روسيا تسوّق نفسها كقوة مناهضة للاستعمار في أفريقيا

موسكو تستخدم "دبلوماسية الذاكرة" لتعزيز نفوذها ومصالحها.
الأحد 2023/02/12
روسيا تستثمر في العداء الثقافي الأفريقي للغرب

زيارات وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف إلى أفريقيا من الشرق إلى الغرب كان الهدف منها كسب أفريقيا لصف بلاده والاستفادة من تراجع الدور الغربي. ولدى روسيا ما يكفي من عناصر الإقناع لتجلب الأفارقة إلى صفها أبرزها دورها في مساندة حركات التحرير الأفريقية في الحقبة الروسية.

لندن - سعى وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف في زياراته الأفريقية الأخيرة إلى إقناع قادة القارة بأن بلاده قوة مناهضة للإمبريالية، مستغلا الذكريات الإيجابية للدعم السوفياتي لمختلف حروب الاستقلال الأفريقية ضد المستعمرين الغربيين الاستغلاليين. فلطالما استخدمت موسكو “دبلوماسية الذاكرة” في أفريقيا، مستحضرة ذكريات إيجابية من الماضي لتعزيز نفوذها ومصالحها. لكن هذه التكتيكات تقف الآن في طريق القوة الناعمة الأوكرانية.

“روسيا من بين القوى العالمية القليلة التي لم تكن لها مستعمرات في أفريقيا ولم تشارك في تجارة الرقيق طوال تاريخها. وساعدت بكل طريقة ممكنة شعوب القارة الأفريقية على نيل حريتها وسيادتها”، كانت هذه الرسالة التي أصدرتها السفارة الروسية في جنوب أفريقيا بمناسبة إلغاء العبودية يوم 2 ديسمبر 2022.

رغبة بعض الدول الأفريقية في تبني ادعاء موسكو بالنضال المشترك ضد الغرب ترتبط بالتجربة المؤلمة للإمبريالية

وسارع مستخدمو تويتر في الرد على “عدم وجود مستعمرات روسية في أفريقيا”، مذكرين بأن الاستعمار الروسي طال شعوبا في آسيا وأوروبا الشرقية. والأهم من ذلك أن تصوير روسيا لنفسها على أنها مناهضة للاستعمار قد لاقى السخرية، حيث أن البيان صدر بينما تخوض موسكو حربا إمبريالية لغزو جارتها أوكرانيا.

ويلفت جايد ماكغلين، مؤلف كتاب “الحرب الروسية” والزميل الباحث في كلية الملك في لندن، إن تغريدة السفارة الروسية في جنوب أفريقيا ليست مجرد محاولة أخرى لموسكو حتى تجذب الانتباه لإثارة ردود فعل من خلال الترويج لنفسها كحليف موثوق به وصديق للنخب الأفريقية، فهي جزء من تصوّر روسيا لذاتها أيضا.

ويضيف ماكغلين، في مقال في مجلة فورين بولسي، أنه في حين اعتبر البعض أن اللغة الدبلوماسية الروسية في أفريقيا تندرج ضمن التأثير الخبيث والمعلومات المضللة، سيكون من المفيد دراسة صدى السرد الروسي أكثر من الروايات نفسها، حتى مع تقديمها بسوء نية واضح ومصلحة ذاتية.

وترتبط رغبة بعض الدول الأفريقية في تبني ادعاء موسكو بالنضال المشترك ضد الغرب غالبا بالتجربة المؤلمة والدائمة للإمبريالية أكثر من حبها لروسيا. فلن تتمكن أوكرانيا من تقويض حجج فحسب من خلال التأطير الصحيح، بل سيمكنها أيضا الاستفادة من الشعور المناهض للإمبريالية.

ويتردد العديد من الروس في حقيقة الأمر في اعتبار بلادهم إمبراطورية، بحجة أنه لا يمكن وصف الاتحاد السوفياتي وحتى الإمبراطورية الروسية بنفس الطريقة مثل بريطانيا أو فرنسا لأن الروس عاشوا جنبا إلى جنب مع رعاياهم المستعمرين.

ولا يستند هذا الاستثناء الاستعماري (أو رفض الاعتراف بالطبيعة الاستعمارية لروسيا) إلى الادعاء الرسمي طويل الأمد بأن روسيا لم تغز سيبيريا. وقبلتها الشعوب التي تعيش هناك ورحبت بها، ودخلت في الاتحاد مع روسيا بحريّة. حتى أن كتب التاريخ والأفلام الوثائقية الروسية الشعبية تدّعي أن الأقليات عوملت بشكل أفضل من الروس، حيث كانت روسيا “إمبراطورية مقلوبة” استغلت فيها الأطرافُ المركزَ، الأمر الذي عززه الرئيس الروسي السابق بوريس يلتسين في التسعينات لتشويه سمعة دول البلطيق عندما ناقشت استغلال السلطات السوفياتية لبلدانها.

