دموية المذهب.. الإسلام الشاب ينحدر إلى عنف ديانات "أكثر كهولة"

يقول الحبر الأكبــر لليهود في بريطانيا سابقا جوناثان ساكس، في كتابه “ليس باسم الله”، “التشدد ليس صوت الإسلام التقليدي؛ والإسلام اليوم إلى التنوير، وهو يمتلك أدوات هذا التنوير وجذور الاعتدال اللازمة كي يحدث”؛ ويتفق باحثون مع ما يذهب إليه ساكس بأن الصراع الديني في المنطقة لم يدخل بعد مراحله الأكثر دموية، استنادا إلى تجارب اليهودية والمسيحية وتاريخهما الطويل من الاقتتال، لكن تشارلوت ليزلي، العضو في مجلس العموم البريطاني، التي قضت سنوات في متابعة الصراعات السياسية والطائفية في الشرق الأوسط، ترى أن “ما يحدث في المنطقة الآن هو مرحلة عصيبة يشهد فيها الإسلام تغيرا عميقا من الداخل، وهذا التغير لا يشبه كثيرا التغير الذي شهدته المسيحية قبل ذلك بقرون. أدوات التغيير اليوم هي الكلاشينكوف والإنترنت”.
الجمعة 2016/05/06
انتشال الاعتدال من وسط ركام التشدد

لندن- يعيش المسلمون اليوم تاريخا يصنع ببطء وقسوة عبر تحديد صارم لأبعاد تحول دموي في هيئة صراعات مسلحة راح ضحيتها مئات الآلاف وتسببت في تشريد الملايين من النازحين في سوريا والعراق وليبيا وأفغانستان.

وانتقل هذا التحول من مراحله السياسية والقومية في منطقة الشرق الأوسط إلى الطائفية والعقائدية اللتين ساهمتا في دخول الدولة الوطنية في صدام عنيف مع جماعات تتصرف كأنها دولة.

وخلف هذه الجماعات تقف غالبا أموال طائلة لشراء الأسلحة ودفع رواتب المقاتلين بين صفوفها، وتقف أيضا أفكار راديكالية تبدو دخيلة على إسلام معتدل طالما كان محركا يرسم ملامح الحياة اليومية للمسلمين قبل عقود فقط من الآن.

ويتذكر المسلمون بحسرة حقبة الأربعينات والخمسينات والستينات التي عم فيها الاعتدال الديني والمذهبي، الذي كان يشوبه أحيانا التطرف، مقابل سيادة مطلقة اليوم لتطرف نادرا ما يشوبه الاعتدال. وقاد هذا التطرف السني – الشيعي، دولا عدة إلى الانزلاق وسط مذابح ناتجة عن تنافس مذهبي لقوى صغيرة على الأرض، تعكس إرادة قوى أكبر في الخارج.

التجديد.. مخاض دموي

تقول تشارلوت ليزلي، العضو في مجلس العموم البريطاني التي قضت سنوات منذ اندلاع احتجاجات الربيع العربي عام 2011 في متابعة الصراعات السياسية والطائفية في الشرق الأوسط، “ما يحدث في المنطقة الآن هو مرحلة عصيبة يشهد فيها الإسلام تغيرا عميقا من الداخل، لكن هذا التغير لا يشبه كثيرا التحول الذي شهدته المسيحية قبل ذلك بقرون. أدوات التغيير اليوم هي الكلاشينكوف والإنترنت”.

حكمة تجديد الخطاب الديني لا تكمن في جوهر الخطاب ذاته لكنها تقبع في عقول رجال الدين الذين يتعين عليهم إعادة اكتشاف وتفسير آيات القرآن الأكثر اعتدالا

وغالبا ما يبرر المقاتلون انضمامهم إلى جماعات متشددة، كتنظيم داعش، الذي قتل عشرات الآلاف منذ تحوله إلى قوة عسكرية تتحكم في أراض عراقية وسورية شاسعة صيف 2014، بنصوص من القرآن الكريم وكتب الحديث والفقه وفتاوى رجال دين على رأسهم ابن تيمية الذي يلقبه الكثيرون بينهم بـ”شيخ الإسلام”.

