"دونية" المرأة منطلق لكل أشكال العنف ضد نساء كردستان

أدى تجاهل مشكلة العنف ضد النساء من قبل سلطات كردستان العراق إلى ارتفاع نسبها بشكل كبير إضافة إلى نسب الاكتئاب والانتحار بين النساء والفتيات بغياب العدالة والقانون وتواطؤ الأحزاب السياسية مع القضاء المتساهل حيال قتل النساء.
أربيل - استفحلت ظاهرة انتحار النساء أو قتلهن حرقاً في إقليم كردستان العراق لأسباب اجتماعية ومادية، على رأسها العنف المسلط على النساء إذ تسجل السلطات حوادث يومية للاعتداء على الشقيقات والزوجات، بينما يتم التشكيك في هذه الحوادث بأن العديد منها جرائم قتل يتم التستر عليها والادعاء بأنها انتحار.
وكشفت وزارة العمل والشؤون الاجتماعية في حكومة كردستان هذا الأسبوع عن إحصائيات انتحار النساء في الإقليم، لافتة إلى أن محافظة السليمانية تتصدرها منذ عام 2017.
وتعد السليمانية الأكثر تسجيلا لحالات الانتحار بالحروق أغلبها تعود إلى نساء من فئات عمرية مختلفة، بالإضافة إلى حالات احتراق نتيجة حوادث عرضية مختلفة.
وتضمنت الإحصائية نسب الانتحار بين النساء في جميع محافظات الإقليم من 2017 إلى غاية الأشهر الستة الأولى من السنة الحالية.
وأفادت بأن “549 امرأة أقدمن على الانتحار في عموم محافظات الإقليم منذ عام 2017 إلى غاية الآن، حيث جاءت محافظة السليمانية في المقدمة بـ209 حالة، و160 حالة في أربيل، و133 حالة في دهوك، و38 حالة في إدارة كرميان، و9 حالات في حلبجة”.
وأضافت أن نسبة 38 في المئة من النساء اللواتي أقدمن على الانتحار في إقليم كردستان تتراوح أعمارهن بين 21 و30 عاما، أي ما يعني 317 امرأة من المجموع الكلي.
غياب التعليم والتوعية أدى إلى جهل النساء بالطرق القانونية لحماية أنفسهن الأمر الذي قاد إلى انتشار وباء الانتحار عبر الحرق
وقالت الوزارة في فعاليات المؤتمر التوعوي حول مناهضة العنف ضد المرأة إن المؤتمر جاء ضمن حملة الـ16 يوماً لمناهضة العنف ضد المرأة والأسرة في إقليم كردستان وقد جرت فيه مناقشة أسباب الانتحار وعوامله الاجتماعية والنفسية والاقتصادية.
ومؤخرا أصدرت مديرة قسم التمريض في مستشفى السليمانية نيكار محمد مارف تحذيرا من تبعات استمرار تجاهل معاناة نساء كردستان اللواتي يتعرضن للتعنيف المنزلي المستمر الذي يدفعهن إلى “الانتحار عبر حرق أنفسهن”.
ومارف التي اختارتها “بي.بي.سي” كواحدة من بين مئة امرأة كانت الأكثر تأثيرا عام 2022، أوضحت أن “المشكلة الأكبر التي تواجه النساء في إقليم كردستان العراق، هي غياب التعليم والتوعية الذي أدى إلى جهلهن بالطرق القانونية لحماية أنفسهن من عمليات التعنيف المنزلي والاستهداف، الأمر الذي قاد إلى انتشار وباء الانتحار عبر الحرق”.
وأضافت أن نساء كردستان يلجأن إلى “حرق أنفسهن كتعبير عن الاحتجاج ضد المعاملة السيئة التي يتلقينها داخل الإقليم من قبل المجتمعات القبلية الكردية مع استمرار غياب الحماية القانونية لتلك الشريحة بسبب ابتعادها عن مراكز المدن وسيطرة القوات الأمنية”.
