رسامو الغرافيتي في السودان يرسمون الحرية على جدران الخرطوم

فنانو الغرافيتي في السودان يعبرون عن أنفسهم بحرية على جدران  الخرطوم، بعدما كان هذا الفن مقيدا بشدة على مدى ثلاثة عقود من حكم البشير.
الجمعة 2019/04/26
فن وحرية

فن الغرافيتي على عكس فنون الرسم الأخرى التي تعرض بالمتاحف والمعارض وتعلق بالمنازل وبعض الفضاءات الأخرى، فهذا الفن يصل مباشرة إلى المتلقي، لذلك يسعى الرسامون إلى اعتماده في التعبير عن القضايا الحارقة التي تشغل الشباب من المغرمين به. وفي السودان وبعد أن كان هذا الفن ممنوعا على مدى سنين من حكم الرئيس المعزول عمر حسن البشير، يعود اليوم ليواكب الثورة ويطلع عليه المحتجون وكل السودانيين الذين يمرون بشوارع الخرطوم.

الخرطوم- شكلّت ثورة السودانيين فرصة لفناني الغرافيتي للتعبير عن أنفسهم بحرية على جدران العاصمة الخرطوم، بعدما كان هذا الفن مقيّدا بشدة خلال ثلاثة عقود حكم فيها الرئيس المعزول عمر حسن البشير البلاد بقبضة من حديد.

ويجري العمل على قدم وساق على بعد خطوات من جسر ممتد على نهر النيل يربط بين الخرطوم ومنطقة الخرطوم بحري، وعلى امتداد جدران مقبرة تاريخية ضمت رموزا وطنية سودانية في حي بري شرقي الخرطوم على مسافة قصيرة من مقر الاعتصام أمام مقر قيادة الجيش.

وعند مداخل باحة الاعتصام تقابلك شعارات الحرية والتغيير، وجدار يحمل توقيع فنانين بلوحات غرافيتي عملاقة، بالإضافة إلى بورتريهات  لضحايا التظاهرات الذين سقطوا برصاص الأمن.

ويقول الفنان لطفي عبدالفتاح إن “الثورة غيّرت كل شيء” بعدما كان مستحيلا إقامة أي رسوم على الجدران من دون الحصول على إذن رسمي. وبات بإمكان رسام الغرافيتي السوداني هذا كما جميع زملائه في البلاد إطلاق العنان لمخيلتهم بعدما كان ذلك متعذرا.

ويقول أحمد جلال إن مشاركة الرسامين في هذا المشهد هي واجب على الجميع؛ مشيرا إلى أن الرسومات بالرغم من المجهود الذي يبذل فيها إلا أنه وبمجرد أن تكتمل تصبح أسهل طريقة لإيصال الفكرة، وهنا تكمن عظمة الفن وانفعاله بالقضايا على حد تعبيره.

واستحالت الجدران الرمادية سابقا بمقر القيادة العامة للقوات المسلحة في الخرطوم لوحة كبيرة لتفجير مواهب رسامي الغرافيتي الذين استولوا أيضا على جدران أخرى كثيرة في العاصمة للتعبير عن فنهم.

وتعبّر الجدارية الأكثر إثارة للجدل عن رؤية للفنان الشاب صالح عنتر (22 عاما)، وتظهر شجرة لم تكتمل عملية قطع جذعها، في تمثيل لحزب المؤتمر الوطني الحاكم سابقا، ويتخذ من الشجرة رمزا له.

وتُظهر الرسوم الجدارية في مقر القوات المسلحة متظاهرين يضمّون قبضاتهم أو يرفعون إشارة النصر. وقرب مقر القوات المسلحة الذي لا يزال المتظاهرون يتوافدون إليه ليلا ونهارا للمطالبة بالانتقال إلى الحكم المدني، رسمت أعلام سودانية وأعمال فنية تظهر قادة الاحتجاجات.

الحرية على كل الجدران

انتصار الفنانين
انتصار الفنانين

يقول لطفي عبدالفتاح البالغ من العمر 35 عاما والمتخصص في الفنون الجميلة، “إن هذه الرسومات ستترك أثرا لا يمّحى في نفوس الناس حتى لو أزيلت عن الجدران يوما ما”. وفي السودان، كان فن الغرافيتي يمارس في الخفاء لسنوات طويلة في ظل رقابة مشددة من القوى الأمنية التي تنظر إليه كرمز للمعارضة ضد النظام القائم أو كشكل من أشكال التخريب. غير أن الوضع تغيّر في أبريل حين تجمّع المتظاهرون بالآلاف أمام مقر القيادة العامة للقوات المسلحة رغم إطلاق القنابل المسيلة للدموع، لمطالبة العسكريين بإسقاط الرئيس البشير.

