داعش يستقطب من جديد.. من هم المستهدفون للتجنيد

تنظيم داعش المهزوم عسكريا في أهم معاقله بسوريا والعراق، يحاول مرة أخرى ترميم صفوفه متوسلا نفس الأساليب القائمة على الأيديولوجيا والمال، ومراهنا على نفس الفئات التي تمكّن من استقطابها عندما كان في أوج قوته. وتتطلب إطلالة زعيم التنظيم المتطرف أبوبكر البغدادي وإقدام بعض خلاياه على تنفيذ هجمات إرهابية مروعة المزيد من التمحيص بعمق في مفهوم؛ من هم الدواعش؟ لفهم طبيعة الفئات المستهدفة للتجنيد الآن والتي يمكن أن تكون مستقبلا خزانا جديدا تراهن عليه الدولة الإسلامية في قادم العمليات، خاصة من خلال استغلال بعض المتغيرات السياسية في المنطقة التي تعيش على وقع مرحلة جديدة من الانتفاضات والارتباك الأمني.
تونس – إن ظهور أبوبكر البغدادي زعيم تنظيم داعش، لا يحمل فقط في طياته ما يُفهم من المعلن عنه بأنه مجرّد رسائل تتضمّن ردّا من أخطر إرهابي في العالم على تقارير دولية تحدثت في السابق مرارا وتكرارا عن مقتله في عدة معارك، بل إن هذه الإطلالة جاءت لتؤكّد مسعى التنظيم المتطرف إلى ضمان مستقبله عبر تجنيد قيادات جديدة تضمن بقاء “فكرة داعش” حتى وإن لم تكن بنفس القوة في السابق.
ويراهن التنظيم مجدّدا على استهداف نفس الفئات التي تمكّن من تجنيدها سابقا في صفوفه وقاتلت في مناطق متفرقة من العالم وخاصة في ليبيا وسوريا والعراق، وكل هذا يستدعي الإجابة الشافية للسؤال من “هم الدواعش؟”، لإحباط مخططات التنظيم الرامية إلى خلق جيل جديد من المقاتلين يمكن الاعتماد عليهم للانغماس في مجتمعات مختلفة.
الفكر الدعائي للتنظيم الإرهابي لم يتغيّر كثيرا رغم الهزائم والانكسارات، حيث بدا قائما إلى أبعد الحدود على فلسفة استفزاز مشاعر الدوائر المقرّبة منه والتي ما زالت واهمة بأن “الخلافة” هي الحل للحكم وذلك على قاعدة “الأقربون أولى بالجهاد”.
هذه الفئات تتفرّع إلى أكثر من شريحة، ليكون الاستهداف الداعشي مركزا بصفة تامة ومباشرة، أوّلا على من لديهم ارتباطات ولو من بعيد بفكره أو بممارساته وهنا نتحدث عن أسر وعائلات الجهاديين، الذين قُتلوا أو الذين ما زالوا قابعين في سجون العراق وسوريا.
ثانيا، إعادة إغراء الفئات اليائسة والمهمّشة في بلدانها والتي عادة ما يستهويها المال قبل الفكر المتطرف.
الفكر الدعائي للتنظيم الإرهابي لم يتغيّر رغم الهزائم والانكسارات، فهو قائم إلى أبعد الحدود على فلسفة استفزاز مشاعر الدوائر المقرّبة منه والتي ما زالت واهمة بأن الخلافة هي الحل للحكم
ثالثا، العودة لدغدغة تلك المجموعات التي تشعر بأنها أقلية مضطهدة في بلدان تسود فيها حروب طائفية تمنح الأولوية لطوائف ومذاهب على حساب أخرى. وأخيرا محاولة تجديد كسب دعم الأطراف الإجرامية في مناطق عدّة والتي تملك خبرة في تجارة السلاح للزجّ بها في أتون الحرب المستقبلية على اعتبار أنه لم يعد لها أي مفر من قوانين دولها التي تحاصرها ولذلك قد تجد في داعش ملاذا آمنا يحميها ولو بصفة وقتية مما قد يزيد من تمرّدها على حكوماتها.
كل هذه الأهداف المعلنة ممّن تبقى من قيادات التنظيم، تؤكّد أنه يستعمل نفس الأساليب. وتشير بعض الدراسات وأهمها دراسة نشرت بمجلة مقاربات حول الإرهاب من إعداد الخبيرة في شؤون الجماعات المسلحة فيرا ميرونوفا، إلى أن فهم ماهية مجموعة مسلحة مثل داعش، يحتاج إلى فهم الإطار الذي يعمل من خلاله هذا التنظيم، وخاصة في ما يتعلق بـ”من هم أعضاء داعش؟”، و”من يمكن أن يتأثر بأهداف التنظيم في المستقبل؟”.