وأشارت مارف إلى أن “تجاهل المشكلة من قبل السلطات قاد إلى ارتفاع نسبها بشكل كبير، حيث أعلنت اليونسكو في إحصائية أخيرة أن نسب العنف بناء على النوع الجندري ارتفعت في العراق بنسبة 125 بالمئة خلال عامي 2020 و2021″، بالإضافة إلى “ارتفاع مقلق في نسب الاكتئاب والانتحار بين النساء والفتيات”.
ولفتت تقديرات “بي.بي.سي” حول عدد ضحايا الانتحار بسبب العنف المنزلي والضغط الاجتماعي في الإقليم إلى أنه “يصل إلى نحو عشرة آلاف امرأة قضت حرقا وانتحارا منذ حصول الإقليم على استقلاله السياسي عام 1991 حتى اليوم”.
وأكدت مديرة قسم التمريض في تقرير للهيئة البريطانية أن “أوضاع النساء في تحسن بطيء مع استمرار الجهود لتوعيتهن بالحقوق القانونية والعمل على توفير الحماية لهن من خلال المنظمات”.
وأكدت أن “نساء كردستان العراق “عانين من غياب العدالة لفترة طويلة، والآن بدأت جهود تصحيح ذلك المسار تحظى باهتمام دولي”.
ويندد ناشطون في الإقليم منذ سنوات بختان النساء وعمليات التزويج القسري والعنف الممارس ضدّ النساء، في مجتمع محافظ.
وفي يونيو 2011 أقرّ برلمان إقليم كردستان قانوناً يجرّم ختان النساء والعنف الأسري. وفي القانون عقوبات تصل إلى حدّ السجن المؤبد لمرتكبي جرائم الشرف. ورحبت الأمم المتحدة بالقانون حينها معتبرةً أنه تقدّم ملحوظ بعد سنوات من المطالبات. لكن تطبيق هذا القانون يعرقله مناخ من الإفلات من العقاب والخشية من الأقاويل.
ويقول ناشطون إن الأجهزة الأمنية في أحداث قتل النساء لا تقوم بمثل ما تقوم به من إجراءات في قضايا قتل رجال. كما أن الكثير من قضايا قتل النساء لا تصل أصلاً إلى المحاكم وتعالج من خلال الصلح العشائري بين عائلة الرجل وعائلة الزوجة الضحية.
وتحوم الشكوك حول معظم حوادث انتحار النساء، وتقول شيلان حمه نوري، وهي باحثة اجتماعية وناشطة في مجال الجندر وحقوق المرأة، “الحكومة والمنظمات النسوية ومديرية مناهضة العنف ضد المرأة والأسرة توثق جرائم قتل النساء، ولكنني لا أعتبر التوثيق دقيقا”.
وتضيف “أحيانا تسجل الواقعة انتحارا، في حين أن معظم الحالات هي ‘استنحار’، أي هناك إجبار وحضّ للمرأة على الانتحار، كما تقتل المرأة أحيانا بالشنق أو تحرق، وتسجل الواقعة انتحارا أو حادثة قضاء وقدر، وقد يكون السبب أحيانا عدم بذل جهد لمعرفة السبب الحقيقي للوفاة. ويتم الاكتفاء بأقوال شهود وهذا غير كاف وليس لدى الشرطة الوسائل والمعلومات الكافية لتقصي الحقيقة”.
وعند وقوع كل جريمة قتل امرأة في كردستان يبرز سؤال “ماذا فعلت؟”، الأمر الذي يعتبره البعض أول الأدلة على نظرة عدائية متحيزة ضد المرأة، ومجتمع لا يعترف بحقها في الحرية والاختيار، إذ يبدو السؤال بحد ذاته بمثابة إقرار ضمني بأن تصرفات معينة تقدم عليها الأنثى قد تكون سببا لقتلها.
