رئاسة الشؤون الدينية التركية تلتهم ما تبقى من سوريا

يراهن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على ما تقوم به قواه الناعمة أكثر من التدخلات العسكرية لترسيخ الدور التركي، في شمال سوريا. وتشرف على هذه المهمة “الناعمة” بالأساس رئاسة الشؤون الدينية التركية، وتعرف اختصارا بـ”ديانت”. تغوص هذه المؤسسة في عمق المنطقة حتى أن كل المؤسسات التعليمية والدينية والصحية في ريف حلب الشمالي أصبحت تحت سيطرتها، وتشرف عليها منظمات المجتمع المدني والمنظمات الإنسانية التابعة لها.
لندن - تلعب رئاسة الشؤون الدينية التركية “ديانت” دورا مثيرا للجدل في المناطق التي تمكّن الجيش التركي من السيطرة عليها في شمال سوريا، حيث تخصص أنقرة ميزانيات توحي بالتخطيط للبقاء بشكل طويل الأمد.
تأخذ ديانت على عاتقها جزءا كبيرا من هذه المسؤولية، خصوصا خطط نشر عقيدة دينية إسلامية مستنسخة من التديّن التركي، بالإضافة إلى معتقدات تنحدر من أدبيات تنظيم الإخوان المسلمين، التي تشكل أحد المكونات الرئيسية لفكر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان.
ومنذ صعوده إلى الحكم، يعتمد أردوغان على “ديانت” في أعمال السيطرة الخارجية على الجاليات المسلمة في أوروبا، إلى جانب خلق قوة دينية ناعمة جسرا لتمدد الثقافة التركية بين المسلمين. وتعمل “ديانت” لتنفيذ استراتيجيتها مع وكالة الاستخبارات التركية (إم آي تي).
وفي 13 سبتمبر الماضي، نشرت “ديانت” تقريرا لأنشطتها في مناطق درع الفرات وغصن الزيتون، وهما اسمان لعمليتين أطلقهما الجيش التركي في منطقة غرب الفرات، وحولتا المئات من البلدات والقرى، بحكم الأمر الواقع، إلى مناطق واقعة تحت الإدارة التركية المباشرة وغير المباشرة.
ويركز التقرير، الذي صدر في 104 صفحات، على عمليات إعادة تأهيل مساجد دمرتها الحرب، لكن خبراء يقولون إن عمل “ديانت” تخطى هذه المرحلة بكثير، سواء داخل الأراضي السورية أو بين اللاجئين السوريين المقيمين في تركيا.
الاستخبارات الألمانية تدرس وضع "ديانت" على قوائم المراقبة، بعدما صعدت لهجة الأئمة التابعين لها في المساجد التركية دعما لعمليات الجيش التركي في حربه ضد الجماعات الكردية في شمال سوريا
وقال دبلوماسي غربي في أنقرة “ديانت أصبحت المؤسسة الرئيسية التي تعول عليها تركيا في عملية استعادة الاستقرار في المناطق التي شهدت معارك في سوريا”.
وعلى سبيل المثال، بحلول عام 2017 أصبحت كل المؤسسات التعليمية والدينية والصحية في ريف حلب الشمالي تحت سيطرة “ديانت”، وشبكة كبيرة من منظمات المجتمع المدني والمنظمات الإنسانية التابعة لها.
وبات أئمة المساجد تابعين لـ”ديانت” بشكل مباشر. إلى جانب ذلك، أطلقت “ديانت” 30 شريطا مصورا باللغة العربية بهدف “محاربة الإرهاب والتطرف”.
لكنّ سكانا محلّيين معارضين للتوغل التركي في حياة السوريين اليومية، قالوا إن هذه الأشرطة المصورة تنشر تعاليم دينية هدفها تغيير الطابع الفكري والعقائدي التاريخي للسكان المسلمين السنة في المنطقة.
ويعمل لدى “ديانت” أكثر من 470 شخصا في منطقة شمال سوريا، كما خصّص مبلغ يقدر بـ5.5 مليون ليرة تركية (885 ألف دولار) لدفع رواتب رجال دين ووعاظ محللين تلقوا تدريبا من قبل شيوخ تابعين لـ”ديانت”.