وتبنى ابن تيمية، الذي عاش خلال القرن الرابع عشر وتلاميـذه لاحقا، التفسير الحنبلي الأكثر تشــدّدا للإسلام اعتمادا على نصــوص قرآنــية تحرض على جهــاد التتار الذين اجتاحوا سوريا، مسقط رأسه، آنذاك.

وتصر ليزلي على أن هناك أسبابا كثيرة تقف خلف انضمام الشباب إلى صفوف الجماعات الجهادية، على رأسها ظهور فراغ في القيم ترك لينمو في مناطق عديدة خاصة في الغرب.

وتقول “إذا كنت شابا صغيرا فأنت تسعى دائما إلى أن تقاتل من أجل شيء ما، تواجه من أجله، تشعر بأنك جزء منه وتظل فخورا بذلك. التنظيمات المسلحة صارت أقرب الطرق إلى الشباب لتحقيق ذلك”.

ولا تكمن حكمة تجديد الخطاب الديني في جوهر الخطاب ذاته، لكنها تقبع في عقول رجال الدين الذين ستتعين عليهم إعادة اكتشاف وتفسير آيات القرآن الأكثر اعتدالا، وخلق خطاب ديني يعود بالعالم الإسلامي إلى ماض قريب.

وتشكل اعتدال هذا الماضي “بعدما كانت الغرائز في قلب الإنسان سببا لتدمير الأرض، لكن لاحقا أصبحت هذه الغرائز سببا لعدم تدميرها”، وفقا الحبر الأكبر لليهود في بريطانيا سابقا جوناثان ساكس.

ويقول ساكس، في كتابه “ليس باسم الله”، الذي طرحه في لندن العام الماضي، “اليوم يحتاج الإسلام إلى هذا النوع من التنوير، وهو يمتلك أدوات هذا التنوير وجذور الاعتدال اللازمة كي يحدث”. ويضيف “التشدد ليس صوت الإسلام التقليدي”.

الصراع الديني في المنطقة لم يدخل مراحله الأكثر دموية بعد، استنادا إلى تجارب اليهودية والمسيحية عبر تاريخ طويل شهد اقتتالا مروعا

ويقول باحثون إن الصراع الديني في المنطقة لم يدخل مراحله الأكثر دموية بعد، استنادا إلى تجارب اليهودية والمسيحية عبر تاريخ طويل شهد اقتتالا مروعا. ولم يتخل اليهود عن تبني “الإرهاب المسلــــح” إلا بعدما هيمن على ثوراتهم خلال القرنين الأول والثاني الميلاديين ضد روما، “إرهاب مسلح” ضد بعضهم البعض.

ولم يتوصل المسيحيون بعد ذلك إلى ضرورة فصل الكنيسة عن الحكم في أوروبا، إلا بعد الدخول في الحروب الدينية الطاحنة خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر التي راح ضحيتها أكثر من ثمانية ملايين شخص.

ويقول ساكس في كتابه “لا يمكن أن تفقد اقتناعك باستخدام القوة إلا عندما تبدأ في استخدامها ضد شعبك أو هؤلاء الذين تنتمي إليهم على نطاق أوسع. هذا بالضبط ما يحدث للإسلام اليوم”.

وأضاف “الإسلام غارق في الدموية الآن ليس لأنه دين أكثر عنفا من المسيحية أو اليهودية، بل لأنه أصغر عمرا منهما. سيتعلم المسلمون في المستقبل ما تعلمه المسيحيون واليهود عبر قرون دموية، لأن الإنسان لا يتعلم إلا بالطريقة الصعبة”.