وتصور الحرب الروسية الحالية في أوكرانيا، على الرغم من كل نفوذها الإمبريالي، على وسائل الإعلام وبين السياسيين الروس على أنها حرب تحرير للأوكرانيين الناطقين بالروسية ومسعى للتغلب على الهيمنة الغربية، وخاصة تلك التي تقودها الولايات المتحدة.

لدى روسيا ما يكفي من عناصر الإقناع لجلب الأفارقة إلى صفها
لدى روسيا ما يكفي من عناصر الإقناع لجلب الأفارقة إلى صفها

كانت الحكومة الروسية ماهرة في تخصيص تاريخ الدعم السوفياتي لعدد من النضالات الأفريقية من أجل الاستقلال واستخدامه لتعزيز صورتها بين العديد من البلدان في القارة. لكن هذا يبقى أكثر من مجرد حنين إلى الماضي. حيث يتعلق الأمر بكيفية تمكن الدبلوماسيين الروس من تأطير حربهم ضد أوكرانيا كرد دفاعي على العدوان الغربي.

وسخّر الكرملين الوقت والطاقة والموارد في إقناع أفريقيا بهذه الرؤية، محققا بعض النجاح. كما استغل السفراء والدبلوماسيون الروس الأحداث العامة والمؤتمرات ووسائل الإعلام في بلدان من الجزائر إلى زيمبابوي للاحتفال بالدعم السوفياتي للحركات المناهضة للاستعمار وإحياء ذكراه.

وقارن لافروف خلال زياراته الأخيرة بشكل مباشر حرب روسيا من أجل “تحرير” أوكرانيا من النفوذ الغربي الخارجي بحرب الاستقلال الأنغولية.

وتندرج مثل هذه المقارنات ضمن مجموعة واسعة من الأنشطة الدبلوماسية الروسية التي تهدف إلى تعميق التحالفات والتأثير الثقافي، من افتتاح النصب التذكارية للجنود السوفييت الذين قاتلوا في الحرب الأهلية في أنغولا إلى كتابة مقالات رأي لصحف زيمبابوية تعيد النظر في مهمة الاتحاد السوفياتي التحريرية.

روسيا من بين القوى العالمية القليلة التي لم تكن لها مستعمرات في أفريقيا ولم تشارك في تجارة الرقيق طوال تاريخها. وساعدت بكل طريقة ممكنة شعوب القارة الأفريقية على نيل حريتها وسيادتها

وتبدو الإستراتيجية فعالة لأن الكثير من دول أفريقيا تحمل ذكريات إيجابية عن الدعم السوفياتي لحركات الاستقلال خلال الحرب الباردة، كما تخرّج عدد كبير من أفراد النخب الأفريقية من جامعات مثل جامعة الصداقة بين الشعوب في موسكو. ويمكن لأولئك غير القادرين على الدراسة في روسيا الانضمام إلى شبكة اجتماعية جديدة تركز على أفريقيا تسمى روسوسفير (المجال الروسي)، التي انطلقت في نفس الوقت تقريبا مع الغزو الروسي لأوكرانيا في فبراير 2022.

ويضم الموقع بالفعل عشرات الآلاف من المستخدمين الذين ينتقدون الفرنسيين ويرفضونهم باعتبارهم مستعمرين في العصر الحديث.

ويحتفل هؤلاء في المقابل بمجموعة فاغنر التي اتُّهمت على نطاق واسع بارتكاب فظائع في جمهورية أفريقيا الوسطى وأماكن أخرى. ومن المفارقات أن تحقيقا أجرته هيئة الإذاعة البريطانية وجد أن الرجل الذي يقف وراء هذه الشبكة هو لوك ميشيل، رجل من بلجيكا التي تعدّ قوة استعمارية سابقة أخرى.

وتُعتمد هذه المنصات والزيارات والأحداث كذلك لتشويه الانتقادات الغربية لروسيا. فعلى سبيل المثال، أمضى لافروف وقتا في مناقشة كيف استعمر الغرب أفريقيا لمصلحته الخاصة خلال زيارته الأولى لجمهورية الكونغو ولقائه بالرئيس دينيس ساسو نغيسو في صيف 2022.

ويستغل المسؤولون الروس مثل هذه الروايات لبناء علاقات مع الدول الأفريقية، ويعدون بعلاقات ثنائية تقوم على الثقة والمساواة واحترام وحدة الأراضي. ويصور لافروف، على عكس الغرب، روسيا كمدافع عن السيادة لن يتدخل أبدا في الشؤون الداخلية.

ويتردد صدى هذا الجدل في بعض أجزاء القارة الأفريقية، وخاصة بين أولئك الذين عانوا مؤخرا من الاستعمار والعبودية على أيدي الغرب. وانعكس هذا في تأكيد رئيس أوغندا أنه “كلما ظهرت قضايا ويريد بعض الناس منا اتخاذ مواقف ضد روسيا، نقول إن هؤلاء الأشخاص وقفوا معنا طوال المئة عام الماضية. كيف يمكن أن تقف ضدهم؟”.