وتقول رئاسة الشؤون الدينية التركية إنها تستبعد كل من يرتبط بالمنظمات الإرهابية أو المتطرفين من قوائمها خلال عملية اختيار موظفيها في شمال سوريا.
لكن تقارير محلية أكدت أن الكثير من المنضمين للعمل في صفوف الإدارة هم أعضاء حاليون أو سابقون أو متعاطفون مع تنظيم الإخوان المسلمين والجماعات المرتبطة به في سوريا.
شهد العقد الماضي صعود “ديانت” لكي تصبح المؤسسة المفضلة لأردوغان إلى جانب المخابرات.
وتمت مضاعفة ميزانية “ديانت” وعدد العاملين بها وقدرتها على التأثير ومداه. ومع الوقت باتت الروابط التي تجمع بين “ديانت” والاستخبارات التركية شبه علنية.
استهداف أتباع غولن
تقول تقارير إن الاستخبارات الألمانية تدرس وضع “ديانت” على قوائم المراقبة، بعدما صعدت لهجة الأئمة التابعين لها في المساجد التركية دعما للجيش التركي في حربه ضد تنظيم سوريا الديمقراطية ووحدات حماية الشعب وجماعات كردية أخرى في شمال سوريا.
كما أدت اتهامات لحقت بمساجد تابعة لـ”ديانت” في هولندا ودول أخرى في أوروبا بالقيام بعمليات تجسس على أعضاء في حركة “خدمة” بزعامة فتح الله غولن إلى توتر علاقات بعض الحكومات الأوروبية بأنقرة.
وفي بعض الدول الأوروبية، كبلغاريا حيث توجد أعداد كبيرة من الأتراك، عمل عناصر تابعون لحزب العدالة والتنمية الإسلامي الحاكم في تركيا مع رجال دين وموظفين يعملون في “ديانت” على استهداف أتباع غولن، وهو ما كاد يتسبب في أزمة دبلوماسية بين بلغاريا وتركيا.
وقال رجل دين عمل في “ديانت” لأكثر من 20 عاما لموقع “المونيتور”، الذي فضل عدم ذكر اسمه، إن “ديانت هي أكبر صدى صوت لأردوغان، خصوصا منذ عام 2010”، مضيفا أن “عمل ديانت يمكن أن يبرر بسهولة عبر سلسلة متنوعة من الأنشطة الإنسانية والدعوة للحريات الدينية. هذا هو المكان المثالي والمؤهل لإخفاء أي أنشطة على مرأى ومسمع من الجميع. طالما وجد المسلمون فتدخل ديانت مبرر بالطبع”.
وأكد أن “ديانت تتحكم في عدد كبير من المنظمات الخيرية والإنسانية التركية، لذلك فإن المبالغ التي يتم نشرها ضمن نفقات الإدارة وتلك المخصصة لدفع الرواتب يمكن توزيعها على هذه الشبكة وخلق غموض بشأنها في حال إطلاق تساؤلات أو حدوث أزمة”.
ولم تمنح الحكومات التركية السابقة اهتماما كبيرا لأنشطة “ديانت”، لكن أردوغان رأى فيها شيئا آخر. ويؤمن أغلب الموظفين في إدارة الشؤون الدينية بفكر أردوغان، كما يعادون المؤسسات العلمانية التركية بشكل كبير.
وقبل 15 عاما، لم يكن هؤلاء يتخيلون أن “ديانت” ستصبح إحدى أقوى المؤسسات التركية وأن تأثيرها سيصبح عالميا كما أنها ستتمتع بنفوذ سياسي كبير على المستوى المحلي.
دوريات تركية-أميركية في منبج
باريس - على الرغم من التوتر المتفاقم في العلاقات التركية– الأميركية، إلا أن العلاقات العسكرية وخاصة على الأرض السورية والتنسيق بين الطرفين لم يتوقفا. وقال وزير الدفاع الأميركي جيم ماتيس إن الولايات المتحدة وتركيا بدأتا تدريبات معا للقيام بدوريات مشتركة قريبا في منطقة منبج بشمال سوريا رغم توتر العلاقات بين البلدين.
