مذكرات ودفاتر حربية كما هو معروف، كما كتب البرتغاليون كذلك، وقد كان هناك العديد من البرتغاليين على الجبهة الغربية في الحرب الأولى من الكتاب والرسامين.

أولئك الفنانون تركوا أعمالا مكتوبة ولوحات، وهذه الأعمال جزء من ذلك الزمن وكان لها تأثيرها في ذلك الوقت، إذ أثرت الحرب العالمية على الفن في جميع أنحاء أوروبا، كما أثر هذا المقياس أيضا على الأدب البرتغالي وتميزه من خلال مرويات الحداثة في البرتغال وعبر أوروبا.

تميزت الحداثة البرتغالية، كما هو الحال في البرازيل، بنهجها في الحركات الطليعية خلال ذلك الوقت متجاوزة المعايير الجمالية القديمة من خلال لغة أدبية مبتكرة، وكان الممثلان الرئيسيان لها هما فرناندو بيسوا وماريو دي سا كارنيرو، مؤسسا مجلة Orpheu التي هدفت إلى نشر المثل العليا الحداثية.

بدأنا ننظر إلى العالم كواقع في الاختفاء الدائم، كما لو أننا وسط أنقاض أوهامنا، وننظر إلى عالم يمكن التشكيك فيه باستمرار.

الكتابة وهشاشة العالم

الأدب البرتغالي تميز عبر تاريخه بالحركات العظيمة للأدب العالمي (لوحة: فؤاد حمدي)
الأدب البرتغالي تميز عبر تاريخه بالحركات العظيمة للأدب العالمي (لوحة: فؤاد حمدي)

الجديد: هل ثمة فائدة اليوم لكتابة الشعر؟ ترجمته؟ نشره؟ أو: ماذا يغيره الشعر في وعينا اليوم، علما أن هذه الـ”نا” البشرية ليست واحدة موحدة؟

روي كوياس: سؤال مثير للاهتمام بلا شك، أعتقد أن الإجابة موجودة في سؤالك أستاذ بهاء. علينا التصديق بأن الكلمات والكتب واللحظات والموسيقى بإمكانها تغيير حياة كل واحد منا وجميع الشعوب، فهي توفق بيننا وحياتنا والطبيعة البشرية. إن حب الأدب والثقافة هو أفضل حل بإمكاننا تقديمه للعالم من أجل الإيمان بالمستقبل، فالجمال لا يقل أهمية عن الحقيقة والعدالة والخير لأنه يمنحنا المصالحة مع العالم، يؤكد أفراحنا، يغير حياتنا، ويمنحنا سببا لفهم وقبول رثائنا وعيوبنا.

هذا هو التراث العظيم للشعر والفن والثقافة، وذلك من خلال التأثير على حياتنا، من خلال الجمال أو حتى من خلال توكيد المأساة (والتي تحمل جانبا جماليا في بعض الأحيان)، والفن يجعلنا نفهم العالم جيراننا بشكل أفضل. كلنا واحد ونفس النوع، الجنس البشري الجميل.

جميعنا نعيش، كبشرية، أوقاتا خطرة، أوقاتا تغيير. لا أعرف في أي طريق نسير أو ما إذا كنا نسير بالفعل على أفضل وجه، فأنا متشائم قليلا، تشاؤم إنساني يجب علينا الإدراك من خلاله أن هناك دائما أفقا للهشاشة البشرية في كل ما نقوم به. هذه فكرة ملحّة للغاية إبان القرن العشرين.

ما هو التقدم؟ هل التقدم جيد؟ ما هي الحقيقة؟ الحقيقة ليست مفهوما رياضيا وليست الحقيقة المباشرة، فدائما ما توجد منطقة ظل تتسم بالغموض. نعتقد الآن أن كل شيء يشرح من خلال علاقة مباشرة مع العالم، من خلال شبكات التواصل الاجتماعي (Facebook) على سبيل المثال. نحن نعيش في زمن التنميط، زمن الشفافية المطلقة، لكن هذا التنميط يخفي الجوانب الأساسية للإنسانية، تلك المتعلقة بالغموض، باللغز والرمز. إن مشروع الشفافية التامة المفروض عبر وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي مناهض للثقافة، وذلك بسبب رفضه لكافة رموز فكرة الفن والجمال.

