دعوة لاستبدال الأيديولوجيا بالتكنولوجيا

أوروبا التي واجهت ولا زالت تواجه مشكلة تهرم السكان كانت ترى، رغم التحفظات، أن الحل في استقبال المزيد من المهاجرين. ولكن ماذا عن المستقبل بعد أن بدأت الروبوتات والأتمتة تحل محل اليد العاملة البشرية؟ هل ستحتاج مدن أوروبا الذكية إلى المزيد من المهاجرين، أم ستبادر من اليوم إلى إغلاق الحدود في وجوههم؟
ما أن يبدأ الحديث عن الذكاء الاصطناعي والخوارزميات حتى تقفز إلى الذهن صورة الروبوتات وقد احتلت أماكن العمل بدلا من العنصر البشري. وطوابير العاطلين عن العمل تنتظر الحصول على الإعانات.
الذكاء الاصطناعي بات قادرا على القيام بحصة متنامية من المهام التي طالما قام بها البشر، ويشمل ذلك الأعمال الزراعية والصناعية، والتشخيص الطبي والإشعاعي، وقيادة المركبات، وصولا إلى كتابة التقارير الإخبارية، وغيرها من المهام بكلفة أقل وكفاءة أكبر ووقت أسرع.
ويشبه الخبراء زحف الذكاء الاصطناعي بالطوفان، يزداد اندفاعا وارتفاعا مع الوقت، ليطال المهن مهما علت مكانتها، وإن استثنى في النهاية المهام “في قمم الجبل”.
بداية اقتصر استخدام الروبوتات على مهام تتطلب مهارات أدنى، مثل الروبوتات الصناعية وأجهزة الصرف الآلي، والتي تستند غالبا على تعليمات مبرمجة بشكل واضح.
اليوم تدخلت التكنولوجيا حتى في أحلامنا، والسؤال الذي يطرح نفسه هو: كيف تسهم القدرات الجديدة على الأتمتة باستخدام الذكاء الاصطناعي في تغيير صورة العمل والعلاقات الاجتماعية؟
المعلومات هي اقتصاد المستقبل وهذه التكنولوجيا لا تنمو على الشجر. لا بد من بنية تحتية مدعومة بمناهج علمية لتطويرها
يخدم سوق العمل غرضين اثنين على الأقل. الأول، توفير اليد العاملة لتنفيذ الأعمال الإنتاجية. والثاني، توفير مصدر دخل للعمال من خلال الأجور التي يجنونها. وتهدف الدراسات التي تركز على قراءة مستقبل العمل، في نوعية وحجم الآثار التي يحدثها تطور أدوات الذكاء الاصطناعي المتقدمة في التشغيل الكفء لسوق العمل، وفي قدرة العمال على جني أجور “كريمة”. وهذه مسألة إلى جانب كونها اقتصادية، سياسية أيضا، نظرا للوظيفة الاجتماعية والثقافية التي يلعبها التوظيف في المجتمعات.
وساهم الانتعاش غير المؤكد للاقتصاد العالمي منذ انهياره عام 2008 في تأجيج المخاوف المرتبطة بالتوظيف، ويشير الخبراء، خاصة إلى أن النمو في الاقتصاد الكلي لم يرافقه خلال السنوات العشر الماضية نمو في مستويات التوظيف، فهي إما بقيت على مستواها أو تراجعت.
أيضا تزامن هذا الاتجاه مع اتجاه آخر ساد في الآونة الأخيرة وأظهر انخفاضا مطردا في حصة العمال من الدخل القومي، التي يذهب النصيب الأكبر منها إلى الدولة ورؤوس الأموال. وأسفر كل ذلك عن تدنّ في مستويات معيشة العمال، حيث تقوم النظم المؤتمة (ومنها نظم الذكاء الاصطناعي) بحصة متنامية من إجمالي الدخل العام.