وبالمثل، استشهد حزب المؤتمر الوطني الأفريقي الحاكم في جنوب أفريقيا بالدعم السوفياتي ضد نظام الفصل العنصري كعامل دافع في علاقاته الوثيقة مع موسكو. وستشارك البلاد في التدريبات العسكرية التي تقودها روسيا والمقرر إجراؤها في الذكرى الأولى لغزو أوكرانيا.

رؤية جديدة للدبلوماسية الروسية
رؤية جديدة للدبلوماسية الروسية

لا ينكر أحد (تقريبا) أن الغرب استعمر أفريقيا وفشل في إجراء التعديلات المناسبة، أو أن الاتحاد السوفياتي دعّم بالفعل عددا من حركات التحرر الأفريقية في نضالها ضد القوى الاستعمارية والولايات المتحدة. لكن المشكلة هي أن روسيا والاتحاد السوفياتي كانا يشكلان قوة استعمارية في أماكن أخرى مما يقوّض تفوقها الأخلاقي المزعوم، على الرغم من أن هذا لا يجعل الغضب الذي تستهويه الروايات الروسية أقل صدقا أو قوة.

ويجب التنازل بدلا من ذلك عن الدور لدول أخرى ليس لها تاريخ إمبراطوري، مثل البلدان التي استعمرتها روسيا. يجب أن يعني هذا أوكرانيا أولا وقبل كل شيء.
ولأوكرانيا عدد من المصالح الدبلوماسية في أفريقيا، ليس أقلها الحفاظ على الضغط الدولي على روسيا للالتزام بصفقة الحبوب التي توسطت فيها تركيا والتي من المحتمل أن تعطل بشكل خطير الإمدادات الغذائية لأفريقيا. وتشمل المصالح الأخرى تصويت الأمم المتحدة وتوسيع الدعم الدولي. وركز الدبلوماسيون الأوكرانيون لهذا جهودهم حتى الآن على البلدان التي يرون فيها أهمية إستراتيجية في هذا الصدد (كينيا والسنغال وغانا وساحل العاج).

ويوجد دليل على نظر بعض القادة الأفارقة بالفعل إلى روسيا على أنها المعتدي الإمبريالي وميلهم إلى أوكرانيا، كما يتضح من تصريحات الممثل الدائم لكينيا لدى الأمم المتحدة مارتن كيماني.

وشرح سبب انضمام كينيا إلى 93 دولة أخرى في دعم قرار للأمم المتحدة يدعو روسيا إلى تعويض أوكرانيا، وراسما أوجه تشابه بين الإمبريالية الروسية والغربية، قائلا إن “هذا هو حق أوكرانيا، وحق جميع الشعوب والدول أيضا في السعي للحصول على تعويضات عن العنف الاستعماري ونزع الملكية والعبودية وغيرها من أعمال العدوان من الدول القوية، بما في ذلك أعضاء مجلس الأمن”.

الحرب الروسية في أوكرانيا تصور على أنها حرب تحرير للأوكرانيين الناطقين بالروسية ومسعى للتغلب على الهيمنة الغربية، وخاصة تلك التي تقودها الولايات المتحدة

ورغم امتناع العديد من الدول الأفريقية عن التصويت أو غيابها، صوّت عدد منها لصالح القرار، بما في ذلك الصومال وجيبوتي وغانا التي كانت هدفا لدبلوماسية الذاكرة الروسية خلال صيف 2019.

وسعى وزير الخارجية الأوكراني دميترو كوليبا خلال زيارته في أكتوبر إلى السنغال وساحل العاج وغانا وكينيا إلى تحدي السردية الروسية عبر مجموعة واسعة من القضايا، من تسليم الحبوب إلى الناتو.

ولا تزال القارة ساحة معركة من أجل النفوذ. وفي حين يصعب على الوزراء مغادرة البلاد، قد يكون من المفيد تكليف السفارات بتحديد أيّ أبطال أوكرانيين رئيسيين ساعدوا في النضالات ضد الاستعمار، وتنظيم البحوث، والمؤتمرات، أو عشاء مسائي تكريما لهم لرفع منزلة أوكرانيا في البلد.

وأظهر السياسيون الأوكرانيون استعدادا للانخراط مع أفريقيا واستعدادا لاحتضان العناصر الإيجابية للإرث السوفياتي. وكانت دبلوماسية الذاكرة الأوكرانية التي تستهدف الشعوب المستعمرة داخل الاتحاد الروسي حكيمة، كما حدث في خطاب الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي الذي حشد شعوب دول القوقاز ضد الحرب، أمام نصب تذكاري للبطل الشيشاني الإمام شامل الذي استند إلى تجربة مشتركة للاستعمار الروسي والكفاح من أجل الاستقلال.

وإذا كانت أوكرانيا قادرة على تكييف هذه القصص للجمهور خارج القوقاز، فقد يكون هذا المسار مثمرا. ومن المحتمل أن تكون هذه القصص فعالة، وليس بسبب مهارات زيلينسكي في الاتصال أو صدى القضية، ولكن لأن أوكرانيا ستقول الحقيقة. إنها حرب استعمار وحشية تقاتل من أجل حريتها وتقف إلى جانب المظلوم. إنها ليست مجرد رواية.

7