وأثارت قضية مقتل امرأة متحولة جنسياً في الإقليم الواقع في شمال العراق، والذي يقدّم نفسه على أنه ملاذ للاستقرار والتسامح، على يد شقيقها العائد من أوروبا الجدل على مواقع التواصل الاجتماعي مطلع فبراير الماضي، وموجةً من الكراهية تجاه الضحية. لكن القضية في الوقت نفسه دفعت كثيرين إلى الدفاع عن حقوق الأقليات.
وعادة ما ترفض عائلات ضحايا هذا النوع من الجرائم، والتي ترتكب بذريعة الدفاع عن الشرف، استلام جثثهن ودفنها بشكل لائق، وتدفن الضحايا في مقابر خاصة، وفي قبور من دون شواهد أو أسماء.
وبادر قوباد طالباني، نائب رئيس وزراء الإقليم، مؤخرا إلى وضع شواهد على قبور الضحايا، لكنها بدل أسمائهن كتبت عليها عبارة موحدة وهي “مثوى الحياة”.
ووصف طالباني الخميس الماضي قتل المرأة بداعي الشرف أو تحت أي ذريعة أخرى بأنه “فعل شنيع، ويسيء” لسمعة الإقليم، مؤكدا على ضرورة تنفيذ القوانين الخاصة بمكافحة العنف ضد المرأة.
أحيانا تسجل الواقعة انتحارا في حين أن معظم الحالات هي ‘استنحار’، كما تقتل المرأة أحيانا بالشنق أو تحرق، وتسجل الواقعة انتحارا أو حادثة قضاء وقدر
جاء ذلك في كلمة ألقاها على هامش استضافته في أعمال المؤتمر الدولي الأول للمرأة تحت عنوان “المرأة في مرآة المجتمع والتاريخ” الذي انعقد في جامعة السليمانية.
وقال طالباني إنه “يتعين أن نبدأ بمكافحة فكر العنف ضد المرأة من البيت أولاً، وبعده المدارس، ثم المؤسسات والدوائر الحكومية، وفي أماكن العمل، وفي البرلمان، وفي سوق العمل”.
وأكد على ضرورة تعديل القوانين الخاصة بالعنف ضد المرأة، مستدركا “لكن الأهم من ذلك تنفيذ تلك القوانين”.
وأردف أن “توعية المجتمع حول حقوق المرأة أمر مهم جداً وصعب في نفس الوقت، لأن هذا الأمر ليس كإصدار قرار أو قانون لذا علينا الاستمرار يومياً في توعية المجتمع والاهتمام بهذا الملف بشكل مستمر، وأن نتحدث عنه يوميا وعلى جميع شرائح المجتمع الاهتمام بملف حقوق النساء”.
وتقول الناشطة شيلان حمه نوري إن الموروث الاجتماعي من الأسباب الرئيسية، فهو “ينظر إلى المرأة كجسد فقط، ويعتبرها رمزا لشرف القبيلة والعائلة، وهو شرف يختزل في غشاء البكارة”.
كما تساهم في ذلك “النزعة الذكورية لدى بعض رجال الدين، حتى عندما يتعارض تفسيرهم مع الدين نفسه مثل ختان البنات وحرمان المرأة من الميراث والتعليم”.
هناك إجبار وحضّ للمرأة على الانتحار، كما تقتل المرأة أحيانا بالشنق أو تحرق وتسجل الحادثة انتحارا
وتشير إلى أن “بعض الأحزاب الإسلامية المتطرفة تلعب دورا سلبيا”، وتعتبر أن مطالب الناشطات والجمعيات المدافعة عن المرأة “تتعارض مع الدين وتخل بالأخلاق، وهذه الأحزاب لديها خطابات تدين النساء الناشطات”.
والعامل الآخر هو ضعف دور القانون، وتقول “عندما تلجأ المرأة إلى المحاكم، تصطدم بالبطء الشديد في الإجراءات إلى درجة أنها تتخلى عن حقوقها”.
