داعيات الأمر بالمعروف وسلطة التطرف

في الوقت الذي تأهب فيه العالم للقضاء على تنظيم داعش، وحجم الخسارات الكبيرة التي تلقاها التنظيم في قلب عاصمتَه الرقة، أظهرت الفصائل الجهادية في إدلب وجهها الحقيقي لتسير على خطى داعش في مسيرتها المتطرفة وقمعها للناس وفي العبارات التي كتبها مجهولون على ساعة إدلب والتي تناصر “الدولة الإسلامية” وتطالب بـ”خلافة إسلامية” في 21 يونيو الماضي، عقب اشتباك بين “دعاة هيئة الأمر بالمعروف” التابعة لهيئة تحرير الشام وأهالي إدلب.
منذ أن أعلن تنظيم داعش قيام الخلافة الإسلامية في يونيو 2014، اعتمد في تأسيس “الدولة” على عدة دواوين أهمها ديوان “الحسبة” والذي كان أهم الركائز والأساسيات التي تقوم عليها سياسية التنظيم في كافة مناطق سيطرته، وأهم مهامها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لمكافحة “الشر” وحثّ المسلمين على “الخير” وعدم “مخالفة الشريعة الإسلامية”.
وقد شكل جهاز الحسبة “كتيبة الخنساء” النسائية لتفتيش النساء ومراقبتهن واعتقال من ترتكب أي مخالفة شرعية. تنظيم داعش الذي استباح حتى دماء المسلمين، واغتصب وسبى النساء في مخالفة لكافة الشرائع السماوية والأرضية، اتخذ من “الحسبة” ذراعا طويلا في قصاص المواطنين وفرض شروطه عليهم، بحيث لا يكاد يخلو يوم من انتهاك تمارسه دوريات الحسبة بحق المدنيين في مناطق سيطرتها تحت مسمى “تطبيق الشريعة”.
هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في إدلب خصصت لكل مدرسة "داعية" مهمتها إلزام الفتيات باللباس الشرعي ووضع النقاب أو حرمانهن من التعليم
هذه الحسبة “الداعشية” وجدت ما يقابلها في هيئة “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” أحد أذرع “جيش الفتح”- وهو تحالف فصائل إسلامية أهمها حركة أحرار الشام وجبهة فتح الشام “النصرة”- الساعية إلى التضييق على الحريات العامة والخاصة والاعتداء على من يخالف تعاليمهم، والتي طالت النساء أكثر من الرجال وقيدت حريتهن المعدومة هناك أصلاً، فشهدت مدينة إدلب سلوكاً مشابهاً لسلوك تنظيم داعش في ضرب امرأة “محجبة” لعدم ارتدائها “النقاب”، واعتقال فتاة أخرى بتهمة التبرج وعدم ارتداء اللباس الشرعي، ما أدى لاشتباك مع الأهالي الرافضين لمثل هذه الانتهاكات، أعقبه إطلاق نار وانتشار واسع للأمنيين في المدينة وتهديد للأهالي بالتأديب وإن “أي امرأة تخرج دون لباس شرعي كامل سيتم تحويل زوجها للقضاء” حسب إعلان أبوالبراء القحطاني أحد مسؤولي هيئة الأمر بالمعروف، والذي يظهر كنسخة مطابقة لبيانات داعش في استعراض التطرف والقمع.
تم تأسيس مكتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المختص بالنساء “الداعيات” في أواخر العام 2015 ويُقدّر عددهن قرابة 100 امرأة، مهمتهن مراقبة تطبيق قرار “جيش الفتح” بمنع التبرج وإلزام النساء بارتداء اللباس الشرعي، ويتوزعن بالقرب من الكليات والجوامع والأسواق في مدينة إدلب لملاحقة لباس وماكياج النساء، وقد خصصت هيئة الأمر بالمعروف لكل مدرسة “داعية” مهمتها إلزام الفتيات باللباس الشرعي ووضع النقاب بدل اللباس التقليدي الطويل والحجاب، ليواجه الأهالي في حال رفضهم الالتزام قرار فصل الفتاة وحرمانها من حقها بالتعليم.
الجهادية تخلّت عن كبائر الأمور كقتل الناس بغير حق لتشتغل بالشكليات كمصادرة أقراص الموسيقى وعلب الدخان من الأسواق ومراقبة تبرج النساء
ولا يقتصر تدخل عناصر الحسبة والهيئة الشرعية على المدارس، فالجامعات لها نصيبها وقد أصدرت إدارة جامعة إدلب تعميماً بتاريخ 2 يناير 2106، حول ضرورة التزام الطالبات والمدرّسات باللباس الشرعي، وهدّد التعميم بـ”عدم السماح بدخول حرم الجامعة والامتحانات لمن لا تلتزم اللباس الشرعي”، كما سُبق هذا التعميم بتعميم الفصل بين الذكور والإناث، ومنعت الإناث من دراسة تخصصات محددة كالهندسة المدنية والهندسة الميكانيكية والمعهد الطبي طوارئ، ودمجت إدارة الجامعة كلية الحقوق مع كلية الشريعة الإسلامية، ما حول الطلاب من مشاريع محامين وقضاة إلى دعاة شرعيين.
عشرات الآلاف من المدنيين والمقاتلين الذين تم إجلاؤهم باتفاقيات المصالحة بغض النظر عن أيديولوجيات المقاتلين وفصائلهم، توجهوا إلى مدينة إدلب الملاذ الآمن بالنسبة إليهم، حتى الآن، ليعيشوا مع أهالي إدلب تحت سطوة القوانين المتطرفة التي تشرّعها هيئة “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” وقوانين أبومحمد الجولاني زعيم فتح الشام حيث يختلط المعروف فيها بالضرب والإهانة وقد يصل للقتل.
فالفصائل الجهادية تخلّت عن كبائر الأمور كقتل الناس بغير حق لتشتغل بالشكليات كمصادرة أقراص الموسيقى وعلب الدخان من الأسواق، وسلطت دعاتها وداعياتها لمراقبة تبرج النساء.
يجدر القول إن الإسلام الشامي المعتدل الذي شكّل ميزة للمجتمع السوري برمته، سقط تحت بلاء التكفير والتشدد الديني في مناطق نفوذ تنظيم داعش، وفي إدلب التي تسير بسرعة على خطى الرقة لتكون معقلا للقاعدة والجهاديين، ويخشى أن تلقى مصيرها ويصير أهلها البسطاء حطباً في محرقة الحرب على الإرهاب.