دبلوماسية الهاتف تضع قدما مصرية في روسيا والثانية في أوكرانيا

تواصل السيسي مع زيلينسكي بعد بوتين يوحي بتمسكه بعدم الانحياز السياسي.
السبت 2022/03/26
مصر تنتظر تداعيات الحرب ويدها على بطنها

تسعى القاهرة إلى ضبط بوصلة العلاقة مع روسيا من دون أن تبدو متحيزة إلى موسكو على حساب علاقتها مع الغرب في ساعة حرجة من ساعات العلاقات الدولية: حرب أوكرانيا.

القاهرة– يشبه حال مصر من الأزمة بين روسيا وأوكرانيا وتفاعلاتها الإقليمية والدولية حال الكثير من الدول، عربية وغير عربية؛ حيث تحاول النأي عن الانحياز إلى أحد الطرفين خوفا من دفع فاتورة باهظة في حال خسارة الطرف المؤيد، وبات إحداث التوازن النسبي سياسة مرغوبة وصعبة في آن واحد، فكلما ذهبت الاستنتاجات إلى أن الكفة تميل لطرف أعقبها ميل إلى الطرف المقابل.

تدير القاهرة موقفها على هذا المنوال منذ بداية الأزمة وبدا ما يمكن وصفه بـ”دبلوماسية الهاتف” مخرجا مناسبا، فبعد أن أجرى الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي اتصالا بنظيره الروسي فلاديمير بوتين في التاسع من مارس الجاري تلقى من الأوكراني فولوديمير زيلينسكي اتصالا في الرابع والعشرين من الشهر نفسه.

ضبط الاتصال الثاني الدفة المصرية بين الجانبين بعد أن كادت تختل مؤخرا، فعقب تمسك القاهرة بعدم إدانة التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا تعرضت لضغوط غربية دفعتها إلى التصويت في الأمم المتحدة لصالح قرار أدان موسكو، أعقبته مصر بإصدار بيان أدانت فيه فرض عقوبات على روسيا دون سند من القانون الدولي.

حسين هريدي: اتصال يصب في صالح دعم جهود إنهاء الحرب دون الانحياز لطرف

وقال مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق السفير حسين هريدي إن اتصال السيسي مع كل من زيلينسكي وبوتين يصب في صالح دعم جهود إنهاء الحرب دون الانحياز إلى هذا الطرف أو ذاك، لأن الأزمة معقدة ويكتنفها الكثير من الغموض.

وأضاف لـ”العرب” أن المغزى الذي ينطوي عليه كل اتصال يحمل رسالة مختلفة، فمع بوتين دارت مكوناته في إطار العلاقات الوطيدة بين القاهرة وموسكو والحرص على تطويرها، ومع زيلينسكي انصب في إطار مساعيه للتواصل مع الأطراف الإقليمية والدولية الداعمة لإنهاء الحرب.

وأوضح أن الرئيس الأوكراني لديه مهارة في فنون التواصل مع البرلمانات وزعماء دول العالم ووسائل الإعلام ويسعى إلى استغلال مهاراته في خلق رأي عام دولي داعم لبلاده، في حين أنه من المطلوب أن تظهر فنون التواصل والتفاوض مع روسيا لإنجاز تسوية سلمية تضمن استقرار أوكرانيا وتوفر الأمن لروسيا.

ويقول مراقبون إن المفردات السياسية في الاتصالين متباينة، فقد تطرق السيسي مع بوتين إلى الهيكل العام للعلاقات ولم يقتصر على أزمة أوكرانيا التي حوى الاتصال إشارات فضفاضة إليها، وبدت المفردات مع زيلينسكي إنسانية أكثر منها سياسية.

ويشير المراقبون إلى أن الفرق في المعاني التي حواها كل اتصال يكشف عن موقف القاهرة الحقيقي، ويوحي بأن التواصل مع زيلينسكي يصب في اتجاه رفع العتب عن مصر من جانب الدول الغربية، وعدم استعدادها للاصطفاف بجوار واشنطن.

