رفض بغداد التعاون مع دمشق يهدد بتبديد إمكانيات الاستقرار في المنطقة

بغداد - يتيح اتفاق السلام بين هيئة تحرير الشام وقوات سوريا الديمقراطية (قسد) فرصة نادرة لاستقرار المنطقة، إلا أن رفض العراق التعاون مع دمشق يُهدد بتبديد إمكاناته.
وبين الولاءات التاريخية والواقع المعاصر، يهدد تردد بغداد التعاون الأمني في مرحلة حرجة، ما يستوجب حسب محللين تدخل الولايات المتحدة، بثقلها العسكري ونفوذها الدبلوماسي، لسد هذا الانقسام مستغلة في ذلك شراكاتها مع الجيش السوري الجديد وبغداد لتوحيد الدولتين ضد مكافحة الإرهاب في المنطقة.
ويقول سركوت شمس الدين، الزميل غير المقيم في برامج الشرق الأوسط بالمجلس الأطلسي، في تقرير نشره المجلس إن عدم التحرك قد يعيد المنطقة إلى الفوضى التي مكّنت المتطرفين في السابق وهي تكلفة لا يمكن للعراق ولا سوريا تحمّلها.
وتبرز الولايات المتحدة كركيزة أساسية في هذه المعادلة الدقيقة. فبعد أن هندست بهدوء اتفاق هيئة تحرير الشام وقوات سوريا الديمقراطية، وهو ما يتضح من خلال طائرات شينوك الأميركية التي نقلت قائد قسد مظلوم عبدي إلى دمشق، أصبح للولايات المتحدة الآن شريك موثوق في الجيش السوري الجديد، بفضل دمج الاتفاق لقوات سوريا الديمقراطية في الإطار الدفاعي السوري.
وإلى جانب تحالفها الرسمي مع بغداد، يُمكّن هذا الولايات المتحدة من سد الفجوة بين البلدين.
نفوذ إيران في بغداد يعقد أي تحول سريع نحو الاعتراف بحكومة الرئيس السوري أحمد الشرع والتعاون معها
وتتمتع واشنطن بنفوذ كبير على كلا العاصمتين: فالعراق يعتمد على الدعم العسكري الأميركي ويسعى إلى تجنب العقوبات، بينما تحتاج الحكومة السورية الجديدة إلى شرعية دولية ومساعدات لإعادة الإعمار، وكلاهما مشروط بحسن نية الولايات المتحدة.
يمكن لواشنطن الضغط على بغداد لتجاوز المظالم التاريخية والتواصل مع دمشق، مع التركيز على التهديد المشترك الذي يشكله داعش.
ومن شأن تسهيل الحوار، ربما من خلال التنسيق العسكري المشترك على المعابر الحدودية، أن يتماشى مع المصالح الإستراتيجية الأميركية في تحقيق الاستقرار في المنطقة وحماية استثماراتها في التحالف ضد داعش.
وفي الوقت نفسه، يمكن للولايات المتحدة أن تشجع دمشق على معالجة مخاوف العراق، مثل حل وضع المعتقلين العراقيين ومنع المشاعر المعادية للعلويين، من أجل بناء الثقة.
وفي العاشر من مارس 2025، وقّعت الحكومة التي تقودها هيئة تحرير الشام في دمشق وقوات سوريا الديمقراطية (قسد) بقيادة الأكراد اتفاقية سلام تاريخية، تُمثّل أول اعتراف رسمي بحقوق الأكراد في تاريخ سوريا الحديث.
ولا يَعِد هذا الاتفاق، الذي مكّنه دبلوماسيون أميركيون وفرنسيون، بالاعتراف الدستوري بالأكراد فحسب، بل يُخفّف أيضا من حدة التهديدات التركية ضد قوات سوريا الديمقراطية، الحليف الرئيسي للولايات المتحدة في الحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش).
