رفض إيران للتدخل التركي: ذود ظاهري عن العراق واضمار لتكريس الاحتلال

منذ الاحتلال الأميركي للعراق، لم تعد مسألة سيادة هذا البلد واستقلاله أولوية في أجندات الزعماء والساسة الجدد، نظرا لارتباط العديد منهم بخيوط ومصالح خارجية تسيّر توجهاتهم السياسية وترسم مسار تحركاتهم على مختلف الجبهات، ولعل الطرف الأهم المستفيد من هذا الشكل غير المباشر من الهيمنة هو إيران من جهة وأميركا وحلفاؤها الإقليميون من جهة أخرى، خاصة مع بروز جبهة الناتو المتقدمة في المنطقة، وهي تركيا.
فالحديث اليوم عن سيادة العراق واستقلاله من قبل البعض لم يكن بدافع الاستفاقة المفاجئة للضمير الوطني العراقي بقدر ما أحدثته التحركات التركية الأخيرة في شمال العراق، وهي عبارة عن تجمع عسكري للمدرعات والمشاة التركية في مناطق قريبة من الموصل وإقليم كردستان بتعلة المشاركة في الهجمات على داعش.
ولئن مثّل هذا التحرك العسكري التركي خرقا سافرا لسيادة العراق ومسّا من هيبة الدولة من حيث المبدأ، فإن الرد على هذا الخرق كان بالأساس من قبل رأس حربة “الاحتلال” الإيراني للعراق وهو الحشد الشعبي، المعروف بولاءاته الطائفية الشيعية لإيران، سواء في العاصمة طهران أو بقلب المنطقة الخضراء في بغداد، ليكتمل مشهد صراع النفوذ بين إيران وتركيا على العراق ومقدراته.
وتقوم الاستراتيجية التركية في مناطقها الحدودية الجنوبية على “غض البصر” على تحركات تنظيم ما يسمّى بالدولة الإسلامية بل وفي دعمه، بحسب بعض الروايات، وذلك لخلق بؤر توتر تمكنها على المدى البعيد من توظيفها لصالحها خاصة في مجال تجارة النفط وخلق معابر للوصول إلى أسواق جديدة في العراق وسوريا، وتسعى تركيا بذلك إلى التحكم في مسار الصراع شمال العراق والسيطرة على تطوره بشكل يمكنها من التحكم في مستقبل المنطقة أيضا، ما يشكل تهديدا جديا في الدفع نحو تقسيم العراق إلى مناطق سنيّة وأخرى كردية في الشمال بهدف التنصّل من إشكال حزب العمال الكردستاني وإلحاقه بـ”الدولة” الكردية المحتملة شمال العراق. وللأتراك ـ تماما كالإيرانيين ـ أصوات من الداخل العراقي تبارك كل تدخل تركي في الشأن العراقي قصد “المساعدة على القضاء على داعش”.
نرحب بالقوات التركية، فوجود الدعم والإسناد التركي مهم وحيوي لأنه يقطع عدة طرق على داعش ويعجل بتحرير الموصل
وقد كانت تدخلات سابقة لتركيا في الأراضي العراقية والسورية محل تنديد من قبل أنظمة عربية مثل مصر، التي أصدرت خارجيتها في مناسبة سابقة بيانا أكدت فيه معارضتها لأي نوع من أنواع التدخل التركي في الأراضي العربية، يكون خارج إطار التنسيق المسبق مع السلطات الرسمية للدولة.
