دبلوماسية المغرب الدينية قوة ناعمة تتوسع في أفريقيا

يسلك المغرب دبلوماسية تمزج بين الدين والسياسة والاقتصاد، معتمدا على التعاون جنوب – جنوب وسيلة لتعزيز حضوره في القارة الأفريقية، واضعا في أجندته المساهمة في تحقيق التنمية والاستقرار، ومواجهة خطابات التطرف.
الرباط - يعمل المغرب عبر عدد من المبادرات داخل المملكة وخارجها على تعزيز الدبلوماسية الدينية لفائدة القارة الأفريقية خلال شهر رمضان. وتأتي هذه الدبلوماسية الدينية المتمثلة في تأهيل أئمة أفارقة داخل المملكة، وبناء مساجد بدول القارة، واستضافة علماء خلال رمضان، في سياق زيادة اهتمام الرباط بالقارة اقتصاديا وسياسيا، ما يجعل الجانب الروحي حاضرا بقوة لتعزيز الروابط بين الرباط وباقي دول القارة.
ويرى رئيس المركز المغربي للدراسات والأبحاث المرجعية (غير حكومي) إدريس قصوري أن هذه الخطوات بمثابة قوة ناعمة لفائدة القارة. وأضاف قصوري أن البعد الديني في إطار القوة الناعمة هو خيار إستراتيجي للمغرب في علاقته مع أفريقيا، وهو عنصر أساسي في تأمين الاستقرار بالقارة السمراء.
واعتمد المغرب منذ مدة دبلوماسية دينية عبر العديد من الخطوات مثل تأهيل الأئمة الأجانب بمن فيهم الأفارقة، بمعهد محمد السادس لتكوين الأئمة والمرشدين والمرشدات (حكومي). ويستقطب المعهد الذي أطلقه المغرب بالعاصمة الرباط في مارس 2015، طلابا من جنسيات مختلفة للنهل من العلوم الشرعية والإنسانية والتعايش والتسامح والوسطية. وأعلنت وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية المغربية تأهيل 389 إماما أجنبيا من دول أفريقية خلال 2023.
وقالت الوزارة، في تقرير سابق، إن المعهد استقبل خلال موسم 2023 ما مجموعه 639 طالبا وطالبة، بينهم 389 من القارة الأفريقية. ويدرس طلاب المعهد العلوم الشرعية، مثل القرآن والفقه والعقيدة والتصوف وتاريخ الإسلام، بالإضافة إلى العلوم الإنسانية، ومواد أخرى عن التعايش والتسامح والوسطية. وأوضح قصوري أن الدبلوماسية الدينية لا تقتصر على تكوين أئمة أفارقة في المغرب، معتبرا أن التعاون الديني وتجسيده ينبغي أن يكونا شاملين ومستمرين.
وذكر أن العامل الديني “أصبح أولوية ضمن الإصلاح السياسي”، لافتا إلى أن “المكون الديني جزء من كيان المغرب، وكل المؤشرات الدينية تكون حاضرة في التعاون مع البلدان الأفريقية، خاصة أن تطور القارة مرتبط باستقرار بلدانها.” واعتبر أن العامل الديني “يحمل بعدا إستراتيجيا للمغرب في علاقته مع أفريقيا أكثر من الأولويات الاقتصادية والسياسية.”
وقبل سنوات أطلق المغرب “مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة” التي تضم 150 عضوا بينهم 17 امرأة. وتهدف المؤسسة إلى “صيانة الثوابت العقدية والمذهبية والروحية المشتركة بين المغرب وبلدان أفريقيا، وبيان وإشاعة الأحكام الشرعية الصحيحة، وإشاعة الفكر الإسلامي المعتدل”. وتنظم هذه المؤسسة لقاءات بالمغرب ودول أفريقية أخرى لبحث العديد من المسائل الدينية.
ويضم المجلس الأعلى للمؤسسة العشرات من علماء الدين الإسلامي من 32 دولة أفريقية، بينها السنغال، إثيوبيا، تشاد، الصومال، السودان، الكاميرون، كوت ديفوار، نيجيريا وجنوب أفريقيا، إضافة إلى علماء مغاربة. وفي يونيو 2015، أعلن العاهل المغربي الملك محمد السادس إنشاء مؤسسة العلماء المغاربة بهدف “صد التيارات الفكرية والعقدية المتطرفة، وحرصا على حماية الوحدة الروحية للشعوب الأفريقية من النزاعات والتيارات والأفكار التضليلية”، قبل أن ينصب مجلسها الأعلى في الخامس عشر من يونيو 2016.
وفي سياق تقوية الدبلوماسية الدينية، يحاول المغرب تعزيز التعاون بالخصوص مع الدول الأفريقية، لاسيما في شهر رمضان، في ظل اهتمام المملكة بالقارة اقتصاديا وسياسيا، ما يجعل الجانب الروحي حاضرا لتعزيز الروابط بين الرباط وباقي الدول.