التأييد والانقسامات
في حين يضع هذا الاتفاق سوريا على مسار مؤقت نحو الاستقرار، ويقلّل من احتمالية نشوب حرب أهلية أخرى، فإن تداعياته تتردد أصداؤها في جميع أنحاء المنطقة، ولاسيما العراق، جار سوريا الذي يتشارك معها ثاني أطول حدود.
ومع ذلك، فإن تردد بغداد في التعامل مع الحكومة السورية الجديدة يهدّد بتقويض التعاون الأمني المحتمل في وقت يستمر فيه تهديد داعش، مما يضع الولايات المتحدة في موقع محوري للوساطة.
ويعقّد إحجام العراق عن التعامل مع دمشق في أعقاب الإطاحة بالأسد بقيادة هيئة تحرير الشام في ديسمبر، تحالف بغداد السابق مع النظام المخلوع، والذي عززته المصالح المشتركة في مواجهة قوى المعارضة السنية المتطرفة في الغالب.
ولعقود، اتسمت العلاقات السورية – العراقية بانقطاعات دبلوماسية وتوترات، على الرغم من تبني كلا البلدين لأيديولوجيا البعث في عهد الرئيسين السابقين حافظ الأسد وصدام حسين.
وبعد عام 2003، رفض نظام الأسد الاعتراف بالحكومة العراقية الجديدة، واتُهم بتسهيل عبور الجهاديين إلى العراق للانضمام إلى تنظيم القاعدة.
ومع ذلك، في عام 2011، تغيرت الأمور عندما فقد الرئيس بشار الأسد السيطرة على مساحات شاسعة من الأراضي السورية لصالح جماعات المعارضة.
واستغل تنظيم داعش الفراغ الناجم عن ذلك، واستولى على ثلث العراق عام 2014. وأدى ذلك إلى حرب مكلفة استمرت ثلاث سنوات على العراق، بدعم من مليارات الدولارات من المساعدات الأميركية، لاستعادة أراضيه.
وقاتل عدد كبير من وحدات الميليشيات الشيعية العراقية، التي تعمل غالبا تحت قيادة إيرانية، إلى جانب قوات الأسد ضد جماعات مثل هيئة تحرير الشام وداعش، مما أدى إلى تكوين روابط عملياتية عميقة.
وقد أدى سقوط الأسد، الذي يُنظر إليه على نطاق واسع على أنه انتكاسة لإيران و”محور المقاومة” التابع لها، إلى إرباك سياسة العراق تجاه سوريا.
ويُعقّد نفوذ إيران في بغداد، إلى جانب وجود ميليشيات عراقية كانت نشطة سابقا في سوريا، أي تحول سريع نحو الاعتراف بحكومة الرئيس السوري الحالي أحمد الشرع.
ويضاف إلى هذا التردد مأزق قانوني وأخلاقي قائم: إذ لا يزال العراق يحتفظ بمذكرة توقيف بحق الشرع، المعروف سابقا باسم أبي محمد الجولاني، لارتباطاته السابقة بتنظيم القاعدة وتورطه المزعوم في هجمات أودت بحياة عراقيين.
ولذلك، يشكك صانعو السياسات العراقيون في تحول الشرع على الساحة العالمية إلى رجل دولة براغماتي.
ومنذ الإطاحة بالأسد، قطعت بغداد إمدادات النفط عن سوريا، وأجّلت زيارة مقترحة لوزير الخارجية السوري بسبب اعتراضات سياسيين شيعة، وأبقت معبريها الحدوديين الرئيسيين مع سوريا – الحيويين للتجارة والأمن – معطلين.
ويشير نشر أكبر دورية حدودية عراقية منذ تحرير الموصل عام 2017 إلى حذر متزايد أكثر منه تعاونا.
واستضافت بغداد وزير الخارجية السوري الأسبوع الماضي، في زيارة غير معلنة وغير مسبوقة لوزير خارجية دولة مجاورة، أثارت ردود فعل غاضبة واستياءً واسع النطاق من الشخصيات الشيعية.
