دول الجنوب تطالب الغرب بالتوقف عن الغطرسة

لا وجه للشبه بين ما يجري الآن وبين أيام حركة عدم الانحياز.
الأربعاء 2022/09/14
احتمال "قيامة" حركة عدم الانحياز بعد الموت ضعيف، وعلى الغرب أن يدرك أن علاقاته مع العالم لم تعد كسابق عهدها

كشفت الأزمة الأوكرانية عن تصدعات عميقة على مستوى العالم لم يكن قد حان وقت الحديث عنها على ما يبدو، كيانات ترهّلت وزال تأثيرها وأخرى قد تنشأ من بين التوترات الدولية الحالية. من بين تلك الأحلاف التي باتت من الماضي حركة عدم الانحياز، التي عاد الحديث عنها مؤخراً بعد رفض مجموعة من دول العالم مثل معظم دول أفريقيا وآسيا والشرق الأوسط وأميركا اللاتينية الاصطفاف خلف الغرب في مواجهته مع روسيا والصين. لكن هل يمكن بالفعل العودة بالزمن إلى مرحلة الحرب الباردة التي كان فيها شعار عدم الانحياز قادراً على الصمود؟

لندن - الأيديولوجيا التي تأسست عليها حركة عدم الانحياز كانت مبنية على الأمل في إمكانية تأسيس نظام عالمي ثالث لا شرقي ولا غربي، إلا أن مجرّد فكرة الحديث عنها، حسب راجا موهان الكاتب في دورية فورين بوليسي، قد يثير الجدل في الغرب، دون أن يكون لهذا الجدل أي آثار توحي بتهديد محتمل.

مفهوم “عدم الانحياز” لم يكن مفهوما متماسكا في حينه. فقد عكس مجموعة من الأفكار المتميزة حول مشاركة ما بعد الاستعمار مع العالم. وكان أحدها الاقتراح القائل بأن الابتعاد عن القوى العظمى والكتل المنافسة لها أمر حاسم لحرية العمل في العالم. ولم يستغرق الأمر وقتا طويلا حتى اصطدمت فكرة الحياد بالواقع.

مثال ذلك البارز كان أحد مؤسسي فكرة عدم الانحياز، رئيس الوزراء الهندي الراحل جواهر لال نهرو الذي سرعان ما تخلى عن المنظومة مع اندلاع الحرب الصينية – الهندية في 1962. وبينما لجأ نهرو إلى الولايات المتحدة للمساعدة العسكرية، دخلت ابنته إنديرا غاندي في تحالف مع الاتحاد السوفييتي في 1971، وعندها كان التهديد الفعلي هو المهم وليس المبدأ المجرد.

تلك المرحلة كان لها طابعها الخاص، فقد كانت هذه الدول تخرج من عصر الانتداب الغربي، واندلعت فيها صراعات محلية وإقليمية، فكان على أطراف النزاع أن تجد لها داعماً في الشرق أو الغرب.

وبعد أن كان الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر واحداً من أبرز مؤسسي الحركة، لم يتردد خليفته أنور السادات بإلقائها جانباً مطلع سبعينات القرن العشرين، والمسارعة إلى الولايات المتحدة لدعمه في اتفاقية السلام مع الإسرائيليين، وقبله وجدت باكستان في الولايات المتحدة حليفاً وداعماً، ثم ما لبثت أن توافقت مع الصين الشيوعية.

البحث عن الحليف الطبيعي

كان تحولا مباشرا ذاك الذي مرت به حركة عدم الانحياز في نهاية عقد السبعينات، حين أعلنت في قمة استضافها كاسترو في هافانا أن الاتحاد السوفييتي هو "الحليف الطبيعي" للعالم النامي

إذاً كانت حركة عدم الانحياز مجرّد معبر للانحياز، فلم تستطع تأسيس منظومة قوية، ولا هي حافظت على مواقف حيادية بالفعل. وفي الوقت الذي رفعت فيه الحركة شعار الحياد الأيديولوجي، بدت أكثر أيديولوجية حين اتخذت موقفاً معادياً للنظام الرأسمالي الغربي.

الدول التي شكلت الحركة كانت خاضعة لاستعمار دول بغالبيتها غربية، ولذلك كان من الطبيعي انتقال الخطاب من مناهضة الاستعمار إلى مناهضة الغرب ذاته. فالنظام الغربي لم يكن في نظرها سوى نظام استعماري متواصل، فيما استثمر الاتحاد السوفييتي والصين هذا الاستياء المعادي للغرب وقاما بتقديم الدعم الاقتصادي والسياسي للأنظمة التي كانت تحصل على استقلالها في تلك الفترة أو تناضل من أجله.

كان تحولا مباشرا وصريحا ذاك الذي مرت به حركة عدم الانحياز في نهاية عقد السبعينات، حين أعلنت في قمة استضافها الزعيم الكوبي فيدل كاسترو في هافانا أن الاتحاد السوفييتي هو "الحليف الطبيعي" للعالم النامي. قام ذلك التصريح بتفكيك الحركة، فمن رأى أن هناك تياراً داخلياً في الحركة تم استقطابه نحو موسكو عاجل بالتوجه إلى حليف طبيعي آخر في واشنطن.

أما استمرار التركيبة الدولية التي نجمت عن الحرب العالمية الثانية، وإعادة تأسيس منظمة الأمم المتحدة ومجلس الأمن، فأسهما في انحسار الاستعمار بصورته التقليدية المباشرة، ولكن هذا ترافق مع تيار أغرى حركة عدم الانحياز بتغيير النظام العالمي المستقر، تلك المحاولات التي لم تتوقف حتى هذه اللحظة.