التدخل التركي لم يتوقف فقط عند الأجندة الخاصة بها، بل سرّع من وتيرة رد القوة النقيضة والمهيمنة هي الأخرى على العراق، ألا وهي إيران. فبعد أن أعلنت حكومة بغداد حربها على تنظيم ما يسمّى الدولة الإسلامية المتمركز في الموصل، سارع رئيس الوزراء السابق نوري المالكي إلى تشكيل قوات “الحشد الشعبي” نظرا لخبرته في مجال تشكيل الميليشيات، وقد تضافرت العديد من العوامل لتوسيع هذا الحشد وتسليحه، أهمها فتوى المرجع الشيعي علي السيستاني الذي صور اللحاق بهذا الحشد على أنه أمر إلهي، وما تبقى تكفل به ضباط من الحرس الثوري الإيراني في تسليح هذا الحشد وتدريبه ورسم خططه الهجومية في المناطق التي يسيطر عليها تنظيم داعش. وبذلك فإن كل قوة إقليمية تقترب من مجال الحرب على داعش في العراق توقظ مباشرة أصوات إيران في العراق التي تحتكر هذه المعركة لنفسها لأسباب تهم الدعاية السياسية والإعلامية في المستقبل، كيف لا وقد وصل الأمر ببعض المراقبين إلى تسمية الحشد الشعبي بميليشيات قاسم سليماني القيادي بالحرس الثوري الإيراني.
وقد أثار التدخل التركي الأخير في شمال العراق حفيظة قيادات الحشد الشعبي، حيث سارع هادي العامري القيادي الميداني لهذه الميليشيات إلى تهديد الأتراك الموجودين في الشمال بأن “يدمر دباباتهم فوق رؤوسهم” إذا لم يغادروا المناطق العراقية التي دخلوها، مؤكدا أن السلطة في المنطقة الخضراء “لا علم لها بهذا الدخول” خاصة بعد أن أصدر مكتب رئيس الوزراء حيدر العبادي بيانا ندد فيه بتواجد القوات المدرعة بالدبابات قرب منطقة كردستان والموصل.
وعلى النقيض من ذلك، جاء الرد من أثيل النجيفي، المحافظ السابق لنينوى ومؤسس الحشد الوطني الذي يحارب داعش، الذي يرى أن التدخل العسكري التركي في شمال العراق “سوف يساعد على تحرير المناطق التي تسيطر عليها داعش، وهو تدخل مرحب به من قبل المواطنين”.
|
وجود الدعم التركي مهم وحيوي لمحاربة داعش
كشف أثيل النجيفي محافظ نينوى السابق، أن قدوم القوات التركية إلى محافظة نينوى شمال العرق “تم بموافقة رئيس الوزراء العراق حيدر العبادي وبعلم من رئيس مجلس النواب سليم الجبوري”.
وقال النجيفي في منشور له على صفحته الرسمية بموقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، إن “القوات التركية التي جاءت كانت بطلب من رئيس الوزراء العراقي خلال لقائه مع رئيس الوزراء التركي أحمد داودأوغلو”.
وأضاف أثيل النجيفي أن “العبادي طلب أي مساعدة عسكرية تقدمها تركيا للعراق، وعلى إثرها أرسلت أنقرة شحنات عسكرية إلى مطار بغداد كما أرسلت قوات تركية لتدريب قواتنا في معسكر زليكان منذ أكثر من ثمانية أشهر”، مؤكدا أنها “بعلم رئيس مجلس النواب، سليم الجبوري الذي تحدث عن موضوع المعسكر مع داودأوغلو، وإذا كانوا لا يستطيعون مواجهة النفوذ الإيراني الذي أبلغ رفضه لحكومة العبادي والتي بدورها غيّرت رأيها بسرعة في خصوص التدخل التركي وكأنهم لا يعلمون شيئا، فهذا شأن آخر”.
وأضاف النجيفي “أما نحن كمواطنين لمحافظة نينوى ولا نحمل صفة رسمية، فإننا نرحب بأي قوة تقدم لنا المساعدة الحقيقية لمحاربة داعش وطردها من الموصل، ووجود الدعم والإسناد التركي مهم وحيوي لأنه يقطع عدة طرق على داعش ويعجّل بتحرير الموصل. وتركيا قادرة على تحديد دورها من خلال التحالف الدولي”.
وأوضح النجيفي في نهاية منشوره، أقول إلى الذين “يتبرأون من قراراتهم بأننا لن ندخر جهدا لتحرير مدينتنا بعد أن خذلتمونا أول مرة وسلمتم مدينتنا لداعش وبعد أن تخليتم عنا مرة ثانية ولم تقدموا أي عمل جدي لتحريرها”.