وبينما شملت المناقشات مخاوف بغداد بشأن الأضرحة الشيعية وحماية المجتمعات العلوية، انصبّ التركيز الأساسي على إرساء تعاون أمني حدودي، إلا أن تحقيق تقدم ملموس في هذا المجال يتطلب مشاركة دبلوماسية مكثفة، لا يبدو أن أيا من الجانبين قادر على الحفاظ عليها بشكل مستقل في الوقت الحالي.
وفي الأيام الأخيرة، استهدفت جماعات مسلحة مجهولة عمالا سوريين في العراق ممن شاركوا أو أبدوا دعمهم للحاكم السوري الجديد، الشرع، على حساباتهم على مواقع التواصل الاجتماعي.
واعتقلت قوات الأمن العراقية آخرين لنشرهم محتوى يؤيد إجراءات قوات الأمن السورية في المدن الساحلية السورية، والتي أفادت التقارير بأنها أدت إلى مقتل المئات من المدنيين العلويين. ويُجرّم القانون العراقي أي انتماء للشرع بموجب المادة 4 من قانون مكافحة الإرهاب.
ومع ذلك، فإن هذا الموقف ليس موحدا في جميع أنحاء العراق. واتخذت حكومة إقليم كردستان نهجا عمليا، فأيدت القيادة السورية الجديدة، ولعبت دورا محوريا في سد الفجوة بين الشرع وقائد قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، مظلوم عبدي.
والتقى قادة أكراد، بمن فيهم رئيس حكومة إقليم كردستان ورئيس وزرائها، بوزير الخارجية السوري في أوروبا، معربين عن دعمهم لاتفاق السلام.
ومثّل العراق، بشكل رئيسي، وزارة خارجيته التي يقودها الأكراد في الاجتماعات الإقليمية حول سوريا، كما أعرب السنة العراقيون عن تعاطفهم مع حكام دمشق الجدد. لكن حكومة بغداد الاتحادية حافظت على مسافة، ولم تُظهر أي ميل يُذكر لتطبيع العلاقات. ولم تُسفر الزيارة القصيرة لرئيس المخابرات إلى دمشق عن أي تقدم ملموس.
التعاون الأمني في خطر
إنّ مخاطر تردد العراق كبيرة، لاسيما في ما يتعلق بالتعاون الأمني ضد داعش، الذي لا يزال يشكّل تهديدا قويا على طول الحدود العراقية – السورية، وهي منطقة هشة وجاهزة للاستغلال.
ومن شأن تطبيع العلاقات مع دمشق، بدءا بالتعاون العسكري المشترك على الحدود، أن يعزز الجهود المشتركة لتأمين هذه الحدود المخترقة، حيث يقبع الآلاف من أتباع داعش العراقيين في سجون ومخيمات تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية، مثل مخيم الهول في شمال شرق سوريا.
وقد يمنع اتباع نهج منسّق التنظيم من استغلال أي فراغ في السلطة في سوريا المنقسمة، وهو سيناريو شهد سابقا سيطرة داعش على ثلث العراق عام 2014، مما أشعل حربا مكلفة استمرت ثلاث سنوات، ومليارات الدولارات من المساعدات الأميركية لاستعادة الأراضي المفقودة.
ومع ذلك، فإنّ موقف بغداد المتحفظ الحالي ينذر بعكس ذلك. فبدون مشاركة رسمية، سيظل تبادل المعلومات الاستخباراتية وتنسيق الحدود معوّقا، مما قد يسمح لداعش بإعادة تنظيم صفوفه.
ومن المتوقع أن تخسر الولايات المتحدة نفوذها في حملتها طويلة الأمد ضد التنظيم إذا استمرت التوترات بين بغداد ودمشق، لاسيما بالنظر إلى شراكاتها العسكرية المهمة مع كل من الجيش العراقي وقوات سوريا الديمقراطية.
ويعزز وعد اتفاق السلام بتوسيع النفوذ الأميركي على الحكومة التي تقودها هيئة تحرير الشام عبر قوات سوريا الديمقراطية الأمن الداخلي، ولكن لتحقيق أمن حدودي طويل الأمد، تحتاج سوريا إلى العراق كشريك موثوق.