هذه هي الغرضية العظيمة للشعر والفن اليوم، ألا وهي مواجهة هذا الوضع، ولكي ندرك أن هناك المزيد من الأشياء ينبغي علينا تغيير ضميرنا والإيمان بالبهاء ومصير الجنس البشري.

لذا يتوجب علينا مواصلة الكتابة والترجمة والنشر ومع بذل جهد كبير، فالترجمة مهمة جدا وتعد غاية جوهرية، فدونها لا يحدث أي اتصال بين الشعوب ولا يتناقل المعنى، ومن هنا تتزايد أهمية المترجمين اليوم.

يقدم لنا الفن الموضوعات العظيمة لتاريخ البشرية، فيعطينا مفهوم الأسلاف للوقت والتاريخ والماضي، وفي هذا السياق يعتبر الشعر، الرسم، الموسيقى، الفلسفة، بمثابة أساسيات، فهي الفكرة.

لا أعرف ما إذا كنت قد أجبت على سؤالك.

الجديد: لا بد أن أسال أيضا في هذا السياق عن خروج الشعر من بيئته ونزوحه نحو الآخر (الآخرين)، أي الثقافات الأخرى: يضيف له أشياء ويخسره أشياء أخرى. بتأملك لعملية “الارتحال” هذه، ما الذي يشكل خطرا عليه بتحوله إلى ألسنة أخرى؟

روي كوياس: إن عمل الترجمة أساسي، وقد ذكرت ذلك أعلاه بعض الشيء. يمكن للترجمة أن توضح لنا ما هي إمكانيات الشعر في العالم المعاصر، وما هي الحاجة إلى الشعر في هذا العالم، ويمكننا، على سبيل المثال، اكتشاف مكانة بلد ما وصوته، ويمكننا الاقتراب من القارة. ليست الترجمة إمكانية اكتشاف المعنى اللغوي فقط، بل هي أيضا اكتشاف البيئة والمراجع الثقافية لمؤلف وكاتب وبلد، فهي تمنحنا هذه الإمكانية لنقل قارة إلى قارة أخرى، وتشكيل صوت واحد وهو الصوت البشري.

الترجمة مهمة للمؤلفين والمترجمين والقراء أكثر منها للناشرين والنقاد، لنفس الأسباب التي تجعل الأدب مهما أيضا، لأنها مهمة لإحساسنا بأنفسنا كبشر. لن يتم إنكار هذا الدافع الفني والحاجة إلى الفن في جنسنا البشري، فحيثما يوجد أدب تتواجد الترجمة. إنها بحاجة إلى رعاية الآخرين.

تميزت الحداثة البرتغالية، كما هو الحال في البرازيل، بنهجها في الحركات الطليعية خلال ذلك الوقت متجاوزة المعايير الجمالية القديمة من خلال لغة أدبية مبتكرة

بالطبع تعتبر عملية الترجمة معقدة بالفعل، وهذا هو سبب أساسيتها. إن ترجمة الشعر صعبة للغاية، خاصة عندما نتحدث عن لغات وثقافات مختلفة، وكذلك الحساسيات التي تبدو متباعدة في بعض الأحيان رغم تقاربها، وكذلك الأصوات والإيقاعات تبدو مختلفة، كما لو أن الأمر بين أوروبا والشرق الأوسط.

دي كامويس وبيسوا

الجديد: عرفنا البرتغال عالما شعريا جميلا بدءا من عصر النهضة مع لويس دي كامويس وصولا إلى العصور الحديثة مع فرناندو بيسوا وأوغينيو دي أندرادي وغيرهم. حدثنا باختصار عن تطور الأدب البرتغالي عبر العصور.

روي كوياس: اللغة البرتغالية لغة عالمية، وواحدة من أكثر اللغات انتشارا حول العالم، كما هي اللغة العربية الجميلة أيضا وذات الغنى الثقافي الواسع. اللغة البرتغالية هي اليوم تراث مادي وغير مادي يوحد الملايين من الناس حول العالم من البرازيل إلى الشرق الأقصى، والأمر نفسه ينطبق على اللغة والثقافة العربيتين، إذ لا يمكننا نسيان تراثنا العربي الرائع.