وبمواجهة هذه المخاوف اقترح بعض المدراء التنفيذيين وعلماء الاقتصاد والمحللين فصل الأجور/مستويات المعيشة عن التوظيف من خلال تطوير خطط لتوزيع دخل أساسي شامل (UBI) أو خطط لضمان الدخل.
وقد سبق أن بدأت بعض الحكومات في إطلاق تجارب صغيرة، مثال مدينة ماريكا في البرازيل ووالية ألاسكا في الولايات المتحدة. ولكن، لم يتخذ قرار حتى الآن حول جدوى توزيع دخل أساسي شامل على نطاق واسع وعلى مدى طويل.
وفي ظل هذه التطورات، لن يكون صعبا علينا أن نستنج ماذا ينتظر المهاجرين في اتجاه أوروبا، التي شرعت في البحث عن طرق تحد أو توقف الهجرة نهائيا. وكان آخر الإجراءات تلك التي كشفت عنها الحكومة الدنماركية مؤخرا، حيث أقر البرلمان الدنماركي قانونا يسمح للسلطات بنقل طالبي اللجوء إلى دول أخرى خارج الاتحاد الأوروبي أثناء مراجعة قضاياهم. وتسعى الحكومة، التي يقودها الديمقراطيون الاجتماعيون، إلى إيجاد دول شريكة لإدارة المعسكرات وتمويل الوكالات على طول طرق الهجرة.
والتحدي الذي يواجه الدول المصدرة للمهاجرين أكبر، فهي دول فقيرة في الغالب، ولن يكون بمقدورها أن تخلق بيئة مغرية للعناصر البشرية المميزة، خاصة في تكنولوجيا المعلومات والذكاء الاصطناعي، التي ستكون عرضة للاقتناص من دول الشمال.
وللأسف لا توجد حتى اليوم بوادر تشير إلى أن حكومات تلك الدول تعي حجم المشاكل التي تواجهها، فهي إما مشغولة في صراعات إقليمية ومحلية، أو صراعات سياسية، أو غارقة بالفساد. وفي أفضل الأحوال تركز على تأمين الدعم لقطاع الخدمات والزراعة.
دفن الرأس بالرمال وانتظار معجزة لن يحل مشاكل هذه الدول، ولن يحول دون وقوع الكارثة. والحديث هنا ليس على المستقبل البعيد، بل على المستقبل القريب، والقريب جدا.
عشر سنوات لا أكثر، هو الزمن المتاح لاتخاذ إجراءات قد تنقذ اقتصاديات تلك الدول. ولن يتم هذا إلا بإنهاء كل الصراعات السياسية والأيديولوجية، أولا. وثانيا، بتوظيف كل الجهود لتطوير قطاع التكنولوجيا، وهجر وسائل وطرق الإنتاج التقليدية. وثالثا وهو الأهم، خلق بنية تحتية تشجع العناصر الشابة المميزة على الابتكار، خاصة في تكنولوجيا المعلومات والذكاء الاصطناعي.
لضعاف القلوب نقول إن أكبر المشاريع تحقيقا للربح اليوم، سواء في الولايات المتحدة أو خارجها، هي مشاريع بدأت من مرآب سيارات أو من غرف النوم، طورها شبان حالمون من حظهم أنهم نشأوا في تربة صالحة للنمو، وليس في بيئة يتنازع الناس فيها حول أفكار عفا عليها الزمن. لبنان مثال؛ هذا البلد الذي كان يوما حاضنة للنشر والإبداع، تحول إلى دولة فاشلة بفضل أصحاب المشروع الأيديولوجي الإيراني. ولو أنه لم يبتل بأصحاب العمائم، لكان اليوم واحة سيليكون في الشرق الأوسط.
المعلومات هي اقتصاد المستقبل، وهذه التكنولوجيا لا تنمو على الشجر. لا بد من بنية تحتية مدعومة بمناهج علمية لتطويرها.
العد التنازلي بدأ، فهل نستبدل الأيديولوجيا بالتكنولوجيا قبل فوات الأوان؟