رجل أبيض يحرس السطنبالي تراث السود في تونس

امتد فن السطنبالي -الذي يجمع بين الموسيقى والرقص والغناء في آن واحد- من دول أفريقيا جنوب الصحراء ليصل إلى تونس ضمن تجارة العبيد الذين جرى جلبهم من تلك المنطقة، لكنه يوشك على الاندثار.
تونس - قضى رياض الزاوش نحو ثلاثة عقود في قيادة فرقة من فرق فن السطنبالي داخل زاوية أحد الصوفيين وسط مدينة تونس العتيقة، لكنه اليوم مهدد بالتوقف عن الرقص.
ويقضي الزاوش معظم وقته داخل “زاوية سيدي علي الأسمر” في منطقة باب جديد بالعاصمة، وهي تمثل آخر معقل لهذا النوع من الفنون الذي يعد التراث الروحي للأقلية السوداء في تونس.
وتضم الزاوية ضريحا هو الأول لولي صالح من ذوي البشرة السوداء في المدينة العتيقة منذ نحو 900 عاما. كما تعد في نفس الوقت مقرا لجمعية مدافعة عن هذا التراث الفني الذي يوشك على الاندثار ويترأسها الزاوش نفسه.
والسطنبالي فن تقليدي في تونس يجمع بين الموسيقى والرقص والغناء في آن واحد، وهو يمزج بين إيقاعات مغاربية وأفريقية على طريقة الصوفيين، وقد ساعد أحفاد العبيد السود الذين وقع جلبهم في القرون السابقة إلى تونس على ترسيخه كأحد التعبيرات الثقافية.
المؤرخين ينظرون إلى فن السطنبالي على أنه علامة نضالية ميزت توق الزنوج إلى التحرر من الأصفاد ومن العبودية
ويقول رياض الزاوش الذي يرأس “جمعية ثقافة السنطبالي سيدي علي الأسمر” لوكالة الأنباء الألمانية إن شقشقة الصفائح المعدنية الممزوجة بصوت آلة الجمبري تمثل توليفة إيقاعية في فن السطنبالي تتماهى مع معاناة الزنوج.
وتقول الجمعية إن هذا الفن يجسد صورة تونس كأرض للتسامح والاختلاط بين الثقافات. ولكنّ المؤرخين ينظرون إليه على أنه علامة نضالية ميزت توق الزنوج إلى التحرر من الأصفاد ومن العبودية.
وتحمل الجمعية اليوم على عاتقها مهمة الإبقاء على هذا التراث الموسيقي بعد وفاة الكثير من كبار رواده، عبر تنظيم حفلات استعراضية موسمية في المدينة العتيقة يحضرها جمهور عريض.
وينظر إلى الزاوية نفسها كآخر فضاء تراثي للترويج لفن الأجداد من الأقلية السوداء في تونس. ولكن مستقبل فن السطنبالي بات على المحك وهو مهدد بالاندثار لأن مالك الزاوية توفي وقرر ورثته عرض البناية للبيع.
ويقول أعضاء الجمعية إن المالك استفاد من العقار بعد أن تنازلت عنه الدولة في عقد السبعينات من القرن الماضي ويخاطر أبناؤه اليوم بدفن جزء من تراث المدينة وطمس جانب من هوية التونسيين. وبدأت الجمعية بحشد الدعم لدى الرأي العام ومحبي فن السطنبالي للضغط على السلطات من أجل قطع الطريق على عملية بيع المعلم الثقافي.
ومع أن الزاوش ذا البشرة البيضاء لا يمت بصلات عرقية إلى الأقلية السوداء فإنه يعد نفسه حاميا لفن السطنبالي. ويقول “رفضت عائلتي هذا الفن وقاطعتني.عندما عاد السنطبالي إلى المدينة فرح الناس وبدأوا يتدفقون على الزاوية أيام الجمعة وفي المناسبات الدينية وفي العطل”.
ويتحسر الزاوش على تلك الأيام الخوالي، ولكنه لا يزال يأمل في صدور قرار من السلطات لحماية هذا الفن من الموت السريري.
وبحسب مؤرخي مدينة تونس فإن زاوية سيدي علي الأسمر هي من بين أربع بنايات شيدت في منتصف القرن التاسع عشر بأمر من باي تونس آنذاك أحمد باي بعد قراره الذي يقضي بالغاء العبودية، وهو أول قرار تتخذه دولة عربية وإسلامية في تلك الفترة وقبل حتى عدد من الدول الغربية.
والهدف من تلك البنايات هو أن تكون ملاذا يؤوي العبيد والزنوج بعد عتقهم حتى لا يبقوا مشردين في الشوارع.
ويوضح الزاوش “كانت الزاوية تؤوي العبيد لتتحول إلى مجلس مسامرات وطقوس وبدايات لظهور فن السطنبالي”.
وتطالب الجمعية السلطات بحماية الزاوية باعتبارها تراثا ماديا وأيضا باعتبارها رمزا لتراث لامادي يروي تاريخ وتراث أقلية متجذرة في الثقافة التونسية.
رياض الزاوش يقدم نفسه كآخر العارفين الجامعين بفن السطنبالي، وهو يكافح اليوم لمنع غلق الزاوية حتى يستمر في التعريف به وتقريبه إلى الجيل الجديد
وتجد موسيقى السطنبالي جذورها في دول أفريقيا جنوب الصحراء، ولاسيما النيجر والتشاد، ولكنها امتدت عبر الصحراء لتصل إلى تونس ضمن تجارة العبيد الذين جرى جلبهم من تلك المنطقة.
ومثل موسيقى الغناوة في المغرب والديوان في الجزائر ينطوي فن السطنبالي في تونس على طقوس صوفية وروحية تختزل الهوية المختلطة بين منطقة المغرب وأفريقيا جنوب الصحراء.
ويقدم رياض الزاوش نفسه كآخر العارفين الجامعين بفن السطنبالي، وهو يكافح اليوم لمنع غلق الزاوية حتى يستمر في التعريف به وتقريبه إلى الجيل الجديد. ويقول “توفي كبار السطنبالي الواحد تلو الآخر. بقيت أنا الوحيد العارف بفن الرقص والعزف على آلة القمبري. يجب أن نحافظ على هذا الفن وننقله إلى أبنائنا”.
ومرت الزاوية بتاريخ متعرج؛ إذ مع حلول دولة الاستقلال في خمسينات القرن الماضي وصعود الرئيس الليبرالي الراحل الحبيب بورقيبة إلى السلطة، كان مآلها الإغلاق مثل الكثير من الزوايا الصوفية قبل أن يقتني أحد المقربين من الحزب الحاكم البناية في سبعينات القرن الماضي.
وقال الزاوش “استعادت الزاوية نشاطها وبدأ فن السطنبالي في الإشعاع مجددا. فرح الناس بعودة العروض إلى قلب المدينة العتيقة. بعد وفاة مالك البناية بدأ الورثة في المطالبة ببيعها. اليوم نواجه مصيرا مجهولا”.
وقبل الثورة بأشهر قليلة تلقى الزواش وعودا بتسوية وضعية البناية. لكن بعد الثورة اقتحم السلفيون الزاوية وتعرض الزاوش إلى الاعتداء بالعنف واتهامات بالكفر، وهو ما اضطره إلى مغادرة البلاد متجها نحو فرنسا قبل أن يعود بعد سنوات قليلة إثر مواجهة السلطات المتشددين من الجماعات السلفية.
ويقول الزاوش “عدت إلى تونس. لم أستطع العيش دون السطنبالي”.