عندما كنت في الهند، في غوا تحديدا قبل بضع سنوات وبصفتي ضيفا في معهد كامويس في المدينة، استطعت أن أشهد كيف يتحرك هذا الأمر، فحتى اليوم لا زالت غوا تتكلم بالبرتغالية وتعد لغة مكتوبة. كما سمعت اللغة البرتغالية في شوارع بانجيم وأتيحت لي الفرصة لإلقاء محاضرة على الطلاب البرتغاليين في غوا. كانت واحدة من أكثر اللحظات إثارة في حياتي، ألا وهي تمكني من سماع البرتغالية المنطوقة في الهند، في هذا المكان البعيد، وهذا يعني أن تاريخ الأدب البرتغالي كان مسؤولا عن ذلك أيضا.

ليس الأدب البرتغالي هو الأدب المكتوب في البرتغال فحسب، بل هو أيضا الأدب المكتوب في البلدان الناطقة بالبرتغالية كالبرازيل وأنغولا وموزمبيق.. إلخ.

لا يسعني إلا التأكيد على أن اللغة البرتغالية، وكذلك الفنون والعلوم والهندسة المعمارية وما إلى ذلك، تأثرت باللغة العربية بشكل كبير، إذ نستخدم اليوم المئات من الكلمات والتعابير ذات الأصل العربي، فعلى سبيل المثال كلمة Alforria والتي تعني الحرية، وكذلك كلمة Alvara ومعناها البراءة، وكلمة Açucar أي السكر، وعبارة oxalá أي إن شاء الله.. كان للغة والثقافة العربية تأثير كبير على اللغة البرتغالية وبالتالي على أدبها، فلا يمكننا تناسي حقبة بلاد الأندلس الرائعة، وهو الاسم الذي أطلقه الفاتحون الإسلاميون على شبه الجزيرة الإيبيرية في القرن الثامن.

ودون أن نخوض بعمق في هذا الموضوع، فقد تميز الأدب البرتغالي أيضا عبر تاريخه بالحركات العظيمة للأدب العالمي، ولا شك أن أعظم مؤلفين برتغاليين في كل العصور هما لويس دي كامويس وفرناندو بيسوا، الأول خلال القرن السادس عشر والثاني خلال القرن العشرين.

ومن المثير للاهتمام أن كلا المؤلفين قد عاشا خلال فترتين بارزتين من تاريخ البرتغال: الأول زمن الاكتشافات الجغرافية والملاحة البرتغالية، والتي ترافقت مع آداب عصر النهضة المستوحاة من الثقافات الكلاسيكية الإغريقية واليونانية؛ والثاني خلال النصف الأول من القرن العشرين الذي تميز بالحداثة، الحداثة التي اتبعت الموضوعات الصوفية والدينية وإضفاء الطابع المثالي على الطفولة والريف، وهي التي ميزت الرمزية البرتغالية لدى الشاعر سيساريو فيردجي (1855 – 1886). كان للأخير أثر كبير على السوداوية البرتغالية النموذجية لدى فرناندو بيسوا، نظرة حنين معينة إلى لشبونة، شيء مثل مكان ضائع في ضباب الزمان والمكان.

فترة أخرى مثيرة للاهتمام للغاية في الأدب البرتغالي، كما هو الحال في الآداب الأوروبية وخاصة الألمانية والإنجليزية، ألا وهي الفترة الرومانسية المتمثلة بألميدا غاريه وكاميلو كاستيلو برانكو. هذه الفترة، كما هو معروف، قدمت الحب والحنين إلى الماضي والحزن والذاتية وإنقاذ الماضي التاريخي في العصور الوسطى كمواضيع أسطورية ورئيسية. لطالما كانت الرومانسية حركة مهمة جدا بالنسبة إلي، وأعتقد أنه من المهم للغاية العودة إلى موضوعات الرومانسية في الوقت الحاضر، لأن الجمال في الحياة، في الغابة، في الزخارف، في الهندسة المعمارية، في الكتب وفي الحب الذي لطالما سعت إليه الرومانسية كمثل، يعاني من خطر الضياع حاليا.

واليوم، في مواجهة الموجة الخبيثة من الهيجان العددي البيروقراطي والإفراط في الرؤية، تذكرنا الرومانسية بالهشاشة، بضوء الشك والاستبطان الباهت، بغير المحسوس والمخفي الذي هو البناء البشري، وبالتاريخ. ويجب أن تسلط رموز الرومانسية الضوء على حياتنا أكثر من أي وقت مضى.