ويوضح أمير صالح البالغ 26 عاما، لدى إنجازه رسم غرافيتي على أحد جدران، أن “الناس يحبون رسوماتنا واعتبرنا أنه يجب علينا البدء بالرسم على كل الجدران”.

ويشير إلى أن “كل هذه الجدران كانت خالية.. قمنا مع فنانين آخرين بتغطيتها برسوم الغرافيتي”، مضيفا “نريد ببساطة أن نروي ما يحصل هنا”.

وشارك صالح في التجمعات المناوئة للحكومة منذ انطلاق الحركة الاحتجاجية في ديسمبر إثر قرار السلطات زيادة سعر الخبز بواقع ثلاثة أضعاف. وهو يشير إلى أن الكثير من الرسوم الجدارية مستوحاة من الشعار الرئيسي للحركة “حرية، سلام، عدالة”.

ويؤكد أن “الثورة يجب أن تستمر” لأن “الحرية والأمن على المحك”، كما يسعى بعض الفنانين من خلال رسوماتهم إلى التأكيد على سلمية الحركة الاحتجاجية، إذ يظهر أحد الأعمال قبضة يد تواجه قذيفتين كبيرتين.

ويلفت بلال عبدالرحمن (26 عاما) خلال إنجازه رسما جداريا بصحبة فنانين آخرين إلى أن “هذا الأمر يظهر ببساطة أن تصميم الشعب على إسقاط البشير كان أقوى من الرصاص الذي واجهت به قوات الأمن المتظاهرين”.

كما أنجز رسامو غرافيتي جدارية تظهر سلاحا مع وردة حمراء تبدو وكأنها تسكت مدفعا. ويسعى الفنانون بذلك إلى التذكير بالقمع الدامي من قوات الأمن قبل سقوط البشير. وبحسب حصيلة رسمية، فقد قضى 65 شخصا منذ اندلاع الاحتجاجات في ديسمبر. ويؤكد عبدالرحمن أن “التظاهرات سلمية وستبقى كذلك”.

ثورة العديل والزين

تكمن عظمة فن الغرافيتي وتفاعله مع القضايا في طريقة إيصال الفكرة إلى الناس
تكمن عظمة فن الغرافيتي وتفاعله مع القضايا في طريقة إيصال الفكرة إلى الناس

خطوط الفرشاة كانت تشكل بسرعة ملامح امرأة سودانية ذات قسمات أفريقية، ترفع قبضتها في السماء وتتزين بقرط تراثي معروف باسم “العديل والزين”. تتوقف ضربات الفرشاة لثوان قبل أن تقول الشابة التي تحمل الفرشاة، ماب تاج الدين (22 عاما)، إن المرأة عبّرت خلال الثورة عن قوتها وقدرتها على انتزاع حقوقها، ويجب التأكيد على ذلك بكافة الأشكال الممكنة.

والجدارية عمل فني مرسوم مباشرة على الجدار أو السقف وتعد أحد أهم الفنون الأكثر قدرة على توصيل رسالتها بسلاسة وقوة، وذات أثر كبير على عدد من الناس. وشاركت  ماب، التي تدرس الهندسة في جامعة الخرطوم،   مع رفيقاتها خلال الأشهر الأربعة الماضية في الثورة.

وقررت مع مجموعة من الثوار استغلال جدران المقبرة القريبة من مكان الاعتصام، للتعبير عن فرحتهم بالنصر، وبث رؤاهم عن كيفية إدارة البلاد خلال المرحلة القادمة.

وأوضحت أن جداريتها “تعبر أيضا عن أفريقية وعمق الثقافة السودانية، والذي يتجلى في ملامح المرأة، وزيّها وأقراطها، ما يبعث رسالة عن ضرورة القطع مع رؤية النظام السابق الأحادية حول الجذر العربي الواحد لهوية وثقافة السودان”.

وتضيف المتحدثة قائلة “الثورة هي التي أتاحت لكل من يرسمون على هذه الحوائط حرية التعبير عن أنفسهم، وعن رؤيتهم للحياة، والذين لم يكن متاحا لهم سابقا حرية التعبير في أي مكان وبأي شكل، ولولاها لما كانت لتأتي لنا حرية أن يرسم الواحد منا فكرته بحريته دون تقييد الوطن الكبير”.

