رسم سوريا لسيناريو مختلف عما حدث في ليبيا والعراق محل تشكيك

يطمح السوريون إلى بناء دولة ديمقراطية تستوعب جميع طوائفها ومكوناتها العرقية. لكن تنوع أطياف المجتمع السوري وتضارب مصالحه والتدخل الأجنبي عبر دعم أحد الأطراف على حساب الآخر عوامل ستؤدي، حسب محللين، إلى دولة فاشلة وفوضى طويلة الأمد.
دمشق - يشكك محللون في تجنب سوريا ما بعد سقوط بشار الأسد لسيناريو مختلف لما آلت إليه الأوضاع في دول شهدت اضطرابات مماثلة مثل العراق وليبيا وحتى السودان. ويشير المحللون إلى أن تعدد العرقيات والطوائف وتضارب المصالح الأجنبية في سوريا عوامل محفزة لاستنساخ السيناريوهين العراقي والليبي، بما يؤسس لمرحلة فوضى طويلة الأمد.
وبعد سقوط الأسد ، تأثر العالم بمشاهد لمّ شمل الأسر بعد سنوات من الانفصال وخروج السجناء السابقين أحراراً من الظروف الوحشية في السجون. وعكست لحظات الفرح هذه مشاهد مماثلة لسقوط الأنظمة السابقة في المنطقة، مثل الإطاحة بمعمر القذافي في ليبيا وصدام حسين في العراق، وعمر البشير في السودان.
ومع ذلك، فإن التجارب السابقة تحذر من التحديات التي تأتي بعد ذلك، فالنشوة الأولية غالباً ما تفسح المجال لعدم الاستقرار والمأساة والندم، مع شوق الكثيرين إلى النظام القديم.
أجندات متضاربة
لا تؤشر التركيبة الديمغرافية وموازين القوى في سوريا على أن مستقبل البلاد سيكون مطمئنا وعملية انتقال السلطة ستكون أيضا سلسة، إذ أن تضارب الأجندات الداخلية والخارجية يؤسس لمرحلة فوضى طويلة الأمد. داخليا، تحتوي سوريا على أربع مجموعات رئيسية لها أجندات سياسية متضاربة، حيث يسيطر الأكراد (2.5 مليون نسمة) على شمال شرق سوريا على الحدود مع تركيا، والتي تربطهم بها علاقة عدائية.
ونتيجة لذلك، هناك توترات بين الأكراد المدعومين من الولايات المتحدة وهيئة تحرير الشام المدعومة من تركيا، وهي الجماعة المتمردة التي قادت تحالف القوى المعارضة للإطاحة بنظام الأسد. ووافقت هذه المجموعات على وقف إطلاق النار الأسبوع الماضي، ولكن هناك بالفعل تقارير تفيد بانهياره. ومما يزيد الأمور تعقيدًا أن الأكراد حليف إستراتيجي لإسرائيل، التي دعمت تاريخيًا تطلعاتهم إلى إقامة دولة مستقلة في أجزاء من العراق وسوريا وتركيا وإيران.
◙ تحليل ديناميكيات القوة داخل سوريا يشير إلى ثلاثة سيناريوهات محتملة لمستقبل البلاد: دولة علمانية فيدرالية، دولة قوية مركزية، دولة انفصالية
وأما المجوعة الثانية فتتمثل في هيئة تحرير الشام المتكونة من طيف من الفصائل الإسلامية والتي تسيطر الآن على جزء كبير من البلاد. وتشمل هذه الفصائل المعتدلين والجهاديين المتشددين والمقاتلين الأجانب من آسيا الوسطى ذوي الخلفيات الإسلامية المتطرفة. كما تزعم الجماعة أنها تمثل الأغلبية العربية السنية في سوريا.
وحاول زعيم هيئة تحرير الشام أحمد الشرع (المعروف أيضًا باسم أبومحمد الجولاني) تصوير الجماعة بأنها معتدلة، رغم أنه يحتفظ بطموحاته في نموذج الحكم الإسلامي. وقال مؤخرًا لشبكة سي إن إن الأميركية ” إن الأشخاص الذين يخشون الحكم الإسلامي إما أنهم رأوا تطبيقًا غير صحيح له أو لا يفهمونه بشكل صحيح.” ويرى محللون أن هذا مصدر قلق كبير للأردن ومصر، وكلاهما يواجه تحديات سياسية من جماعة الإخوان المسلمين، التي ينتمي فرعها السوري إلى هيئة تحرير الشام.
وأما الطائفة الدرزية فهي تمثل ثالث أكبر مجموعة في سوريا تقيم في المقام الأول في الجنوب بالقرب من الحدود الإسرائيلية. وبحسب ما ورد، دعا بعض زعماء الدروز إلى ضم الجولان إلى إسرائيل، على الرغم من أن آخرين في مرتفعات الجولان المحتلة، والتي استولت عليها إسرائيل من سوريا في عام 1967، دعوا إلى عودة مرتفعات الجولان إلى السيطرة السورية.
ووافقت إسرائيل للتو على خطة لتوسيع المستوطنات في مرتفعات الجولان، وتقدمت القوات الإسرائيلية إلى ما وراء المنطقة منزوعة السلاح على الحدود في الأيام الأخيرة. وأما المجموعة الرابعة المتمثلة في الشيعة والمسيحيين والعلويين فهم الأكثر ضعفاً في أعقاب انهيار نظام الأسد، حيث لم تعرب أي دولة مجاورة أو فصيل محلي عن اهتمامها أو القدرة على حمايتهم.
