درس القدس.. أن تذاكر بعد بدء الامتحان

الثلاثاء 2017/12/19

هل كان في إعلان دونالد ترامب، الأربعاء 6 ديسمبر 2017، اعترافه بالقدس المحتلة عاصمة لإسرائيل مفاجأة لأحد؟ لم يكن القرار إلا إخراجا لقانون أميركي صدر عام 1995، من الورشة إلى واجهة المعرض، وقد رأى الرجل الذي اطمأنّ بتسلمه أغلب مفاتيح العواصم العربية أن الوقت مناسب للمصارحة؛ فالعالم العربي في أسوأ حالات التردي بعد التواطؤ على شيطنة ثوراته الشعبية.

والعالم الإسلامي لا يتفق على أجندة، بين تصدير لثورة طائفية، وتفريخ لإرهاب، وهوس بالخلافة، وحين فاجأ زعماءه قرارُ ترامب ومطالبته وزارة الخارجية ببدء الاستعدادات لنقل السفارة الأميركية إلى القدس المحتلة دعتهم تركيا إلى قمة منظمة التعاون الإسلامي، وأصدروا الأربعاء الماضي (13 ديسمبر) “إعلان إسطنبول” داعين العالم إلى الاعتراف بالقدس الشرقية عاصمة لفلسطين.

تغاضى البيان الختامي عن دعم إسلامي للعدو الصهيوني تجسده تركيا التي لا تخفي علاقاتها الاقتصادية والأمنية والعسكرية بالعدو، وتفتح أجواءها لتدريب طياريه لكي يجيدوا قصف الفلسطينيين.

وقد رسخ زعماء العالم الإسلامي بهذا البيان أن القدس الغربية تخص العدو، وكأن الوضع قبل 5 يونيو 1967 كان طبيعيا، في استهانة بكفاح الفلسطينيين منذ ثورة البراق عام 1929.

وفي المناداة بالقدس الشرقية عاصمة لفلسطين عودة إلى تفاصيل تنشط فيها شياطين لا تنام إلا لتستيقظ، منذ بدأ التفاوض المباشر بين الفلسطينيين وقادة الاحتلال، والنتيجة إلى الآن صفر مقابل قتل الزعيم الرمز والاقتطاع الدائم لمساحات أقيم فيها جدار شارون العنصري، ولم يسمح للفلسطينيين بحقهم الإنساني في العودة. كما لم يلوّح البيان باللجوء إلى الكفاح المسلح، وهو حق طبيعي لمن يقاومون الاحتلال لتقرير مصيرهم.

لا تفسير لهذه “اللّـهْـوَجة” إلا أن الحاضرين لم يستذكروا جيدا ما تم استدعاؤهم من أجله، وربما أتيح لبعضهم أن يقرأ في الطائرة موجزا للقضية، مثل ملخص إشاري يقرأه الطالب الغافل على باب لجنة الامتحان، وقد شهدت على واقعة شبيهة عام 2000، حين اندلعت الانتفاضة الثانية بعد اقتحام أرييل شارون كثور هائج للمسجد الأقصى، فأرسلت وزارة الخارجية المصرية تشتري نسخا من كتاب كارين أرمسترونج “القدس.. مدينة واحدة عقائد ثلاث”، وقد صدر في نيويورك عام 1996، ونشرت ترجمته العربية عام 1988 عن دار “سطور” في القاهرة، واستغربنا في مجلس تحرير مجلة “سطور” ألا تعنى إدارة متخصصة في الوزارة بمتابعة ودراسة كل وثيقة ومقال وبحث وكتاب بأي لغة عن قضية القدس.

وبعد 17 عاما سأستمع إلى وزير الخارجية سامح شكري يقرأ كلمة مصر في الاجتماع الطارئ لوزراء الخارجية العرب بالجامعة العربية في 9 ديسمبر 2017، ردا على قرار ترامب. الرجل، أقصد شكري، لا يجيد قراءة جملة، ومخارج الحروف معيبة فالضاد دال والطاء تاء، والنطق كأنه ترجمة حرفية صوتية من موقع غوغل، أما الجديد المضحك فقوله إن القدس أولى “القُبلتين”.

