روسيا تحذر مصر من التخلي عن سياسة تعدد المحاور

روسيا لا تتكلم بشكل مباشر، لكنها ترسل رسائل من هنا وهناك. إحدى هذه الرسائل وصلت إلى مصر لتطالبها بتحديد موقفها من الحرب في أوكرانيا، هل ستكون إلى جانب واشنطن كما توحي بعض التحركات المصرية، أم إلى جانب موسكو.. وعلى المصريين تحديد الإجابة.
يتابع كثيرون كيف تدير مصر سياستها حيال التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا، حيث تسير على خطوط متوازية ودقيقة، وقد جرى التوقف عند دلالات المواءمات التي تقيمها القاهرة للاحتفاظ بعلاقات متوازنة مع أطراف الأزمة الرئيسية، والتي تبدو منحازة إلى موسكو مرة وأخرى تقف إلى جوار واشنطن للخروج من مطبات الخيارات الصعبة في الأزمات المركبة.
ظلت التقديرات الروسية للموقف المصري تتعامل بشيء من الارتياح مع الصيغة التي تتبناها القاهرة، وفهمت الدواعي التي دفعتها إلى معارضة تدخلها العسكري في تصويت سابق تم داخل الجمعية العامة للأمم المتحدة، فإن لم تعلن انحيازها صراحة للولايات المتحدة فهي تظل قريبة من موسكو، ولو أجرت القيادة السياسية في مصر اتصالات بنظيرتها في أوكرانيا أكثر من مرة.
ذهبت تحليلات غربية عديدة إلى أن عدم الوقوف في صف معسكر واشنطن هو وقوف على عتبات موسكو، ما جعلها غير قلقة من بعض التصرفات المصرية التي بدت مؤيدة لواشنطن، فالمحصلة النهائية تصب في صالح روسيا، إذ تمارس الإدارة الأميركية ضغوطا بالغة على عواصم مختلفة لجرها إلى صفها، من بينها القاهرة.
القاهرة لم تعلن عزمها على تغيير تعاملها مع الحرب الأوكرانية، فعدم الإنحياز مريح لها، لكن التطورات يمكن أن تجبرها على تحديد خيارها بوضوح أكثر
يبدو أن روسيا استشعرت تغيرا ما يمكن أن يحدث في التصورات المصرية ربما يفضي إلى الاقتراب من التوجهات الأميركية، فأرسلت رسالة عبر أحد كتابها وهو ألكسندر نازاروف، فكتب مقالا قبل أيام نشره موقع قناة “روسيا اليوم” الناطقة بالعربية والتابعة للكرملين، بعنوان “مصر بين خيارين: روسيا أو الولايات المتحدة”.
قام الكاتب المصري المقيم في موسكو أشرف الصباغ بالتنبيه إلى خطورة هذا المقال على صفحته على فيسبوك، وحرضني تعليقه المهم على العودة إلى أصل المقال.
يوحي المضمون العام بالرضاء عن محتواه من جانب القيادة الروسية ولو كتب الموقع تنويها كعادة الكثير من الصحف والمواقع يشير إلى أن الآراء الواردة مسؤولية أصحابها، فالأصل في القاعدة أن نشر الموضوعات - المقالات المؤيدة أو المعارضة يعبر عن الرؤية السياسية للجهة الناشرة وينطوي على مصلحة خاصة بحساباتها الخفية، فما بالنا إذا كانت هذه الجهة روسية وتابعة للكرملين؟
تؤكد الرقابة على محتوى الإعلام أنه لا وجود لمساحة للاجتهادات الشخصية في مثل هذه القضايا الحيوية، وأن الكثير مما ينشر أو تبثه قنوات رسمية أو شبه رسمية يحوي الكثير من المضامين السياسية التي تريد الدولة الروسية توصيلها، ويقود التفتيش وراء الملفات التي يطرحها هذا الإعلام إلى فهم أهداف الموضوعات التي يتم تسريبها.
ولذلك من المهم التعامل مع مقال نازاروف بجدية وعلى أنه رسالة روسية مطلوب توصيلها إلى القاهرة على وجه السرعة لها وقبل فوات الآوان ومن خلال منبر “روسيا اليوم” التابعة لجهة رسمية، كنوع من التحذير المسبق بأن خسائر مصر يمكن أن تصبح فادحة إذا تخلت عن التوازنات التي أقامتها منذ بداية الأزمة الروسية الأوكرانية.
جاء التحذير أو التذكير مبطنا هذه المرة عبر مقال صحافي لوح بجملة من المزايا التي تتحصل عليها القاهرة من وراء علاقتها بموسكو، ابتداء من تلقيها القمح بأسعار تفضيلية وحتى التنويه بالمصالح الاقتصادية التي تربطها بموسكو وتحديدا المحطة النووية التي تقيمها روسيا في منطقة الضبعة على ساحل البحر المتوسط في شمال مصر والمنطقة الصناعية الروسية شرق محافظة بورسعيد في شرق القاهرة.