هنا فقط، ومن خلال العودة قليلا إلى ماهية الدواعش يتأكّد أن نفس الفئات التي تم استهدافها في الماضي ستكون ضحية لما تبقى من قيادات داعش، حيث إن أغلب أفراد التنظيم، سواء كانوا سكانا محليين أو أجانب، ارتموا في أحضان تنظيم الدولة الإسلامية لأسباب مختلفة مثل الأيديولوجيا أو المال أو السلطة أو لأنهم ببساطة لم تكن لديهم خيارات أخرى.
وفي هذا السياق تقريبا، حاول أبوبكر البغدادي استمالة هذه الفئات باعتماده خطابا دعائيا هادئا يقوم رأسا على مخالجة العواطف في محاولة لترميم معنويات أنصاره أو المتعاطفين فكريا مع التنظيم.
الإرهابي المهزوم يعترف، بخسارة تنظيمه في الباغوز السورية، لكنه يقول في الآن ذاته “في مهمتنا ليس ضروري الانتصار بل الجهاد هو الأهم” وكل هذا يحيل إلى تعمّده استهداف فئات جديدة قصد تجنيدهم لاحقا في التنظيم المتطرف.
وقبل ظهور البغدادي، حذّرت العديد من الدراسات والبحوث المعنية بمكافحة التطرف، ممّا أسمته بالألغام التي زرعها تنظيم الدولة الإسلامية وهي الخلايا النائمة التي يمكن أن تحوّل العالم في فترة ما بعد داعش إلى فضاء أشبه بحقل قنابل موقوتة يمكن أن تنفجر في كل وقت ودون استئذان، لكن في المقابل يسعى التنظيم إلى تجنيد المزيد من المقاتلين مستغلا بعض التطورات السياسية الحاصلة في المنطقة.
الدوائر المقرّبة
إن الهزائم التي تلقاها تنظيم الدولة الإسلامية في الأربع سنوات الأخيرة، تؤكّد انحسار مربع تحركاته خاصة من ناحية تلقي الدعم المالي الذي كان عند ظهوره أهم سلاح يُضعف به قلوب الغاضبين من حكوماتهم ويجرهم إلى مربع القتال في بؤر متفرقة من المنطقة، إذن من هم المعنيون الجدد بدعاية داعش؟
لكل هذه الأسباب، فإن أولى الفئات التي يستهدفها من تبقى من داعش، لا تخرج عن دوائره القريبة، فخطاب البغدادي يؤكّد أن أولى الفئات التي يجب جرها مجدّدا وراءه، هي تلك التي لديها روابط حتى من بعيد بالتنظيم، وهنا يكون المستهدفون هم عائلات وأسر المقاتلين الذين قتلوا أو تم حبسهم في سجون العراق أو سوريا (سجون النظام السوري) أو سجون قوات سوريا الديمقراطية المدعومة من واشنطن.
ويحاول التنظيم المتطرف اختراق هذه الفئة، من خلال تأليبهم على دولهم بتعلة أنها تركت أبناءهم المقاتلين مجهولي المصير بعد أن رفضت جلها إعادتهم وزوجاتهم وأطفالهم إلى مواطنهم الأصلية. ويتعلق الأمر خاصة بالدول الأوروبية والغربية التي سبق وأن فرض عليها الرئيس الأميركي دونالد ترامب القيام بذلك أو إطلاق سراحهم كورقة تهديد لكنها رفضت واقتصرت على قبول بعض أطفال المقاتلين.
وهذه العائلات التي يستهدفها داعش، بنفس الطرق الدعائية القائمة على مغازلة العواطف والوازع الديني، عبر الترحّم تارة على أبنائهم أو تصويرهم تارة أخرى على أنهم حقا في مقام الشهداء وأنهم كانوا على حق عندما حاربوا ورفعوا السلاح ضد “الطواغيت”.
وتثبت العديد من الحالات أن أعدادا كبيرة من هذه الأسر وإن لم تخرج على القانون ولم ترفع السلاح وتتظاهر باحترام قوانين الدولة، إلا أنها تحمل في بواطنها حقدا دفينا ضد حكوماتها خاصة لرفضها إعادة أطفال الدواعش ولذلك، فإن ما تبقى من التنظيم المهزوم يواصل اللعب على ورقة دغدغتهم لإيهامهم بأن الحل الوحيد هو التنظّم والالتحاق بداعش للثأر من حكّام أوطانهم .
