دباغة الجلد في فاس.. ألوان قديمة تزيّن الحياة المعاصرة

دار شوارة معلمة تاريخية تجعل السائح يقف مشدوها أمام لوحة فنية تشبه بأحواضها الدائرية المزركشة ألوان الطيف.
الاثنين 2021/04/05
أكواب من الألوان النباتية

فاس ـ لا تزال دار الدباغة “شوارة” في فاس الماثلة عبر قرون دون تغيير (حفر بألوان متعددة لصباغة الجلود بألوان شتى)، تقاوم تقلبات الزمن وتنافس المنتجات الحديثة.

وتشكل دار الدباغة القلب النابض لمهنيي مدينة فاس العتيقة وتجارها، لكونها تشكل الحلقة الأهم في إنتاج الجلود ومصدر رزقٍ لآلاف المواطنين.

وشوارة هي إحدى دور الدباغة الثلاث في فاس وأكبرها على الإطلاق، بنيت في القرن الحادي عشر الميلادي، وتعتبر أقدم مدبغة للجلود النباتية في العالم، وخضعت في 2017 لعملية ترميم واسعة أعادت لها بريقها، بعد أن كانت قد أخذت منها القرون والسنون الكثير.

وتتكون من أحواض دائرية من الحجر ممتلئة بالأصباغ أو بالسوائل لتليين الصلال، عبر استخدام مواد ومنتجات طبيعية.

وظلت هذه الدار رمزاً حرفياً للمدينة من خلال إعداد الجلود المناسبة لمختلف الصناعات الجلدية التي تشتهر بها فاس.

وقال علي الفاسي، وهو صاحب محل لبيع منتجات الصناعة التقليدية في المدينة القديمة بفاس، إنه بالرغم من الكساد الذي تشهده الأسواق نظراً لتداعيات فايروس كورونا الذي أوقف الحركة السياحية إلا أن تجار الصناعة التقليدية يحاولون الحفاظ على هذا الموروث العريق من باب الحفاظ على رموز الهوية والأصالة المغربية.

وأوضح أن “دار الدباغ” كانت تسمى قبل عقود من الزمن بدار الذهب، لأن العمل في الدباغة كان يأتي بالمال الوفير، مشيرا إلى أن أسراً كثيرة عاشت الغنى والرفاهية، لأن معيلها كان يعمل بالدباغة.

ووسط أحد الأحواض ينهمك محسن صادق (شاب في عقده الثالث) في عمله بكل تفانٍ، واختار امتهان حرفة الدباغة التقليدية، بعدما تعلّم الحرفة عن والده الذي تقاعد بسبب تقدم سنّه وتدهور حالته الصحية.

ويأخذ محسن على عاتقه مهمة حماية حرفة الدباغة من الانقراض، وهو يترأس “التعاونية الفاسية للدباغة النباتية” (غير حكومية).

يقول محسن صادق إن “دار الدباغة قبلة سياحية عالمية تحافظ على الدباغة النباتية التقليدية التي تعتبر أساس كل المنتجات الجلدية”.

ويضيف “على الرغم من الظروف وهشاشة قطاع الصناعة التقليدية والتقليد فإننا نجتهد من أجل حماية حرفة الدباغة من الاندثار، خصوصاً أن الحرفيين يورثون الحرفة إلى أبنائهم من جيل إلى جيل”.

ويوضح أن “الدباغين يقومون بتدوير جلود الماشية وجعلها قابلة للتصنيع، لكن بطرق تقليدية ومواد نباتية طبيعية صرفة”.

وعن مراحل الدباغة قال “ينتقي الدباغون الجلود، وبعد تنقيتها يضعونها في الحوض الدائري لمدة 10 أيام لتتشبع بألوان الصباغة، بعدما تتم تنقيتها وغسلها جيدا باستعمال مواد كالجير وفضلات الحمام، ثم يقومون برميها داخل الجفنة ليتم دبغها”.

ويتابع موضحا “الألوان التي تصطبغ بها الجلود تستخرج بالأساس من قشور الرمان والزعفران ومواد طبيعية أخرى”.