هذه الهفوات ربما نتجت عن عجلة لا تتيح التدريب على قراءة بيان يستغرق بضع دقائق في قمة أعلن عنها قبل بضعة أيام، ولكنها تستدعي طرفة لا تخلو من دلالة، بطلها غلام في المدينة أرسلته عائشة بنت سعد بن أبي وقاص (وقيل عائشة بنت طلحة)، ليقتبس من الجيران نارا، فخرج وصادفته قافلة متجهة إلى مصر، فنسي سيدته، ورغب في صحبتهم وبقي مع الركب سنة، ثم عاد وتذكر عائشة، وفي عَدْوه أشعل النسيم النار بين يديه، فتعثر وتبدد الجمر أمام مولاته، فقال “تعست العجلة”.

هي العجلة التي جعلت عشرين سنة غير كافية للتصدي لقرار نقل السفارة إلى القدس منذ تصديق الكونغرس عليه في أكتوبر 1995، وجاءت القمتان، العربية في القاهرة والإسلامية في إسطنبول، مجرد رد فعل على إعلان ترامب لقراره، ولم تستبقا القرار الذي لم يفاجئ به ترامب أحدا، بل حدد موعده بتغريدات واضحة قبل أيام، وكأن مليار مسلم وعربي يتغنون بالقدس يجهلون أن فلسطين محتلة.

نمتلك الحق، ولكن الهزيمة النفسية تعجزنا عن المبادرة ولو بالكلام، فنفرّط في مسلمات أكبر من القدس، ونهدر حقيقة تقول إن هذه أرض تخص شعبها الفلسطيني، وإن أضعف الإيمان رفض العالميْن، العربي المجتمع في القاهرة والإسلامي المجتمع في إسطنبول، مبدأ حل الدولتين والتطبيع مع العدو مقابل دولة فلسطينية منزوعة السيادة على حدود 1967.

هذا رهان على سراب لا يتسوله إلا المهزومون، منذ اقترحته القمة العربية في بيروت 2002. لا يجرؤ ممثلو أكثر من خمسين دولة على الاعتراف بالقدس كاملة عاصمة للدولة الفلسطينية، والإعلان عن إعادة الروح إلى شرعية الكفاح المسلح الذي سيتكفل به غيرهم، ولن يحتاج شعب فلسطين أكثر من غطاء دبلوماسي، كما فعلت شعوب أخرى كان تحررها ضربا من الخيال، ولكن خيال شعوبها أنقذها من مذلة الاحتلال. والكيان الصهيوني آخر “دولة” احتلال في العصر الحديث، وآخر نظام يمارس إرهاب الدولة بشكل صريح.

الدولة الفلسطينية على كامل ترابها من النهر إلى البحر يهينها الاهتمام الموسمي، واختصار قضيتها في عدوان على القدس، وليس من الحكمة اختصار المدينة في قضية القداسة، والإصرار على إشهار هذا السلاح؛ إذ يستطيع أن يدّعيه العدو أيضا. تسجل كارين أرمسترونج في كتابها عن القدس أن الكلمة التي ظلت تسمعها مرارا منذ زيارتها الأولى إلى المدينة عام 1983 هي “مقدسة، بل إن أشدّ الآخذين بالعلمانية من الإسرائيليين والفلسطينيين كانوا يقولون إن أورشليم مدينة مقدّسة لشعبيهما.. كان اليهود الذين يجاهرون في تحدّ بإلحادهم يحرصون على المدينة المقدسة ويشعرون شعورا عميقا بانتمائهم إلى الحائط الغربي”.

هذا صراع حضاري يستهدف إخضاع العالم العربي، وتنوب فيه “دولة” عنصرية عن الاستعمار التقليدي، باستخدام سلاح عاطفي أيضا هو التهويد الذي لا يجدي معه سلاح الأسلمة. ولعل القدس المكان الوحيد في العالم عبر التاريخ الذي شهد، ويشهد، صراع أصحاب ديانات تنتمي إلى نبي واحد. وفي المقال القادم محاولة لتقصّي دور الدين في التحرير والتدمير على السواء.

روائي مصري

9