وتضيف أنه رغم تعديل القانون بعد جهود من الناشطات، واعتبار قتل النساء بحجة الدفاع عن الشرف كالقتل العمد، فالمشكلة تكمن في صعوبة تقديم القاتل إلى العدالة، فهو أحيانا مجهول باتفاق مع العائلة أو العشيرة أو يلجأ إلى أحد المسؤولين أو أصحاب السلطة والنفوذ السياسي أو يهرب خارج البلاد، وهناك الكثير من جرائم قتل النساء التي لم يتم اعتقال مرتكبيها.
وترى شيلان أن دور وسائل الإعلام والتربية والتعليم “سلبي أكثر منه إيجابيا، وهي غالبا ما تعيد إنتاج الموروث الاجتماعي بدل محاولة تطويره”.
ويفتقر المجتمع إلى الوعي إذ مازال يؤمن، وبقوة، بدونية المرأة وعدم المساواة بينها وبين الرجل، والعقلية الدينية متجذرة في أبسط التفاصيل القانونية. أما التقصير في مكافحة هذه الجرائم فإنه يقع في المقام الأول على عاتق الجهازين الأمني والقضائي. وهذان الجهازان تحركهما أياد حزبية.
والمؤسسة الحزبية الحاكمة في كردستان لديها يد قوية داخل جميع مفاصل الدولة، وخصوصا القضاء. وبإمكان أي مسؤول حزبي صغير أن يغير مسار أكبر وأخطر قضية قتل أو فساد، خصوصا إذا كانت القضية قتل امرأة.
ولا يقتصر العنف ضد النساء على إقليم كردستان فقط، بل إن هذه الحالات موجودة في العراق عموماً. وقالت منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف) من جانبها إن حوادث العنف القائم على النوع الاجتماعي تخطت 22 ألف حالة.

وتشير المنظمة إلى أن هذه الحالات ترتبط “بزيادة حالات العنف القائم على النوع الاجتماعي في العنف الأسري”، لكن أيضاً “مع زيادة مقلقة في الاكتئاب والانتحار بين النساء والفتيات، ولاسيما بين الفئات الضعيفة مثل النازحين واللاجئين”.
والمفارقة أن هناك شكاوى على الطرف الآخر من الرجال الذين يقولون إنهم يتعرضون للعنف على أيدي النساء، فقد صرح رئيس اتحاد رجال كردستان برهان علي فرج بأن الاتحاد وثق مئات حالات العنف التي مورست ضد الرجال من قبل النساء، وذلك في معرض بيانه لإحصائية سنوية لعام 2022.
وقال فرج، خلال مشاركته في برنامج لفضائية “كردستان 24″، إنه تم توثيق 534 حالة عنف ضد الرجال، بينها انتحار 65 رجلاً، ومقتل خمسة آخرين.
وأضاف “سجلنا 534 شكوى وعنفا ضد الرجال في جميع فروع المنظمة، من بينها انتحار 65 رجلاً وقتل 5 رجال على يد زوجاتهم بمساعدة آخرين”. وأوضح أن حالات الانتحار توزّعت وفق الآتي: السليمانية 26 حالة، أربيل 23 حالة، دهوك 8 حالات، بينما سجلت محافظة كركوك 6 حالات وحلبجة حالتين.
ومن إجمالي عدد الشكاوى وحالات العنف 213 حالة حضانة أطفال أو طلاق، و193 حالة تدخّل أقارب في مشاكل عائلية، و45 حالة خيانة زوجية، و37 حالة إخلاء رجل مسن، و12 حالة عنف نفسي وجنسي.
وتابع رئيس الاتحاد “كانت هناك تسع حالات عنف جسدي وثماني حالات حجز على الأجر”، مشيرا إلى أنه “سُجِّل شكلٌ جديد من أشكال العنف ضد الرجال هذا العام لم يسبق له مثيل، وهو التهديدات الإعلامية والإلكترونية والتشهير أو العنف على مواقع التواصل الاجتماعي، وعددها 17 حالة”.
واتحاد رجال كردستان هو منظمة مدنية معنية بالدفاع عن حقوق الرجال في إقليم كردستان، مقرها محافظة السليمانية، وتحقّق في المشاكل التي يواجهها الرجال داخل الأسرة.