عاد المعسكر الشرقي إلى تعزيز فكرة الانهيار الوشيك للغرب، وعززت ذلك هزيمة الولايات المتحدة في حرب فيتنام ونمو الحركات الاحتجاجية في الغرب، إضافة إلى انتصار أوبك في رفع أسعار النفط بشكل كبير، ووقوع الغرب في أزمة اقتصادية كبرى.

عوامل عديدة أوهمت دول حركة عدم الانحياز بأنها يمكن أن تحقق أهدافها، خاصة بعد تقدم السوفييت في السباق النووي، وإعلانهم أن القوى العالمية كانت تتحول بشكل حاسم لصالح الاشتراكية، تزامناً مع إشاعتهم لخرافة توحيد "العالمين الثاني والثالث ضد الأول".

ماذا حدث في الغرب

حين بدأ انهيار المعسكر الشرقي مع جدار برلين، كانت دول عدم الانحياز قد تأكدت من فشل النموذج السوفييتي في التنمية، فأخذت تتحول بالتدريج إلى الأنظمة الرأسمالية الغربية

على الجانب الآخر كانت الولايات المتحدة تعالج تلك التطورات على طريقتها، باحتواء الروس والصينيين من جهة، وبدعم كل تمرّد ممكن ضدهما، وأطلقت “مبدأ ريغان” الذي قدمت على أساسه المساعدات إلى الجماعات المتمردة التي سعت ونجحت في الإطاحة بالأنظمة الراديكالية الموالية للسوفييت في جميع أنحاء العالم.

حين بدأ انهيار المعسكر الشرقي مع جدار برلين، كانت دول عدم الانحياز قد تأكدت من فشل النموذج السوفييتي في التنمية، فأخذت تتحول بالتدريج إلى الأنظمة الرأسمالية الغربية. عندها كان يمكن أن تطوى صفحة حركة عدم الانحياز، إلا أنها استمرت.

ذهبت الشيوعية، وبقي الغرب الذي لم يتعامل بجدية كافية ولا بمسؤولية إنسانية عالمية مع الدول النامية، وتكرّس ذلك أكثر في ما اعتبرته تلك الدول غطرسة غربية مستفزة، حين طرحت واشنطن نموذج نشر الديمقراطية وإعادة هندسة المجتمعات في العالم النامي، حيث قامت حكومات العالم الغني، والمنظمات غير الحكومية الناشطة بتكبيل الجنوب العالمي بأجهزة ضخمة من المساعدات المشروطة. كما تحوّلت العقوبات وقطع المساعدات إلى أدوات مفضلة لتأديب المجتمعات النامية التي لم ترق إلى المعايير التي وضعها الغرب.

ومما يجب التوقف عنده في هذا المسار، هو أن الغرب لم يكترث لتلك القاعدة القديمة القائلة إن المبشرين بالديمقراطية على طريقة المبشرين بالمسيحية، لم يفكروا بأن تلك الشعوب الوثنية ربما لا تريد تغيير معتقداتها واعتناق أديان جديدة، حسب تعبير موهان، الذي رأى أن تلك الدول لم تجد أن الغرب نفسه كان يمتلك من الثروة والقوة ما يجعل من الممكن أن يجري التحوّل المطلوب بسلاسة أكثر.

ما أحدثته الحرب الروسية ضد أوكرانيا أكبر من حسابات الغرب، فقد علت فيه أصوات تتحدث عن الاستغراب من تردد دول العالم بدعم الموقف الغربي ضد الغزو الروسي. ولعل هذا بحد ذاته يشكل فرصة لمراجعة الغرب لمسار علاقاته مع دول العالم النامية.

العودة إلى الدبلوماسية

لم تتمكن الولايات المتحدة من تحقيق توافق تام بينها وبين حلفائها في الناتو وفي أوروبا، فلماذا تطلب من دول في العالم العربي وأميركا اللاتينية وأفريقيا أن تتوافق معها تماماً حول الملف ذاته؟
واشنطن لم تتمكن من تحقيق توافق مع حلفائها في الناتو، فلماذا تطلب من دول في العالم العربي أن تتوافق معها حول الملف ذاته؟

لا يوجد احتمال كبير لولادة ثانية لحركة عدم الانحياز، وعلى الغرب أن يدرك أن علاقاته مع دول العالم لم تعد مثل سابق عهدها، فهي يجب أن تلبي مصالح الطرفين لا الغرب وحده. ولكن الغرب مستمر في الغطرسة ذاتها التي دأب عليها.

على الأقل في تقديمه ووصفه للحرب الروسية - الأوكرانية التي لم يستطع المسؤولون الأميركيون والأوروبيين حتى التلفظ بأنها عدوان على سيادة دولة مستقلة أي أوكرانيا، بل تم تقديم الحدث على أنه صراع بين الديمقراطيات والأنظمة الاستبدادية.

أيضاً لم تتمكن الولايات المتحدة من تحقيق توافق تام بينها وبين حلفائها في الناتو وفي أوروبا، فلماذا تطلب من دول في العالم العربي وأميركا اللاتينية وأفريقيا أن تتوافق معها تماماً حول الملف ذاته؟

لقد خسر الغرب من قبل، حين قرّر المضي في العولمة خلال حقبة الثمانينات، الكثير من مساحات العالم لصالح التوسع الصيني على المستوى الاقتصادي، وتخلصت الدول النامية من هيمنة الأيديولوجيا التي صبغت حركة عدم الانحياز في العقود الماضية، وأوضاعها الداخلية أفضل بكثير مما كانت عليه في زمن الحرب الباردة، وأتقنت "فن المساومة الجيوسياسية" بين القوى العظمى المتنافسة ما سيوفر فرصا من الحكمة للغرب اغتنامها. وسيكون من الحكمة أيضاً أن يتخلى الغرب عن تجاهله لظاهرة عزوف جنوب العالم عن الاختيار.

6