يمكن أن تخضع هذه القضايا لأخذ ورد من الخبراء لأن المصالح لا تقتصر على القاهرة فموسكو تستفيد منها وفقا للسياسة البرجماتية التي يتبناها الرئيس فلاديمير بوتين، لكن نقطة الخطورة جاءت من إشارة الكاتب إلى قناة السويس كممر مائي عالمي ومدى ممارسة الولايات المتحدة لضغوط تؤثر على الملاحة الروسية لاحقا.
حوى المقال خصالا سلبية وإيجابية تربط بين القاهرة وموسكو، فتارة يتحدث عن عدم اعتراف الأولى بتبعية شبه جزيرة القرم لروسيا، وأخرى يشير إلى رفض اعتراف موسكو بتبعية مثلث حلايب وشلاتين لمصر، المتنازع عليه مع السودان.
وهو خلط لا يخلو من معان مهمة ولم يأت عشوائيا، وكاد المقال ينوه إلى موقف روسيا من سد النهضة الإثيوبي، وهي الرسالة غير المباشرة التي يمكن استنباطها منه، حيث وقفت موسكو في صف أديس أبابا داخل مجلس الأمن وخارجه.
والخطورة أنه تكفل بقراءة الواقع المصري عندما حذر من اضطرابات اجتماعية جراء توقف استيراد القمح من روسيا، في إشارة بالغة يُفهم منها أن مصير نظام الحكم قد يكون في يد موسكو وليس واشنطن، وهو ما يؤدي إلى رسائل عكسية في مصر.
ويشير المقال إلى أهمية سياسة تعدد المحاور التي أقامتها القاهرة وتسببت في تفكيك ارتباطها بالولايات المتحدة وفتحت لمصر أبوابا حصلت من خلالها على مزايا متعددة.
توقف صاحب المقال عند سرديات متباينة مفادها أن موسكو أكثر جدوى للقاهرة، وفقدانها سيكبدها خسائر باهظة، اقتصادية واجتماعية وسياسية وأمنية، ما جعل للنشر على موقع “روسيا اليوم” أهمية كبيرة، فالمقال لم يقطع بشيء محدد، غير أنه يحمل استباقا لسيناريو غير مستبعد وتتوقع موسكو حدوثه قريبا، فأراد أن يدق جرس إنذار، مستفيدا من الحذر الذي تبديه مصر في التعامل مع الأزمة الأوكرانية وتداعياتها، وملوحا بأن التخلي عن سياسة تعدد المحاور سوف يفقد القاهرة واحدة من أهم مزايا نظام الحكم الراهن فيها، وهو تحريض ساذج لا ينطلي على النظام المصري.
تشعبت الرسالة الروسية، صعودا وهبوطا، وحملت إشارات تؤكد ضرورة ألا تتخلى مصر عن صيغتها الخلاقة الحالية، فاليوم يمكن أن تفقد موسكو، وغدا يمكن أن تفقد بكين التي تنتظر ما يشبه عملية جديدة لتصفية الحسابات من قبل الولايات المتحدة، ومن ثم فالتصميم على التمسك بسياسة تعدد المحاور هو العاصم لمصر من فقدان روسيا والصين، ودول أخرى نسجت مصر علاقات متينة معها في الآونة الأخيرة.
وصلت الرسالة إلى ذروة التحريض عندما ألمح المقال إلى موقف السعودية من الإدراة الأميركية واتجاه الرياض نحو تمتين العلاقات مع الصين من دون خلل بالعلاقة مع الولايات المتحدة، كأن موسكو تريد رسم خارطة طريق للسياسة المصرية.
مضى نحو خمسة أيام على نشر المقال على موقع روسيا اليوم، نشر في الخامس والعشرين من أبريل، ولم تعلق عليه القاهرة بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، ما يعني أنها لا تريد سكب المزيد من الزيت وإضفاء مصداقية على المقال، أو أن ما يتضمنه من تلميحات يقترب من الواقع، وفي الحالتين تبدو العلاقة مع موسكو مرشحة لمكاشفات سياسية تحسم التقديرات المتناقضة التي تخرج من مصر وروسيا، والتي قد يساء فهمها أحيانا.
لم ترشح معلومات مؤكدة في القاهرة تشير إلى أنها عازمة على تغيير تعاملها مع الأزمة الأوكرانية، فصيغة عدم الانحياز مريحة لها، لكن التطورات المتسارعة يمكن أن تجبرها على تحديد خيارها بوضوح أكثر، وعند الوصول إلى هذه المحطة سترجح كفة مصالحها مع الولايات المتحدة، وهو فحوى الرسالة التي حذرت موسكو من الوصول إليها قريبا من خلال مقال ألكسندر نازاروف.