وتقوم قوات تركية وأخرى أميركية حاليا بدوريات منفصلة في منبج وفقا لاتفاق توصل إليه البلدان العضوان في حلف شمال الأطلسي في يونيو. ويمثل التدريب آخر خطوة قبل قيام البلدين بدوريات مشتركة. وأضاف ماتيس لمجموعة من الصحافيين المرافقين له خلال زيارته إلى باريس “التدريب جار وعلينا انتظار ما ستؤول إليه الأمور بعد ذلك”. وقال “لدينا كل الأسباب التي تجعلنا نعتقد بأن القيام بدوريات مشتركة سيتم في الوقت المحدد بعد اكتمال التدريب وبالتالي ينفذ بطريقة صحيحة”.
وأوضح أن الولايات المتحدة تعمل حاليا مع المدربين وبعدها ستُجرى تدريبات على مدى أسابيع مع القوات التركية قبل بدء القيام بدوريات مشتركة. وسيتم التدريب في تركيا. وكان رئيس الأركان التركي يشار غولر بحث مع نظيره الأميركي جوزيف دانفورد، إجراءات الأمن في منطقة منبج شمالي سوريا. وحسب بيان نشره المتحدث باسم الأركان الأميركية باتريك رايدر، فإن غولر ودانفورد التقيا الثلاثاء في وارسو.
وأكّد رايدر أن غولر ودانفورد بحثا خلال اللقاء إرساء الأمن في منطقة منبج، وسبل تعزيز العلاقات العسكرية بين تركيا والولايات المتحدة الأميركية. وبموجب خارطة طريق اتفق عليها البلدان في يونيو الماضي تجري القوات التركية والأميركية حاليا دوريات مستقلة ومنسقة في منبج لإخراج المسلحين، لكن الرئيس رجب طيب أردوغان لفت إلى أن التنظيم لا يزال في منبج.
وقال أردوغان في تصريحات صحافية إن “الولايات المتحدة لم تف بتعهداتها، ولم تلتزم بالجدول الزمني المتفق عليه في خارطة الطريق الخاصة بمنبج ولم يغادر المسلحون المنطقة”. وغضبت تركيا من دعم واشنطن لوحدات حماية الشعب الكردية. وهددت أنقرة قبل التوصل إلى الاتفاق في يونيو بشن هجوم بري ضد تلك الجماعة في منبج رغم وجود القوات الأميركية هناك.
تبني ثقافة المؤسسة
بين أروقة “ديانت” لا يستطيع أحد أن يختلف أو ينتقد الأفكار الدينية والاجتماعية والسياسية التي تقوم عليها حكومة أردوغان، بل على العكس، تبنى ثقافة المؤسسة، إلى جانب الثقافة التي يقوم العاملون فيها بتسويقها، على الخضوع التام.
ويعمل الموظفون في “ديانت” في أوروبا تحت إشراف السفارات التركية، وغالبا ما يكون ضباط الاستخبارات العالمية في هذه السفارات هم المشرفون المباشرون على عمل الأئمة.
وفي مدن الباب وجرابلس وأعزاز الواقعة في شمال غرب سوريا، لا يتوقف العمل الأيديولوجي الذي تقوم به “ديانت” على نشر تعاليم دينية فقط، لكنها تحاول خلق المزيد من الدين والقومية التركية، يقود في النهاية إلى عقيدة “التمدد العثماني” القائم على المعتقدات الدينية التي يؤمن بها أردوغان. ويجعل ذلك من رسالة “ديانت” عقيدة هجينة لا تختفي فيها الفوارق الجوهرية بين الأمن القومي التركي وأسس العقيدة الإسلامية. ويعني هذا تسويق أن الإسلام هو تركيا، وتركيا هي الإسلام.
هذه المشاعر متوغلة منذ فترة طويلة بين عناصر تنظيم الإخوان المسلمين العرب. وتقول مصادر إن التداخل العقائدي والتزاوج الفكري قضا على أي فرق بين عناصر “ديانت” وعناصر الإخوان المسلمين، بعدما باتت رسالتهم واحدة.
وفي إدلب، أدت إقامة شبكة من القواعد العسكرية التركية في يناير 2018 إلى محاولة منسقة من الفصائل التي تدعمها أنقرة لطرد هيئة تحرير الشام وغيرها من الجماعات الجهادية من البلدات الرئيسية.
