ديون لا تسقط بالتقادم ومباهاة عفا عليها الزمن

القاهرة - كما لا تسقط الجرائم بالتقادم مهما مرت عليها السنوات فكذلك “النقوط” التي يحصل عليها العروسان في بداية زواجهما، فهي ديْن عليهما لا يسقط عنهما مهما طال به الزمن، بل وينتقل من جيل إلى جيل ليتوارثه الأحفاد إن لم يكن قد تم سداده، وهي كما يقول المثل المصري الدارج “كل شيء سلف ودين.. حتى الدمع بالعين”.
شهدت حفلات الزواج تغيرات جذرية حوّلت “النقوط” من عادة اجتماعية جميلة ونوع من المساعدة والدعم للزوج إلى عبء يثقل كاهله ويرهقه على المدى البعيد، حتى أن البعض من الأزواج بالرغم من مرور السنوات ما زالوا يحتفظون بدفاتر قديمة متهالكة تحتوي على قائمة طويلة عريضة بأسماء الذين قاموا بـ”تنقيطهم” ليقوموا بسدادها في مناسبات مماثلة لنفس الشخص أو ذويه من إخوة وأبناء وأقارب، فهي تظل سلسلة معلّقة في رقبة من يأخذه يلتزم بردّه أخلاقيا واجتماعيا.
أصبحت كثرة المناسبات والأفراح عبئا على رواتب العرسان الجدد، حيث يقتطعون مبلغا من راتبهم الشهري لسداد النقوط والهدايا التي تلقّوها في حفلات زواجهم، وبالتالي فهي وإن كانت محببة وتساعد العروسين في بداية مشوارهما، إلا أنها لا تخلو من كلفة عالية على المدى البعيد.
الوجاهة والمباهاة اللتان اكتنفتا الكثير من أمور الزواج لم تدعا أمر “النقوط” على ما هو عليه، وإنما صارت هناك مزايدات ومبالغات لاعتقاد البعض من الشباب العربي أن جُوده وكرمه هو فقط بالمبلغ الذي يُعلقه على سترة العريس خلال حفل الزفاف.
حفلات الزواج شهدت تغيرات جذرية حوّلت \'النقوط\' من عادة اجتماعية جميلة ونوع من المساعدة والدعم للزوج إلى عبء يثقل كاهله ويرهقه على المدى البعيد
في بعض الحفلات باتت النقوط مرادفا للتبذير من أجل المباهاة وحب الظهور، وهناك الآن الكثيرون من المصابين بمرض حب الشهرة الذين يدفعهم هذا المرض إلى ارتكاب تلك الأفعال لمجرد أن يُظهروا للآخرين مدى سخائهم لينالوا الثناء والمديح، ويقومون بمحاكاة الغير وتقليدهم كي لا يوصفوا بالبخل، ومن ثم يتم إنفاق أموال باهظة من دون تبصّر أو نظر في العواقب التي ستقع على رأس من حصل على هذا المال في ما بعد.
البعض من أثرياء الأسر العربية تعمدوا في الآونة الأخيرة بعثرة ونثر مبالغ كبيرة على مرأى من الجميع، وهو ما يسبب إحراجا كبيرا لأصحاب الدخول المتوسطة، وقد يحرمهم ذلك من حضور حفل الزفاف أصلا، بل وقد يضطرون إلى أخذ “سُلفة” أو قرض من بنك أو صديق ليتمكنوا من تقديم هدية لائقة أمام الحاضرين تضاهي الآخرين، وفي كلتا الحالتين فإن هذا يسبب إحراجاً للعروسين.
في المجتمعات التي تحولت إلى النمط الاستهلاكي الترفي وتميل إلى التباهي والاعتداد بالمظاهر والمبالغة في الاستهلاك صارت “النقوط” همّا شاغلا ومقلقا، يُخلف وراءه ضغائن وأحقادا وتفككا في البنية الاجتماعية داخل البلد الواحد بدلا من التلاحم والتآخي، فالمساءلة والمحاسبة التي تجري من أجل “النقوط” من شأنها أن تدمر النسيج الاجتماعي الإنساني الذي لطالما تميزت به الأسر العربية.
وتحولت عادة “النقوط” مؤخرا إلى سبب في جرائم راح ضحيتها أشخاص تشاجروا عند تقسيمها، وانتشرت قصص كثيرة عن معاناة الأزواج من سلبيات “النقوط” بسبب الظروف التي يكون عليها العروسان أثناء عملية تقديم “النقوط”، حيث لا يتم الانتباه للمبالغ التي يتم تقديمها من قبل المدعوين، ويختلط “الحابل بالنابل”.
هناك زيجات لم تتم وكان مصيرها الفشل بسبب الخلاف على أي العائلتين تستحق النقوط. هل هم أهل العريس أم أهل العروس؟ وقد رفعت زوجات قضايا تطلبن فيها الخُلع بسبب أن أزواجهن استولوا على نقوطهن، وأخريات أصبحت حياتهن على المحك لانعدام الثقة من جانب الزوج لإخفاء زوجته القيمة الحقيقية لما حصلت عليه من نقوط في الزواج، وطاردت “المعايرة” والسخرية البعض من الأزواج لعدم قدرتهم تحت ضغط الحياة على الالتزام بهذه العادات الاجتماعية، سواء كانت أفراحا أو أتراحا.
تلك الأسباب وغيرها كانت دافعا للعديد من المقبلين على الزواج أن يكتبوا في أسفل بطاقة الفرح “حضوركم يشرفنا.. ونعتذر عن قبول النقوط”، والكثير من الفتيات بتن يرفضن تلقي النقوط، وبعضهن أصبحن تمهرن بطاقة دعوتهن بكلمات متميزة، مثل “انثروا الورود بدلاً من النقود”، أو “نقطتي في وجودكم وليست في أموالكم”.
ظهرت في بعض البلدان العربية مؤخرا مبادرات شبابية تنادي بإلغاء عادة النقوط في حفلات الزواج، ورفض الشباب استلام جميع الهدايا المالية، وتمنوا أن تزول هذه العادة من المجتمعات العربية لأنها تقلل من شأن العريس وقدرته على تدبير أموره بنفسه وتشجع الشباب على الاتكالية والاعتماد على الغير بدلا من الاعتماد على النفس والعمل بجد لتوفير المال اللازم قبل طرق أبواب الناس لطلب بناتهم للزواج.