وتحاول القاهرة أن تضع قدما مؤيدة للجانب الروسي، والأخرى تبدو مؤيدة لأوكرانيا ومن يدورون في فلك الولايات المتحدة، ولجأ السيسي إلى الحديث دوما عن التسوية السياسية في الاتصالين كخيار مهم لحل الأزمة يعفيه من الدخول في التفاصيل، وهو خطاب يمكن تفسيره على أكثر من وجه، في النهاية لا يدين موسكو أو ينصف كييف.

يريد النظام المصري الحفاظ على معادلة عدم إدانة روسيا وعدم الانجرار وراء فكرة الإنصاف بالمفهوم الغربي، لأنه في الحالتين يمكن أن يتلقى خسارة مكلفة من واقع العلاقة الدقيقة التي شيدها مع محوري واشنطن وموسكو وتشعبت مصالحه معهما.

وتكمن مشكلة هذه الأزمة في الدول التي تحاول الوقوف في المنتصف، حيث يُفهم ذلك في واشنطن على أنه دعم غير مباشر لروسيا ومرفوض باعتبارها الدولة المعتدية، ويبعدها عن المعسكر الغربي الذي يرى قادته أن أنصاف الحلول في أزمة عالمية ومصيرية سوف تؤثر انعكاساتها على بنية النظام الدولي في السنوات المقبلة.

Thumbnail

كما أن القاهرة التي تسعى إلى تكوين شبكة علاقات متوازنة منذ فترة مع الشرق والغرب لم تكن مستعدة للتعامل مع أزمة في حجم ما يجري حاليا في أوكرانيا، وهو أول محك رئيسي تواجهه بعد العبور من نفق تقويض حكم جماعة الإخوان وما تلاه من مواقف غربية رافضة للخطوة.

وتفسر المراوحة التي ظهرت في مواقف العديد من الدول الحال الذي يمكن أن تبدو عليه التفاعلات الدولية في المرحلة المقبلة، فبعد أن كان من الممكن القبول بصيغ من نوعية “مع ولكن” أو “ضد ولكن” أو “نختلف ونتفق” في الأزمة الواحدة، بات أفق بعض القوى الكبرى غير قادر على استيعاب هذا النوع من المعادلات.

ومنحت هذه المسألة مصر، وغيرها من الدول العربية، درجة عالية من المرونة مكنتها من الانفتاح على جبهات عدة وسهلت تطوير شبكة علاقاتها، والآن مطلوب أن تكون القاهرة مستعدة لتبني مواقف حاسمة لأن المحافظة على سياسة الانحياز الإيجابي يصعب ضمان استمرارها في وقت يحمل كل تصرف مباشر أو غير مباشر، أمني أو اقتصادي أو سياسي، تأويلات متعددة.

سوف تكون لوغاريتمات الأزمة الأوكرانية نتائج مضنية للنظام المصري الذي وجد في ما يمكن وصفه بـ”الوسطية السياسية” أو “الصبر الاستراتيجي” حلا للكثير من أزماته الإقليمية، وورقة قد تعفيه من الانحيازات السافرة والمكلفة.

وتتأسس رؤية القاهرة على تغليب الحلول الدبلوماسية عموما، ومطالبتها بالتسوية السياسية العاجلة في الأزمة الراهنة لم تتغير ملامحها قبل وبعد الاتصالين الهاتفيين اللذين أجراهما السيسي مع كل من بوتين وزيلينسكي، وهو ما يكفي للتدليل على أهمية الوسطية التي تتبناها القاهرة ومكنتها من عدم التمادي في عداوات مع خصومها.

تستخدم القيادة المصرية منهج التسويات في تجاوز التحديات الإقليمية التي تواجهها ولم تحد أو تلوح بالخروج عنه واللجوء إلى الخشونة خلال السنوات الماضية إلا في حالتي ليبيا وسد النهضة كنوع من الردع الاستراتيجي والعودة إلى التفاوض.

ويجد الموقف المصري في دبلوماسية الهاتف التي ظهرت تجلياتها في اتصالي زيلينسكي وقبله بوتين فرصة لضبط البوصلة مع كل من واشنطن وموسكو، لأن هناك مصالح معلقة مع كليهما، وقد يفضي التمسك لأقصى مدى بالحياد والتوازن إلى تحقيقها مع الطرفين.

Thumbnail
7