وجاء رد المحافظ السابق بعدما دعا حيدر العبادي الحكومة التركية إلى سحب قواتها “فورا” من محافظة نينوى، معتبرا دخول قوات مع آليات عسكرية لتدريب مجموعات عراقية “خرقا خطيرا للسيادة العراقية”.
وأعلنت مصادر عسكرية تابعة لهيئة الأركان التركية، مواصلة عناصرها تدريب وتأهيل قوات البيشمركة (جيش إقليم شمال العراق) في 4 مناطق مختلفة من الإقليم، وذلك ضمن إطار مكافحة تنظيم داعش الإرهابي.
دخول القوات التركية إلى المناطق العراقية أمر مرفوض تماما، فهي غير قادرة على حماية العراقيين في تلك المناطق من داعش
وأوضحت مصادر صحفية، نقلا عن مسؤولين، أن القوات التركية تقوم منذ أكثر من عام بتدريب عناصر من البيشمركة على قتال الشوارع في المناطق المأهولة بالسكان وكيفية التعامل مع المتفجرات اليدوية، إضافة إلى استخدام الأسلحة الثقيلة والإسعافات الأولية.
وقالت صحف نقلا عن مصادر مطلعة في منطقة بعشيقة القريبة من مدينة الموصل، إنّ تركيا أرسلت قرابة 150 جنديا إلى المنطقة المذكورة، عن طريق البر لاستبدال الوحدة العسكرية المكلفة بتدريب قوات البيشمركة منذ عامين ونصف العام. كما تمّ استقدام ما بين 20 و25 دبابة إلى المنطقة المذكورة خلال عملية التبديل.
وقال أثيل النجيفي، في سياق التأكيد على ترحيبه بالتدخل التركي، “تشير المعلومات الواردة من مدينة الموصل إلى أن إرهابيي داعش قاموا باعتقال عدد كبير من ضباط الجيش العراقي السابق كخطوات استباقية لخوفهم من التحاق أولئك الضباط بالحشد الوطني عند بدء معركة الموصل.
فعلى الرغم من أن معظم أولئك الضباط هم في أعمار لا تؤهلهم للقيام بأي عمل عسكري إلا أن شعور تنظيم داعش بخطورة وضعه نتيجة لوجود دعم تركي جعله كالثور الهائج.
ولعل ما يخفف عن داعش وطأة الدعم التركي هو محاولات الميليشيات المدعومة من إيران عرقلـة أي جهود فعليـة لتحرير الموصل”.
وفي رده على معارضي التدخل التركي في العراق الذين يتهمهم بأنهم عملاء لإيران، قال النجيفي إن “سيادة العراق انتهكت يوم سمحت الأجهزة الأمنية لداعش بعبور الحدود السورية والوصول إلى الموصل ومن ثمة الانسحاب منها وترك مواطنيها وأجهزتها الإدارية فريسة سهلة بيد داعش”.
|
سوف ندمر الدبابات التركية لاختراقها سيادة العراق
دعا الأمين العام لمنظمة بدر والقيادي في ما يسمّى قوات الحشد الشعبي هادي العامري إلى الخروج في تظاهرات أسماها “تظاهرات السيادة”، وذلك ردا على التدخل التركي المسلح في شمال العراق بتعلة المشاركة في جبهات الحرب على تنظيم داعش وتدريب القوات الكردية والسنية في تلك المناطق على هجومات تستهدف التنظيم.
وقال القيادي في الحشد الشعبي إن الممارسات التركية في الحرب على داعش “التي ازدهرت على حدودها لا تنبئ بأن قدومها إلى العراق هو لمحاربة هذا التنظيم الإرهابي، ونحن نشك في هذا التدخل الذي يعتبر بأي حال من الأحوال اختراقا لسيادتنا وللقانون وحسن الجوار”.