ورأى قصوري أن المغرب كان “فاعلا ومبادرا” في ما يتعلق بالتعاون الإسلامي، حيث سبق أن احتضن مؤتمرات إسلامية. وقال “لدى المغرب علاقات وطيدة وامتداد أفريقي خاصة على المستوى الروحي، فالمحدد الديني لا يقتصر على المستوى الداخلي المغربي، بل يمتد في إطار العلاقات مع الدول الأفريقية، وعلى المستوى الدولي.”
واعتبر الباحث المغربي أن دستور المملكة وضع مرجعيات للتعاون والتعايش الديني، والسلم والتعاون بين الشرائع السماوية الثلاث، والتلاقي والعيش المشترك فيما بينها. وأشار إلى أن خلال شهر رمضان تتجسد معاني التعاون الديني عبر دعوة علماء من دول أخرى لإلقاء دروس أمام الملك محمد السادس، مبينا أن ذلك أحد أشكال التعاون والتفاعل والانفتاح وتبادل الآراء وتجسيد القيم الدينية المشتركة.
وتمثل “الدروس الحسنية” التي سُميت بهذا الاسم نسبة إلى الملك الراحل الحسن الثاني، بحسب مفكرين بالمملكة، “سُنة” مغربية تشكل نافذة للتواصل مع علماء الأمة، وفرصة للطبقة الحاكمة للتكوين الديني والشرعي.
◙ القوة الناعمة على المستوى الديني تمتاز بالمتانة والاستدامة، وتأثيرها يكون أكبر من أي مجالات أخرى
وأطلق الملك الراحل الحسن الثاني هذه الدروس عام 1963، وحافظ عليها الملك محمد السادس، وتقام في القصر الملكي بالعاصمة الرباط، وأحيانا في مدن أخرى. وتتميز “الدروس الحسنية” أيضا بأنها فتحت أبوابها أمام كبار العلماء، باختلاف مذاهبهم وتوجهاتهم الفكرية، سنية أو شيعية، وأمام مشايخ الصوفية أيضا.
ولذا فقد اعتلى منبرها علماء وشيوخ مثل الهندي أبوالأعلى المودودي، والمصريين محمد متولي الشعراوي، ويوسف القرضاوي، والسوري محمد سعيد رمضان البوطي، والمغربي أحمد الريسوني، والزعيم الشيعي اللبناني موسى الصدر. وعند حضور الملك محمد السادس، وبعد أن يلقي تحيته على الضيوف، يتقدم أحد العلماء لإلقاء درسه أمامه في مدة تتراوح بين 50 و60 دقيقة، وينقل هذا الدرس مباشرة عبر أثير الإذاعة والتلفزيون.
وأبرز قصوري أن تعزيز التعاون الديني ليس مسألة جديدة، ولكنه يدخل ضمن المبادئ الأصيلة للوحدة الروحية التي ينشدها المغرب. وبحسب وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية المغربية، فإن المملكة أطلقت مشاريع في القارة الأفريقية من أجل بناء مساجد ومعاهد دينية. وقالت في تقرير سابق، إن المغرب أطلق أعمال بناء مرافق مسجد محمد السادس بالعاصمة التشادية انجامينا بتكلفة قدرها 19 مليون درهم (1.9 مليون دولار)، ويواصل تشييد مسجد بشنقيط الموريتانية بـ1.6 مليون درهم (2.16 مليون دولار) خلال 2024.
كما تستكمل الوزارة بناء المركز الثقافي محمد السادس بالعاصمة التشادية بتكلفة 88 مليون درهم (8.8 مليون دولار)، وفق التقرير نفسه. ولفت قصوري إلى أن “المعيار الديني في إطار القوة الناعمة خيار إستراتيجي للبلاد في علاقتها مع أفريقيا.” وتابع أن “البلاد ليس لديها إلا إمكانات خاصة يتم استثمارها في إطار القوة الناعمة مثل الجانب الديني.” وأضاف أن “القوة الناعمة على المستوى الديني تمتاز بالمتانة والاستدامة، وتأثيرها يكون أكبر من مجالات أخرى، فضلا عن قدرتها على التأثير لدى الشعوب وتسوية المشكلات وإحقاق السلام.”
وأشار إلى أن المغرب يستثمر الجانب الديني الروحي كقوة ناعمة خاصة في إطار محاربة الإرهاب، التي جعلت المكون الديني يبرز أولوية في إطار القضاء على التطرف ومخاطره. ودعا قصوري إلى توسيع دائرة العلاقات الروحية والدينية مع الدول الأفريقية، عبر تقويتها في إطار تبادل الطلاب، وانفتاح أكبر للجامعات وكليات الشريعة واللغة العربية بالمغرب لفائدة طلاب أفريقيا.
وشدد على ضرورة ألا يبقى الأمر محصورا على مستوى وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، والعلماء، وأن يشمل الجامعات والأكاديميين والباحثين من أجل التغلب على التحديات. كما حث الأكاديمي والباحث قصوري على إنشاء جامعات مغربية بدول أفريقية من أجل المساعدة في تأهيل طلاب القارة السمراء.