وتقول الشابة سهام عبدالجليل التي تفضل مناداتها بـأمّونة،  إن الفن أصدق مرآة يمكن من خلالها قراءة أي مشهد، وقد تضفي عليه شكلا من التثقيف والتهذيب وقد تلبسه أيضا السخرية أو الحزن.

وتشير أمّونة إلى أن المرأة السودانية حاضرة في المشهد الفني، كما كانت حاضرة في الحراك الذي سيفتح باب الحرية لكل السودانيين، قائلة إن “التشكيلية أيضا قادرة من خلال أدواتها أن تضع بصمة واضحة في ما يحدث”.

أما أصيل دياب فقد رسمت وجها بشعر قصير وعيونا طيّبة خلف نظارة. إنه وجه صالح عبدالوهاب صالح، وهو من بين أكثر من 50 شخصا قتلوا في مظاهرات السودان المناهضة للحكومة. وتقول “أنا أفعل ذلك ليتذكر الناس. فهذا العمل الفني ليس معلقا بمنزل ما، بل يمكن لكل من يمر في الشارع أن يراه، وبالتالي سيتحدث عنه ويتذكره”.

استغلال الجدران للتعبير
استغلال الجدران للتعبير

وتنقلت فنانة الغرافيتي بين منازل قتلى المظاهرات، تقابل عائلاتهم وترسم وجوههم على الحوائط، وذلك في سياق مشروعها الرئيسي ألا وهو إحداث ثورة فنيّة في بلادها وكسر الصورة النمطيّة. وعلى مقربة من الرسامة ماب ينهمك كل من محمد قرشي محمد (22 عاما) ومحمد أسامة (21 عاما)، في العمل على جدارية أخرى يسيطر اللون الأخضر عليها بالكامل.

وهي جدارية تبرز في منتصفها خارطة السودان بعد انفصال إقليمه تحمل رسالة واحدة بحسب محمد قرشي، وهي “نحلم بعودة جنوب السودان إلى الوطن الكبير، وننتظر أن تتحقق جميع مطالبنا كثوار في هذا الشهر لأن الثورة ستظل مستمرة”.

ينشر عبدالفتاح رسوماته على جدران العاصمة منذ أكثر من عشر سنوات متحديا الصعاب والمخاطر. وهو يأمل حاليا في التركيز عبر أعماله على مستقبل السودان الذي يحلم بأن يكون مشرقا. ويقول “أمثل عموما السودان كبلد مكسو بالأشجار الوافرة والأزهار لأظهر أن لديه الكثير ليقدمه”.

ورغم أن رسامي الغرافيتي سعداء بأول نسمة حرية تلفح البلاد، لكنهم يشكون جميعا من النقص في المعدات. ويوضح عبدالرحمن أن رسوم الغرافيتي تنجز عادة بعبوات الرذاذ، لكنها غير متوفرة في السودان واستيرادها مكلف للغاية، لذا فهو يستخدم كزملائه أساليب الرسم التقليدي.

وتدهور الوضع الاقتصادي في السودان على مر السنوات الماضية في ظل النقص الخطير في العملات الأجنبية، كما أن الحركة الاحتجاجية من شأنها أن تضعف الاقتصاد بصورة أكبر، غير أن ذلك لن يثبّط عزيمة المتظاهرين ولا الفنانين. ويقول صالح “نريد السودان بلدا أكثر انفتاحا يقبل الفن ويروّج لحرية التعبير”.

وتعبر لوحة جدارية أخرى رسمها عبدالمجيد إبراهيم (19 عاما) عن سعادة الثوار بتضامن الجيش معهم وحمايته لهم يوم 6 أبريل من هجمات القوى الأمنية والميليشيات. وتظهر الجدارية قطعة من السلاح يحملها جندي بزيّه الرسمي، فيما تظهر في الخلفية مجموعات من الثوار.

ويؤكد عبدالمجيد أن “النقطة الفاصلة في تاريخ الثورة كانت قرار مجموعة من الضباط والجنود حماية الثوار من الأمن والميليشيات في مخالفة ذات عواقب وخيمة لتعليمات القادة” ويثني على ضرورة إظهار الامتنان لهؤلاء الضباط والجنود، فلولاهم لما نجحت الثورة على نظام المخلوع البشير.

20