دعاء الكروان
تلقيت اتصالاً هاتفياً من مدرسة ابني مؤخرا، يطلبون مني الحضور مبكراً لاستلامه قبل نصف ساعة عن موعد انتهاء اليوم الدراسي. كنت أتوقع هذه المكالمة، فقد كان مصاباً بالزكام صباحاً وحرارته مرتفعة قليلاً. عندما وصلت جلست قليلاً انتظره في قاعة الاستقبال، وكانت سيدة أخرى تجلس إلى جواري تنتظر طفلها ربما. من خلال الباب الذي يفصل بين القاعة وصفوف المدرسة، ظهرت إحدى المعلمات وهي تقود طفلاً جميلاً ببشرة سمراء وعينين ملونتين اختلطت فيهما لمعة اللون الأخضر بالرمادي الفاتح، بينما تغلف ملامحه ابتسامة عذبة تركت حضوراً مهيباً وغريباً في المكان، كان يحمل عصا فظننت أنه مصاب بكسر في قدمه، وقبل أن يتعثر أسرعت السيدة التي كانت بالانتظار فأمسكته من ذراعه وحملت حقيبة كتبه من المعلمة، التي شيعته بنظرة حب وعطف وتمنت لهما يوماً سعيداً. كان الطفل الجميل ضريراً!
أطرقت، كان الألم يعتصرني وأنا أحاول أن أكتم دموعي، عندما وصل ابني وهو يسعل ويبدو عليه الذبول والتعب احتضنته بشوق ثم أخذته من ذراعه وغادرنا المكان بسرعة، كنت خائفة حين فقدت السيطرة على مشاعري فجأة فتسللت دموعي بكثافة من دون أن أعي ذلك. شهق الصغير وهو يرمقني بحنان “لا تخافي ماما، أنا بخير، سأكون أفضل.. لماذا تبكين؟”، قلت له “لا شيء، يجب أن نسرع”.
لم تتوقف دموعي حتى في السيارة، وكانت وجوه الناس في الشارع تتقعر وتتحدب وفقاً لمسار الدمع فاختلطت المشاهد أمامي. قلت له “هل تعرف هذا التلميذ الذي خرج قبلك؟”. “لا، لا أعرفه، لماذا؟”.. “ألا ترى، إنه ضرير”. اتسعت ملامحه بالدهشة وهو يقول “لم أتوقع أن يكون في مدرستي تلميذ فاقد للبصر، هل هذا هو سبب بكاؤك؟”.
عندما وصلنا إلى المنزل، استمر الصغير بطرح الأسئلة: “تعتقدين أنه كان يبتسم لأنه سعيد؟ هل يرى الألوان؟ هل يعرف لون كتاب القراءة؟ ربما أخبرته أمه بأن الوقت شتاء وأن السماء تكون رمادية أحياناً، كيف ستصف له اللون الرمادي يا ترى؟”. قلت له بشرود وكأني في مكان آخر “لا أعرف”.
حقاً.. كيف يمكننا أن نصور الألوان لشخص فقد بصره، ربما لا يعنيه أن يعرف ذلك، وربما استعاض عنها بعالم صنعه بنفسه؛ خال من الألوان، يلمس الأشياء بأصابعه فيتخيل أشكالها، ثم ينصت إلى أصوات الطبيعة فتمتلئ مخيلته بالصور. تذكرت فجأة قصة “دعاء الكروان”؛ أجمل ما كتب طه حسين، عميد الأدب العربي الذي فقد بصره طفلاً لم تتسع سنواته الأربع للاستمتاع بألوان العالم التي كانت تتراقص حوله، فكبر وهو لا يرى سوى ظل أحلامه ولا يسمع سوى وقع أصوات كانت تتصارع في داخله، فتخرج حزما من ضوء لتنير حياة المبصرين.
في “دعاء الكروان”، صنع طه حسين دنيا بديلة على وقع صوت طائر الكروان الشجي، الصوت الذي رافق بطلة حكايته مثل مصباح أو لعنة وكان يذكرها بحلمها أو بمأساتها. كانت تناجيه وهي تقول “لبيك أيها الطائر العزيز، ما أحب صوتك إلى نفسي إذا جثم الليل، وهدأ الكون، ونامت الحياة، وانطلقت الأرواح في هذا السكون المظلم، إن صوتك أشبه الأشياء بأن يكون صوتاً لروح من هذه الأرواح ليذكرني روح هذه الأخت التي شهدت مصرعها معي في تلك الليلة المهيبة، وفي ذلك الفضاء العريض الذي لم يكن من سبيل إلى أن يسمع الصوت فيه مهما يرتفع”.
كان هذا هو عالم طه حسين، العالم الذي صنعه فناً وجمالاً وخيالاً تخلص فيه من عبء الحاجة إلى رؤية الصورة كاملة، فمتى كانت الألوان سبباً في سعادة أحد؟
نعيش في عالم ضاج بالألوان الجميلة والمشاهد الخلابة، لكننا لا نرى سوى وحدتنا وضعفنا، نرتب ملابسنا ونغير ألوانها كما نرتب هفواتنا وأوهامنا ونضعها بتسلسل حدوثها؛ الأحمر، خطأ فادح، الأصفر؛ خسارة كبيرة، الأخضر؛ خيبة أمل، البرتقالي؛ حلم بعيد، الأزرق؛ غربة وسفر طويل.
لن تتاح لذاك الطفل الضرير رؤية السماء وهي تتلبد بالغيوم، بعد نهار مشمس حالم.. ولن تتاح له رؤية خطوات الأصدقاء وهي تغرب عنه في عالم غارق بالضوء والرياء.. ولن تتاح له رؤية وجه الحب، عندما ينزع عنه قشوره، فتسطع الكراهية والجفاء بألف وجه ووجه. فما حاجته لكل هذا؟
كاتبة عراقية