أما عبدالناصر العماري، رئيس “الجمعية المهنية للمعلمين الدباغة” (غير حكومية) وعضو في غرفة الصناعة التقليدية بجهة فاس – مكناس، فيعتبر أن “مدبغة شوارة معلمة سياحية تاريخية تحافظ على بصمتها كقاطرة للصناعة التقليدية في مدينة فاس العتيقة”.

دار الدباغ شوارة معلمة تجعل السائح يقف مشدوها أمام هذه اللوحة الفنية المتكاملة، التي تشبه بأحواضها الدائرية المزركشة ألوان الطيف الذي يستعمله الرسام لإنجاز أعماله الفنية.

ويضيف العماري أن “دار الدباغة هي مهد الصناعات الجلدية في العالم، تحافظ على أصالتها من خلال الدباغة النباتية التي انقرضت في العالم وبقيت صامدة في فاس”.

ويوضح “الحرفيون المعلمون يحبون هذه الحرفة الأصيلة ويناضلون من أجل بقائها ويحرصون على تقديم جودة عالية للدباغة النباتية”.

ويتابع “لحماية أصالة المنتجات وجودتها يمنح الحرفيون في المدبغة علامات الجودة للتمييز بين المنتجات المصنوعة تقليدياً والأخرى المزورة”.

وقال إن منح الصناع المؤهلين علامة الجلد الطبيعي عبر إثبات خلو الجلد من المواد المصنعة عن طريق التحاليل المخبرية يسهم في “الرفع من قيمة المنتوج، نظرا لاحترامه المعايير البيئية، وفيه مجهود بدني، فضلا عن كونه موروثا ثقافيا وحضاريا ومهنيا متوارثا عبر الأجيال، وهذه هي نقطة القوة الأساسية لهذا المنتوج التي يمكن أن تساهم في رفع ثمن البيع وفي تمييز جودة منتوج المدابغ التقليدية”.

وشدد على أن “دار الدباغة تعتبر مركزاً للتدريب في مجال الصناعات الجلدية، حيث استفاد قبل أيام خبراء من إيطاليا وإسبانيا من التدريب هنا”.

وأرخت جائحة كورونا بظلالها على دار الدباغة، خصوصاً بعد إغلاق المغرب حدوده الجوية والبحرية لأكثر من ثلاثة أشهر، ما تسبب في توقف حركة السياح.

وعن تأثير جائحة كورونا أوضح العماري أنها “تسببت في توقف تام للعمل في دار الدباغة، خصوصاً خلال أشهر الحجر الصحي من 20 مارس إلى منتصف يونيو، لكننا نتمنى انطلاقة جديدة”.

وتشتهر مدينة فاس (شمال)، منذ نشأتها قبل 12 قرناً، بتفنن أهلها وحرفييها في مختلف أنواع الصناعات التقليدية، لاسيما الدباغة التي تقاوم زحف مظاهر الحياة المعاصرة.

ويشكل قطاع الصناعة التقليدية، وفق إحصاءات رسمية، مصدر دخل رئيسيا لحوالي 33 في المئة من سكان مدينة فاس عموماً، و75 في المئة من سكان المدينة القديمة، موزعين على أكثر من 200 حرفة.

وتعتبر مدينة فاس رابع أكبر مدن البلاد، إذ يبلغ عدد سكانها 1.9 مليون نسمة، من إجمالي 34.3 مليون نسمة، وتحتضن “البالي” أو المدينة التراثية القديمة.

ويعمل في الصناعة التقليدية التراثية في المغرب أكثر من 412 ألف شخص، وفق إحصاءات رسمية.

وبعد أن أجبرت ظروف جائحة كورونا الصناع التقليديين على إغلاق محلاتهم، في سياق حالة الطوارئ الصحية، عاودت أنشطة الصناعة التقليدية نشاطها بشكل بطيء لكن بثبات، لتستعيد من جديد تألقها وتجدد اللقاء بزبائن تحتل لديهم مكانة خاصة.

20