في الآونة الأخيرة خلال هذه الفترة المعاصرة، تميز الأدب البرتغالي بشكل أساسي بوجود الكاتب جوزيه ساراماغو الحائز على جائزة نوبل، ويبرز بالإضافة إليه أنطونيو لوبو أنطونيس، بالإضافة إلى العديد من شعرائنا العظماء أمثال روي بيلو، صوفيا دي ميلو براينر أندرسن، أوغينيو دي أندرادي، غاستاو كروز ونونو غوديس.

يجب أن يفوز نونو غوديس، ولحسن الحظ لا زال على قيد الحياة، بجائزة نوبل، فهو في الواقع يمثل حزنا برتغاليا محددا وهاما للغاية، ورؤية لكيفية مرور الأوقات العابرة، والمسارات التي نسلكها، وهناك أيضا تأمل فلسفي أساسي، وبحث عن الجمال من أجل الموضوعات العظيمة والأبدية للبشرية.

أريد أن أذكر أن هناك العديد من الشعراء والكتاب البرتغاليين الذين كرسوا أنفسهم طوال حياتهم للأدب العربي وترجمة الشعر العربي والترويج له، فالشعر باللغة العربية مهم جدا في البرتغال ويعتبر جزءا من تاريخنا.

العرب والبرتغال

نظرا إلى موقعها الجغرافي، ظلت البرتغال، شأنها شأن إسبانيا، مكانا للقاء مختلف الشعوب عبر تاريخها (لوحة: فؤاد حمدي)
نظرا إلى موقعها الجغرافي، ظلت البرتغال، شأنها شأن إسبانيا، مكانا للقاء مختلف الشعوب عبر تاريخها (لوحة: فؤاد حمدي)

الجديد: عرفت البرتغال في العصور الوسيطة فترة حكم عربي أندلسي، وأهم ما تبقى من آثارها هي قلعة Paderne إحدى القلاع السبع التي تزين علم البلاد. ما الذي بقي من الثقافة العربية اليوم وترك آثاره في الثقافة البرتغالية؟

روي كوياس: نظرا إلى موقعها الجغرافي، ظلت البرتغال، شأنها شأن إسبانيا، مكانا للقاء مختلف الشعوب عبر تاريخها، فهي نقطة الالتقاء بين المحيط الأطلسي والمتوسط المسيحي والمتوسط الإسلامي، كما أنها تربط بين بحرين: البحر المتوسط مركز العالم القديم، والمحيط الأطلسي بوابة العالم الجديد.

خلال القرن الثامن الميلادي عبر العرب والبربر، وهم مجموعة من شعوب شمالي أفريقيا، مضيق جبل طارق وبدأوا في غزو شبه الجزيرة الإيبيرية، وبقي وجود هؤلاء في البلاد لما يقارب الثمانية قرون واستقروا بشكل رئيسي في مناطق معينة اعتمادا على المناخ وظروف التربة والسكان الموجودين مسبقا وكذلك الاختلافات العرقية أو القبلية.

ومن هنا أصبح التباين بين شمال البرتغال وجنوبها أكثر وضوحا، فالعرب لم يصلوا إلى أقصى شمال البلاد التي خضعت للحكم المسيحي، ولم يكن التأثير على سكان شبه الجزيرة هو نفسه في كافة المناطق، ففي البرتغال تجلى التأثير العربي في إستريمادورا وبيرا ليتورال، وبشكل خاص في المناطق الجنوبية خاصة في ألغارفي (الغرب). يمكن تفسير هذا الوضع من خلال التجارة والحرف المزدهرة التي ميزت جنوب شبه الجزيرة الإيبيرية بأكملها.

“الأندلس” هو الاسم الذي أطلقه المسلمون على شبه الجزيرة في بداية القرن الثامن، هذه الأندلس كانت إمارة بادئ الأمر قبل أن تصبح خلافة، ويتوافق الجزء الغربي منها مع جزء من الأراضي البرتغالية الحديثة وتقريبا نحو حدود لوسيتانيا القديمة. وبحلول القرن التاسع ازدهرت المنطقة وتوسعت وضمت العديد من المدن الكبرى: كويمبرا (قلنبرية)، ليسباوا (لشبونة أو أشبونة)، سانتاريم (شنتمرية)، سيلفش (شلب)، مرتولا (مارتلة)، فارو، مريدا (ماردة) وباداخوس (بطليوس).