لكن السؤال الذي يطرحه غالبية المسلمين اليوم هو: لماذا يحتاج المسلمون إلى “الطريقة الصعبة” كي يتمكنوا من العودة إلى اعتدال كانوا يمارسونه حتى وقت قريب؟

انتكاس التقريب المذهبي

تكمن الإجابة في محاولات عدة قام بها الجامع الأزهر في مصر للتقريب بين المذاهب الإسلامية، وأثمرت كتبا ودراسات شارك فيها رجال دين سنة وشيعة على حد سواء. وكانت أكبر محاولة للتقريب بين المذاهب في عام 1948، إذ شارك عدد كبير من علماء الأزهر في صياغتها، كان على رأسهم الشيخ عبدالمجيد سليم، شيخ الأزهر آنذاك، والشيخ محمود شلتوت، الذي صار شيخا للأزهر في ما بعد، والشيخ محمد تقي الدين القمي الشيعي، وكان سكرتيرا عاما لجماعة التقريب، والحاج أمين الحسيني مفتي فلسطين.

ووصف شلتوت الاجتماعات التي كانت تعقدها الجماعة في دار التقريب بحي الزمالك الراقي وسط القاهرة قائلا “كان يجلس المصري إلى الإيراني أو اللبناني أو العراقي أو الباكستاني، أو غير هؤلاء من مختلف الشعوب الإسلامية ويجلس الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي بجانب الإمامي والزيدي حول مائدة واحدة، ويدلون بأصوات فيها علم وفيها أدب وفيها تصوف وفيها فقه.. وفيها مع ذلك كله روح الإخوة وذوق المودة والمحبة وزمالة العلم والعرفان”.

لكن بعد الإطاحة بمحمد رضا بهلوي وصعود آية الله الخميني إلى حكم إيران عام 1979، حدث شرخ طائفي عميق بين الشيعة والسنة في المنطقة.

واستلهمت الجماعة الإسلامية وجماعة الإخوان المسلمين من صعود الخميني في طهران دوافع الثورة الإسلامية التي كان يحلم أعضاؤها بإطلاق بوادرها في المنطقة العربية.

ورغم أن هذه الحركات السنية المتشددة واجهت قمعا واسع النطاق، ساهم ظهور الانترنت ومواقع التواصل الإجتماعي في فتح باب جديد أمامها وأمام صراع مذهبي، بعد عقود استغرقها المتشددون في نشر التطرف بين مستويات أقل من “شباب الصحوة الإسلامية” وقطاعات واسعة داخل المجتمع العربي.

أشهر فتاوى الأزهر: التعبد بكافة المذاهب مسموح

فتوى التقريب بين المذاهب للشيخ محمود شلتوت شيخ الجامع الأزهر عام 1959، جاء نصها كما هو مسجل ومحفوظ في سجل مكتب شيخ الجامع الأزهر كالآتي:

“قيل لفضيلته إن بعض الناس يرى أنه يجب على المسلم لكي تقع عباداته ومعاملاته على وجه صحيح أن يقلد أحد المذاهب الأربعة المعروفة وليس من بينها مذهب الشيعة الإمامية ولا الشيعة الزيدية فهل توافقون فضيلتكم علي هذا الرأي على إطلاقه فتمنعون تقليد مذهب الشيعة الإمامية الإثنى عشرية مثلا؟”.

فأجاب فضيلته:

1- إن الإسلام لا يوجب على أحد من أتباعه اتباع مذهب معين بل نقول إن لكل مسلم الحق في أن يقلد بادئ ذي بدء أي مذهب من المذاهب المنقولة نقلا صحيحا والمدونة أحكامها في كتبها الخاصة… ولمن قلد مذهبا من هذه المذاهب أن ينتقل إلى غيره – أي مذهب كان- ولا حرج عليه في شيء من ذلك.

2- إن مذهب الجعفرية المعروف بمذهب الشيعة الإمامية الإثنى عشرية مذهب يجوز التعبد به شرعا كسائر مذاهب أهل السنة، فينبغي للمسلمين أن يعرفوا ذلك وأن يتخلصوا من العصبية بغير الحق لمذاهب معينة فما كان دين الله وما كانت شريعته بتابعة لمذهب أو مقصورة على مذهب فالكل مجتهدون مقبولون عند الله تعالى يجوز لمن ليس أهلًا للنظر والاجتهاد تقليدهم والعمل بما يقررونه في فقههم ولا فرق في ذلك بين العبادات والمعاملات.