فهم ماهية الدواعش، يحتاج إلى فهم الإطار الذي يعمل من خلاله التنظيم المتطرف، وخاصة في ما يتعلق بمن هم أعضاء داعش؟ ومن يمكن أن يتأثر بأهداف التنظيم في المستقبل؟
وتستند الخطة الجديدة على توظيف بعض الحالات السابقة التي نجحت في الزج ببعض الأطراف في حروب داعش، حيث سبق مثلا في تونس عام 2014 أن حكم القضاء بالسجن لمدة عام على والد أحد أخطر الإرهابيين المدعو كمال القضقاضي منفّذ عملية اغتيال السياسي التونسي المعارض شكري بلعيد لأنه كتب على قبر ابنه عبارة “شهيد”، وهذا مثال للنماذج التي كان لها وقع على المتأثرين بفكر داعش والتي سيتم الرهان عليها مجددا لكسب تعاطفها مع التنظيم في حلته الجديدة.
منذ أن أطلّ تنظيم داعش برأسه، عقب 2011، مستغلا بعض الارتباكات التي حصلت في المنطقة عقب ثورات الربيع العربي، لم تقتصر أجندته فقط على غسل الأدمغة أو الأدلجة بالفكر، فباستثناء بعض القيادات التي تؤمن فعلا بـ”دولة الخلافة”، فإن بقية المقاتلين، التحقوا بالتنظيم من أجل المال، وقد أثبتت عدة دراسات أن بعضهم لم يكن في فكره داعشيا بل كان ضحية عقد نفسية أوهمته بأنه سيجد في “أرض الجهاد” جنة ملؤها الجواري والحوريات.
المال قبل الفكر
كل هذه التجارب السابقة للدعاية الداعشية، ستواصل كما في السابق، اختراق بعض الدول التي تشهد متغيرات سياسية واجتماعية واقتصادية وخاصة عبر استهداف تلك الفئات الشابة الناقمة على سياسات حكوماتها والتي لم تجد بدائل تجنبها اليأس والتهميش أو حتى الغرق والنهاية على متن قوارب الموت. ولكل هذا فإن إيحاءات البغدادي المتعمدة للوضع السوداني أو الجزائري لا تخرج أبدا عن مقاصد دعائية تتضمن تعليمات صريحة للخلايا النائمة بالتحرك لتجنيد اليائسين قبل أن تتم السيطرة على الوضع ويستتب الأمن من جديد في هذه البلدان.
وفي قلب هذه الخطة الأخيرة وجوهرها، حاول البغدادي بقصد الردّ على منتقديه الذين ليسوا من خصومه بل هم أقرب المقربين إليه من قياديي التنظيم الذين اعترفوا عند اعتقالهم بأن “البغدادي زعيم من ورق ويفتقد لمؤهلات القيادة وللجاه وللمال” وهو ما أكده سابقا القيادي البارز في التنظيم أبوزيد العراقي للقضاء العراقي، حين قال في اعترافاته إن “البغدادي
يشعر بخيبة أمل، خصوصا بعدما هرب مسؤول ديوان الزكاة بعد سرقته لكل ما كان لديه من أموال، والبالغة 350 ألف دولار أميركي”.
إذن كل هذه المؤيدات تؤكّد أن التنظيم سيواصل الرهان على ورقة المال واستغلال الاضطرابات وهو ما أشارت إليه بقوة الدارسة التي نشرت بمجلة مقالا عن مقاربات حول الإرهاب، حيث عرّفت عن كثب ماهية الفئات الأكثر جاهزية للانخراط في التنظيم المتطرف.
وتستدل هذه الدراسة المعمّقة بنجاح داعش عند ظهوره في استقطاب أكثر عدد ممكن من المقاتلين مقارنة بأطراف إرهابية أخرى في سوريا كجبهة النصرة أو غيرها لأنه كان يدفع أكثر أموالا لمقاتليه وتقدر منحة كل مقاتل بـ300 دولار شهريا.