إن مصطلح “غرب الأندلس” هو في الأصل الاسم الإسلامي للمنطقة بأكملها إلى الغرب والشمال الغربي من نهر غواديانا (نهر يانة كما عرفه العرب)، وهو ما يقابل تقريبا مقاطعة لوسيتانيا الرومانية والقوطية الغربية. وعلى الرغم من مقاومة المسيحيين لوجودهم، لكن الحقيقة هي أن المسلمين أظهروا دائما تسامحا كبيرا تجاه مختلف الشعوب الموجودة على شبه الجزيرة الإيبيرية.

اليوم، وبعد عدة دراسات، من المعروف أن الإرث الإسلامي في المنطقة التي تسمى اليوم بالبرتغال، على الرغم من صغر حجمه مقارنة بإسبانيا، إلا أنه هائل، فالتأثير الثقافي للعرب يظهر بشكل رئيسي في تكوين المستعربين، وفي ديمومة المدجنين وفي الاتصالات مع المراكز الكبرى للثقافة العربية.

الترجمة مهمة للمؤلفين والمترجمين والقراء أكثر منها للناشرين والنقاد، لنفس الأسباب التي تجعل الأدب مهما أيضا، لأنها مهمة لإحساسنا بأنفسنا كبشر. لن يتم إنكار هذا الدافع الفني والحاجة إلى الفن في جنسنا البشري، فحيثما يوجد أدب تتواجد الترجمة. إنها بحاجة إلى رعاية الآخرين

يتجلى التأثير العربي في التغييرات في اللغة، الملابس، الطعام، تقنيات العمل، العادات الشخصية، فعلى سبيل المثال تعتبر العديد من الآلات الموسيقية المستخدمة اليوم في البرتغال، كالكمان والغيتار والعود، مشتقة مباشرة من الآلات العربية، ويعتقد بعض العلماء أن التأثير العربي موجود في موسيقى الفادو، وهو أسلوب موسيقي برتغالي نموذجي يغنى عادة من قبل شخص يرافقه الغيتار الكلاسيكي والغيتار البرتغالي، وهذه الموسيقى مدرجة في قائمة التراث الشفهي وغير المادي للبشرية من قبل اليونسكو.

نشر العرب المعارف الرياضية والفلسفية والعلمية وأضافوا إليها مفاهيم جديدة في الجبر والطب وعلم الفلك والحساب، لنأخذ على سبيل المثال نظام الترقيم العربي الذي يسمى بالأرقام العربية. كما تشكلت مجموعة كبيرة من العلوم الفلكية والرياضية التي جاءت ثمرة جهود سنوات طويلة من الدراسات الإسلامية والمسيحية واليهودية، ويعتبر المسلمون مبتكرين لمصطلحات واسعة ومعقدة غطت كافة فروع العلم.

كان لوصول العرب إلى شبه الجزيرة الإيبيرية ومكوثهم فيها لقرون تأثير قوي على الشعب البرتغالي وثقافته ولغته، فقد تركوا أثرا لا يمحى على الأراضي البرتغالية. يمكن اعتبار تلك المرحلة لقاء بين ديانتين، ومحاولة للتسامح الديني والتعايش بين المسلمين والمسيحيين.

من الصعب تحديد الرقم الدقيق لعدد الكلمات العربية في اللغة البرتغالية المعاصرة، غير أن البعض يعتقد أن عددها يناهز الـ20000 كلمة. لعب العرب دورا مهما في التاريخ والحضارة البرتغاليين، والكثير من الناس اليوم لا يدركون الميراث العظيم الذي تركوه، والاختراعات التي قدموها والاكتشافات الأساسية التي قاموا بها.

ينتمي فصل كبير من التاريخ البرتغالي إلى الديانة الإسلامية والشعوب العربية، ودونه لم تكن البرتغال على ما هي عليه اليوم.

الشاعر البرتغالي روي كوياس أحد الأصوات الحداثية التي تجد في الثقافة والأدب العربيين جزءا لا يجتزأ من الأدب البرتغالي الراهن
الشاعر البرتغالي روي كوياس أحد الأصوات الحداثية التي تجد في الثقافة والأدب العربيين جزءا لا يجتزأ من الأدب البرتغالي الراهن

 

ينشر المقال بالاتفاق مع مجلة الجديد الشهرية اللندنية

11