ثلاث نتائج محتملة
يشير تحليل ديناميكيات القوة هذه داخل سوريا والجيوسياسات الإقليمية الأوسع إلى ثلاثة سيناريوهات محتملة لمستقبل البلاد: دولة علمانية فيدرالية، دولة قوية مركزية، دولة انفصالية. ويتصور السيناريو الأول بنية فيدرالية لسوريا، تستوعب تركيبتها المتعددة الأعراق والأديان. ومن شأن النظام الفيدرالي أن يسمح لجميع المجموعات بالتمثيل على المستويين المحلي والفيدرالي. ويدعم الأكراد، الذين يتمتعون بالفعل بالحكم الذاتي بحكم الأمر الواقع، إلى جانب العديد من الأقليات الأخرى، هذا النهج.
ولكن هيئة تحرير الشام لم تعلق رسميا على الدور الكردي في الدولة الجديدة. وفي حديث دبلوماسي، قال الشرع “في سوريا القادمة، سيكون الأكراد أساسيين. سنعيش معا وسيحصل الجميع على حقوقهم بالقانون.” وتقول الباحثة جو أديتونجي في تقرير على موقع ذو كونفرسيش إن قبول نموذج فيدرالي في المنطقة الأوسع مختلط أيضا.
وتدعم إسرائيل الفيدرالية، إذ قال وزير الخارجية جدعون ساعر مؤخرا إن دولة سورية واحدة ذات سيطرة وسيادة فعالة على كامل مساحتها غير واقعية.” وأضاف “إن الشيء المنطقي هو السعي إلى الحكم الذاتي للأقليات المختلفة في سوريا، ربما مع هيكل فيدرالي.” لكن دول مجاورة أخرى مثل الأردن وتركيا تعارض الفكرة، فهي تخشى التأثير الذي قد يخلفه مثل هذا الترتيب على الأقليات لديها، وخاصة الأكراد في تركيا.
◙ احتواء سوريا على مجموعات عرقية ذات مظالم تاريخية عميقة تفاقمت بسبب الاستبداد يؤهلها لفوضى طويلة الأمد
وأما السيناريو الثاني فيتصور دولة قوية مركزية، حيث سيستند هذا النموذج إلى حكومة مركزية تهيمن عليها الجماعات الإسلامية السنية، مثل هيئة تحرير الشام. وقد يؤدي هذا إلى حكم استبدادي، وتهميش الأقليات، وزيادة دور الشريعة الإسلامية في الحكم. وتدعم تركيا بقوة هذا السيناريو، الذي تراه وسيلة للقضاء على التهديد الذي تشكله وحدات حماية الشعب الكردية السورية التي تسيطر على أجزاء من شمال سوريا. وتعتقد أنقرة أن هذه الوحدات متحالفة مع حزب العمال الكردستاني الانفصالي في تركيا.
كما أن الدولة القوية المركزية من شأنها أن تسمح لتركيا بتوسيع نفوذها في سوريا. ولديها دوافع اقتصادية لذلك، مثل طموحاتها لإنشاء خط أنابيب للغاز من قطر إلى أوروبا عبر المملكة العربية السعودية والأردن وسوريا. وقد ألمح وزير الطاقة التركي ألب أرسلان بيرقدار إلى هذا الاحتمال مؤخرا قائلا “إذا حدث هذا، فيجب أن يكون الطريق آمنا. ونأمل أن يكون كذلك، لأن هذه هي رغبتنا.”
وأما سيناريو الانفصالية فهو النتيجة الأسوأ الممكنة للشعب السوري ما يعني استمرار العنف وبقاء سوريا منقسمة على أسس عرقية ودينية. وهناك عوامل عديدة تشير إلى أن سوريا قد تتجه في هذا الاتجاه، على غرار ليبيا والسودان، فسوريا لديها مجموعات عرقية ذات مظالم تاريخية عميقة، والتي تفاقمت بسبب حكومة استبدادية.
وهذا السيناريو يفيد إسرائيل بشكل كبير، لأنه يضعف أحد أعدائها التاريخيين. ومن المرجح أن تسعى تركيا إلى توسيع احتلالها لأجزاء من شمال سوريا لمزيد من التحدي للمقاتلين الأكراد هناك. ويبدو مستقبل سوريا مرتبط ارتباطًا وثيقًا بالمشهد الإقليمي حيث تمارس دول مختلفة نفوذها، كل منها تسعى إلى تحقيق مصالح سياسية واقتصادية وأمنية مميزة.
ومؤخرا اجتمع ثمانية أعضاء من جامعة الدول العربية في الأردن للتعبير عن دعمهم لـ”عملية انتقال سلمي” في سوريا. كما اجتمعوا بشكل منفصل مع كبار الدبلوماسيين من الولايات المتحدة وتركيا، ودعوا إلى حكومة شاملة تحترم حقوق الأقليات. لكن هذا المؤتمر لم يسفر عن خطة متماسكة بسبب الاختلافات الحادة بين الحاضرين حول مستقبل سوريا، بالإضافة إلى غياب لاعبين رئيسيين آخرين مثل إسرائيل.