ومع تكشف هذه المحاولة لتقليص نفوذ هيئة تحرير الشام، كثفت رئاسة الشؤون الدينية التركية جهودها للسيطرة على شؤون الرعاية الاجتماعية والحكم في أرجاء المحافظة.
ولذلك بدأت تظهر في شمال سوريا شراكة بين مسؤولي الإدارة الدينية التركية وضباط الجيش التركي الذين أصبحوا معتادين على شؤون حكم أعداد كبيرة من السكان في إطار مشروع شبه استعماري.
ونظرا لأن المعضلات الاستراتيجية التركية تجعل الانسحاب مستبعدا قريبا، فإن هذه الشبكة من المساعدين السوريين داخل الإدارة الدينية التركية إلى جانب الجيش يطوران مصلحة خاصة في الحفاظ في المدى الطويل على السيطرة على الإمبراطورية التركية المفاجئة في سوريا.
ظهور هذه الشبكة المدنية العسكرية ذات الصلات العميقة بحزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا، فضلا عن تجمعات اللاجئين السوريين في تركيا، سيكون له على الأرجح تأثير كبير على السياسة في تركيا نفسها. فمع مرور الوقت، سيكون على الحكومات التركية المتعاقبة التي تعتمد على مثل هؤلاء المساعدين السوريين في إدارة تلك الأراضي أن تضع مطالبهم في الحسبان.
وتقول تقارير إن هناك أكثر من 11 ألف طالب سوري في الشمال يتلقون تعليمهم تحت إشراف مباشر من “ديانت”، التي قامت بتعيين 5600 معلم سوري، أغلبهم ينتمون إلى فصائل المعارضة السورية.

على خطى إيران
تروج المناهج التعليمية التي وضعتها “ديانت” لنموذج الإسلام السني التركي، كما تحتوي على لهجة معادية للأكراد. وتظهر مناهج “ديانت” الأكراد باعتبارهم “ملحدين”، وتقول إن المقاتلين في صفوف وحدات حماية الشعب وحزب العمال الكردستاني “كفار”.
ويقول تقرير “ديانت” إنه تم تعيين 519 امرأة و 291 رجلا لتحفيظ القرآن في شمال سوريا. ويقول صحافيون في المنطقة إن الإدارة تستهدف إصلاح المساجد وبناء المدارس الدينية في المناطق التي اعتاد فيها العثمانيون أن يكون لهم وجود ديني وحضاري كثيف. ويوحي ذلك أن الأتراك تعلموا الدرس من إيران، وأنهم يسيرون اليوم على نفس النهج الإيراني في سوريا.
ويأمل أردوغان أن يوصله هذا النهج إلى نفس النتائج التي حققها الإيرانيون في سوريا والعراق واليمن ولبنان على المدى الطويل. ومنطقي أن يؤدي استخدام نفس الأدوات في نفس البيئة إلى تحقيق نفس النتائج، لكن معضلة أردوغان تكمن في إدراك السوريين لأهدافه الحقيقية.
وفي السابق كانت الشعوب العربية لا تفهم جيدا أبعاد الأجندة الإيرانية، ووقعت الحكومات والأنظمة في خطأ كبير عندما تبنت سياسة متسامحة مع الوجود الإيراني على أراضيها، لكن اليوم قاد الارتفاع في الحساسية تجاه سياسة التوسع الإيرانية إلى إجبار هذه الحكومات على إعادة النظر في تحركات طهران.
ويأمل أردوغان في كسب نفوذ في المناطق التي تجتاحها الفوضى. وفي شمال سوريا تسبب الجيش التركي نفسه في خلق هذه الفوضى، التي تعتبر بيئة مناسبة لغرس الجذور التركية–العثمانية بين السكان، ثم انتقل بعد ذلك إلى مرحلة إعادة الاستقرار، اعتمادا هذه المرة على إدارة الشؤون الدينية والاستخبارات التركية.
ويقول دبلوماسيون إنه “إذا سمح لأردوغان بتبني نفس النهج الإيراني في سوريا، فستبتلع طهران وأنقرة ما تبقى من العالم العربي”.