وقد نقلت نفس الدراسة عن أحد أعضاء داعش في الرقة السورية تأكيده ما يلي “عندما كانت النصرة في الرقة، كنت أفكر في الانضمام إليهم. لكن بعد ذلك جاء داعش، وبما أنني لم أرَ فرقا كبيرا وأردت البقاء في بلدي، انضممت إليهم بدلا من ذلك. لأنني كنت أدرس علوم الكمبيوتر قبل الحرب، ذهبت للعمل في الجهة الأمنية للتنظيم. كان مكانا جيدا للعمل، وكنت أتقاضى 250 دولارا شهريا وكنت بعيدا عن خط المواجهة”.
وتؤكّد الدراسة نفسها أن داعش، الذي راهن بأمواله، سابقا على اكتساح شريحة واسعة من الشباب، سيعيد الكرة باستهدافه، شريحة اليائسين وكذلك المتورطين في قضايا إجرامية في بلدانهم. وكما رأى من سبقوهم في داعش ملاذا، فإن فئة المجرمين ربما ستكون مستقبلا تحت إمرة التنظيم المتطرف لمواصلة جرائمها والهرب من القانون.
انتهى تنظيم الدولة الإسلامية عسكريا وميدانيا، ولكن فكره لم ينته، كما أن الدوافع التي سمحت له بالغطرسة ما زالت متوفرة في مناطق وأماكن متفرقة ما زالت تعتبرها قيادات التنظيم مجالات خصبة ومناسبة للتجنيد ولخلق جيل جديد من المقاتلين.
إن الخطط المرحلية لتنظيم داعش، لم تكن حتى وهو في أوج قوته تراهن على من يؤمنون بالخلافة بقدر ما كانت توجهاته تنصب على وجوب حشد أكثر عدد من الأنصار، والآن يشعر التنظيم أنه بحاجة إلى قيادات جديدة تسد الفراغات، لكن شريطة أن تكون ليست من ذوي سجلات أمنية معروفة داخل دولها لكي يسهل عليها التحرّك وتكون مؤهلة للعب أدوارها على أكمل وجه.
أماكن خصبة
تقول إحدى الحكم الفلسفية “إن الظاهرة زائلة بزوال أسبابها”، لكن الدوافع والعوامل التي بعثت الروح في وقت ما في “دولة الخلافة” لا تزال بعد، ففي الوقت الذي يعتقد فيه الكثيرون أن وجودها لم يعد قائما في سوريا والعراق، تذهب العديد من الدراسات إلى التأكيد على عكس ذلك تماما.
فسوريا مثلا ما زالت تعيش على وقع حرب، حيث تعقدّت بدرجة أكثر المشاكل كالفقر والتهميش والبطالة، ولذلك تبقى مرشّحة لأن تكون من أكبر الحواضن المستقبلية لداعش رغم ما اقترفه من فظاعات وتهجير للآلاف من السوريين.
ويستغل التنظيم إلى اليوم بعض الورقات التي تجعله متواجدا في مخيلات بعض من المقربين منه في سوريا، فعلى عكس حكومة نظام بشار الأسد، يدعم التنظيم المتطرف إلى الآن أرامل وأيتام المقاتلين الذين لم ينجوا من المعارك، ما يؤكد أنه بصدد تجهيز جيل جديد من الأطفال.
أما في العراق، فإن نجاح حكوماته منذ 2017، في القضاء على معقل تنظيم الدولة الإسلامية في الموصل، لم يكن كافيا لإسكات الحروب الطائفية التي تقودها أطراف موالية لإيران وفي مقدمتها قوات الحشد الشعبي، وهو ما يغذي حتما حقد الكثيرين من السنة ضد الشيعة ويجعلهم فريسة سهلة لتنظيم داعش مجدّدا.
وفي بعض الدول الأخرى، وخاصة في شمال أفريقيا، فإن داعش، يركز مجدّدا على بعض الثغرات التي ترتكبها حكومات غير ديمقراطية أساءت استخدام القانون ضد مواطنيها ما يخلق لديهم نوعا من الانتقام الدائم على الدولة القائمة، فيكونون أكثر شريحة قابلة للاعتقاد فعلا بأن كل من يشتغل في الدولة وخاصة في أجهزة الأمن أو الجيش هم فعلا “طاغوت” وبالتالي تسهل عليهم عملية تصديق روايات وشعارات تنظيم الدولة الإسلامية.
مع تراكم كل هذه الأسباب، يوجد معطى آخر، قد يجعل داعش ينفخ في صورته من جديد ومن أهمها خبرة أعضائه الذين تمكنوا من الفرار من المعارك ما قد يجعلهم قادرين على الانغماس مجددا في عدة مجتمعات يسودها الإحباط من سياسات بلدانها التي تزداد سوءا.