وقد صرّح العامري في معرض حديثه بأن “دخول القوات التركية إلى المناطق العراقية أمر مرفوض تماما، فهم غير قادرين على حماية العراقيين في تلك المناطق من داعش”، موحيا بأن الأتراك مورطين في دعم داعش في سوريا عبر السماح له بالتحرك في مناطق حدودية متاخمة لتركيا وذلك “بعلم المخابرات التركية”، فيما هدد الأتراك “بتدمير دباباتهم فوق رؤوسهم في حال عدم خروجهم من العراق”، بحسب قوله.
وقال العامري خلال حفل استذكار الثورة الحسينية الذي أقيم في الجامعة المستنصرية ببغداد “إننا سنخرج الجمعة في تظاهرات سيادة والدفاع عن السيادة”، مضيفا أننا “لا نقبل بأي شكل من الأشكال التجاوز على سيادة العراق”. وأضاف العامري أن “الأتراك تجاوزوا الحدود العراقية بطائراتهم ودباباتهم وقواتهم البرية ونحن صامتون، في حين قاموا بإسقاط الطائرة الروسية تحت ذريعة أنها تجاوزت الحدود التركية بـ17 ثانية”. وتابع كل ذلك “يحتم علينا بذل المزيد من الجهد لرفض هذا العدوان التركي”، مخاطبا الأتراك “إنكم لستم أقوى من الأميركان الذين خرجوا تحت الضغط ودباباتكم ستدمر على رؤوسكم في حال عدم إخراجها من العراق”. ونشرت العديد من وسائل الإعلام خبرا مفاده أن نحو 1200 عسكري تركي وصلوا إلى الموصل للمشاركة في قتال داعش، حيث أشارت إلى أن كتيبة من الجيش التركي تنتشر في مدينة بعشيقة في الموصل لقتال التنظيم، فيما أكد مكتب رئيس الوزراء حيدر العبادي وجود قوات تركية تعدادها في حدود فوج واحد مدرع بعدد من الدبابات والمدافع دخلت الأراضي العراقية، معتبرا ذلك خرقا خطيرا للسيادة العراقية. وتابع العامري أن العراق “سيبقى موحدا قويا بوجه خطط التقسيم ولن نسمح بتجزئته أبدا”.
ومن جانب آخر شدد القيادي بقوات الحشد الشعبي، التي يساهم في قياداتها ضباط عسكريون إيرانيون، على ضرورة إبعاد “الخطر الداعشي” عن بغداد، مؤكدا أنه لا بد من ضرورة الاستمرار في المعركة ضد “داعش ودعم الحشد الشعبي والأجهزة الأمنية”. وأشار العامري إلى أن الجميع “يعلم أن الحشد الشعبي يستطيع حسم أي معركة يدخل فيها”، مستذكرا معركة بيجي التي “حسمت في يومين فقط وبعدها جرت عمليات التطهير”، بحسب تصريحه.
وأضاف العامري أن “أمر الأنبار والفلوجة سيحسم خلال العام الحالي”، عازيا تأخر تحرير المحافظتين من داعش إلى قرب الأنبار من سوريا وتواصلها مع مقرات داعش في الرقة ودير الزور.
وفي هذا الإطار أكد العامري أن تدخل الأتراك في شمال العراق وبالقرب من محافظة الموصل “جاء أساسا للقيام بمهمات استخباراتية مباشرة لمعرفة إمكانية مواصلة داعش للمعارك ضد الحشد الشعبي والجيش أم لا لأخذ الإجراءات واستباق موقف سياسي ربما يحرج تركيا بعد ذلك بعد أن راجت أخبار عن تورط القيادة التركية في دعم الإرهابيين في سوريا.
كما أشار إلى أن “عمل التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية ليس بمستوى التحدي”، لافتا إلى أن “الضربات الجوية ليست بالكثافة المطلوبة وكذلك بالنسبة إلى تسليح وتجهيز الجيش العراقي، حيث لا توجد فرقة مدرعة واحدة بالجيش”.