وحينما وصل نقاش سابق دار بيني وبين عضو البرلمان البريطاني فيليب لي إلى نتائج الصراع الديني المحتدم في الشرق الأوسط، سارع إلى التقاط هاتفه الذكي وفتح حسابه على موقع تويتر وأشار إليه قائلا “هذا ما سيحدد نتائج الصراع″.

ويعتقد لي أن التكنولوجيا ستسرع من حدوث التحول لأن الناس بدأت تسأم مشاهد مروعة يبثها تنظيم داعش على الإنترنت وسرعان ما تنتشر كالنار في الهشيم. ويقول إن ذلك سيؤدي حتما إلى دفع ثورة الاعتدال إلى الوقوع قبل أوانها، لكن تشارلوت ليزلي، التي تجمعها بفيليب صداقة وثيقة، لا تتفق معه تماما.

وفي مكتبها، الذي تناثرت في أركانه قطع أثاث على الطراز الحديث، قالت ليزلي “لا أعتقد أننا متأكدون بعد. نحن نعيش في عالم تهيمن عليه فروق شاسعة بين الفقراء والأغنياء، ومعرفة جيدة بين الفقراء بهذا الفارق، ولا أعتقد أن الفيديو الذي ستشغله على الإنترنت سيسرع عملية الإصلاح الديني. الإنترنت ستجعل العملية تبدو أكثر تعقيدا وأكثر اتساعا في الرقعة الجغرافية”.

وتدلّت على الحائط خلف مكتبها المكتنز صورة طويلة للملكة المصرية الشهيرة نفرتيتي تقف بإجلال خلف زوجها الملك أخناتون الذي كان عليه الدخول في مواجهة شرسة مع حملة تشدد ديني قادها كهنة الاله آمون ردا على أول دعوة لعبادة إله واحد (آتون) التي أسسها خلال القرن الرابع عشر قبل الميلاد. وانتهى الصراع بهزيمة دعوة التوحيد، وعودة كهنة آمون للهيمنة على المجالين الديني والسياسي في مصر.

وبعد مرور 35 قرنا، ظهرت بوادر التشدد الديني مرة أخرى في مصر بين صفوف تنظيم الإخوان المسلمين الذي كان أعضاؤه الأوائل يروجون أفكارهم عبر بنادق الكلاشينكوف، وباتوا اليوم، مع أعضاء تنظيمات أكثر تشددا، يمارسون حملاتهم على الإنترنت، حيث تتحول أفكار أي شخص إلى دين يؤمن به.

وخارج الشرق الأوسط ساهمت مواقع التواصل الاجتماعي والوعي بالاتساع الهائل بين طبقات المجتمع وحرية التنقل والسفر في ظهور تنظيم داعش في كل مدينة كبيرة أو بلدة صغيرة، خاصة في أوروبا.

وتقول ليزلي “ما نراه هنا هو أكثر النهايات سطحية لما يحدث داخل أعماق تنظيم داعش، باعتباره أكثر مظاهر العنف قسوة. سيستمر العنف اللفظي في الغرب والحط من كرامة الناس لبعضهم البعض لفترات طويلة ما لم يتم حل القضية في الشرق الأوسط أولا”.

وأضافت “باتت لدينا اليوم منطقة عبور تتمثل في الحوار الجاد حول الإسلام من داخله، ومنطقة عبور أخرى تتمثل في الطريقة المسمومة في تكيف المجتمع مع العصر الرقمي، وفي بقعة دموية تقع في المنتصف بين نقطتي العبور لدينا تنظيم داعش أو أي مسمى آخر لأي تنظيم يحمل نفس الأفكار ويروج لها”.

كاتب من مصر مقيم بلندن
7