خمس سنوات من الثورة والخطوات تنذر بالنكوص

هاهي سنة تونسية تسدل ستارها لتمضي إلى البعيد، فاتحة لنا أبواب سنة أخرى مليئة بإمكانات أخرى وأحداث وتطلعات وإشكالات، إلخ. لكن ماذا في سنة 2015 وهي تودعنا في آخر أيامها؟
حذر من المناسباتيات
سنة 2015 كانت لافتة بالنسبة إلى الساحة الثقافية التونسية خاصة من حيث تتويج كتاب تونسيين بجوائز يتوجون بها لأول مرة، أهمها الجائزة العالمية للرواية العربية التي نالها الكاتب التونسي شكري المبخوت عن روايته البكر “الطلياني”، والتي اختيرت باعتبارها أفضل عمل روائي باللغة العربية نشر خلال الـ12 شهرا قبل الإعلان عن الجائزة بأبوظبي في مايو الماضي.
تتويج عربي آخر ناله الكاتب التونسي شفيق الطارقي الذي حصد الجائزة الأولى من مسابقة دبي الثقافية للرّواية لسنة 2015 عن روايته “لافازّا”. كما فاز تونسيان آخران هما الشاعر محمد الغزي والأكاديمي عبدالسلام المسدي بجائزة السلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب في دورتها الرابعة لعام 2015، حيث نال الغزي الجائزة في فرع الآداب أدب الطفل، بينما حاز المسدي على الجائزة في فرع الثقافة ودراسات اللغة العربية.
كاتب تونسي آخر هو هادي قدور، يكتب رواياته بالفرنسية ويقيم بفرنسا، نال هذا العام جائزة الأكاديمية الفرنسية الكبرى للرواية عن روايته “المتفوقون” حيث أشادت الأكاديمية الفرنسية بالوسع الروائي لقدور “الذي يمزج في قصة وموقع جغرافي محددين مجموعة من الشخصيات العذبة والوفيرة، تتشابك مصائرها، ويسرد عالما على وشك الانهيار بوتيرة لاهثة راسما صورة قاسية عن مجتمع استعماري متسمر في عشرينات القرن الماضي في أفريقيا الشمالية”.
الجوائز على أهميتها فإنها وإن عرفت جزئيا بالإبداع التونسي إلا أنها كانت مجرد أحداث عابرة وفردية تنسى كغيرها ولا يقع التأسيس عليها لبناء مشروع ثقافي حقيقي سواء في الأدب أو السينما أو المسرح أو غيرها من صنوف الإبداع.
طموحات المثقف التونسي تقلصت من مطالبة بثورة ثقافية إلى إصلاح ولو جزئي لكن هذا لا يحدث، بل نرى نفس الأساليب الارتجالية القديمة
معرض الكتاب
شهدت تونس على مدار سنة 2015 تظاهرات ثقافية مختلفة حاولت مواكبة تطلعات المثقف والشارع، نذكر من أبرزها معرض الكتاب الذي التأم في دورته الحادية والثلاثين من 25 مارس إلى غاية 5 أفريل 2015 بشعار “قفا نقرأ”، وجاءت هذه الدورة بعد انقطاع المعرض سنة 2014، واستضافت العديد من الأسماء الثقافية العربية لعل أبرزها أدونيس ونوال السعداوي.
حيث سعت هذه الدورة إلى إرضاء كتاب كانوا ضمن هياكل اتحاد الكتاب قبل الثورة منضوين تحت عباءة الحزب الحاكم، ما جعل لهم أسماء أدبية قائمة على الولاء الحزبي لا المنجز الإبداعي. لكن وإن كانت النية طيبة في إرساء مصالحة وعدم تغليب طرف على آخر، فإنه كان من الأجدر أن تتمّ دعوة كتاب لاعتبار إنجازاتهم الأدبية لا لحجم أسمائهم التي نفخ فيها الحزب المنحل والنظام الدكتاتوري السابق. ثم بقيت ندوات وأماسي معرض الكتاب مجرد تظاهرات ديكورية لم تحقق هدفها ألا وهو الوصل بين الكتاب والمثقفين والجمهور.
ثم من ناحية أخرى بقيت عدة أجنحة من المعرض في دورته الحالية فارغة تماما، وهناك من تعلل بتزامن دورته مع معارض عربية أخرى، وهذا يحيلنا إلى قلة التنسيق بين الجانب الوطني والعربي، إضافة إلى إشكالية عانى منها كل مرتادي المعرض تقريبا ألا وهي غياب عناوين جديدة تثير القارئ، وفي المقابل غلاء الأسعار المشط الذي علله الناشرون أنفسهم بتدهور قيمة الدينار التونسي على ما كان عليه سابقا.
|
لذلك فمعرض الكتاب في دورته الأخيرة كان أقل مستوى مما سبقه، وما سبقه أقل من الأسبق أيضا، لذلك نتساءل كيف سيتم تجاوز النقائص والبناء على الإيجابيات السابقة لتظاهرة هامة مثل معرض الكتاب، في ظل الإدارة الجديدة التي تم تعيينها للدورة اللاحقة.
ملتقيات أدبية وإصدارات
كما شهدت تونس عدة مهرجانات وملتقيات شعرية متفرقة نذكر منها ملتقى قصيدة النثر بنابل، ملتقى الأدب التجريبي بمحافظة النفيضة، ملتقى توزر للشعر العربي، ملتقى بن قردان، ملتقى الأدب المعاصر بمحافظة منوبة، وغيرها من التظاهرات الثقافية. وأبرز ما شدّ الانتباه هو افتتاح بيت الشعر الذي أنشأته الشارقة بالقيروان، والذي وإن عدّ بادرة جيدة خدمة للشعر التونسي والعربي، فإن نشاطاته الأولى تنبئ أنه ذاهب إلى تنميط من نوع آخر بدوره وذلك بميله إلى الشعر الكلاسيكي.
وإن نرى في بعض هذه الملتقيات كملتقى الأدب التجريبي وملتقى قصيدة النثر سعيا إلى التجديد وضخ دماء نقية في شرايين الأدب التونسي فإن جل الملتقيات غلبت عليها الشللية والتوجهات الأجناسية، كأن نجد ملتقى للقصيدة العمودية وآخر للنثر فقط دون غيره، إلخ. ثم غلبت العلاقات الفردية والارتجال على جل هذه التظاهرات التي مثلت فقط تظاهرات من أجل الصور والاجتماع على “بوفي أدبي” لا مشروع لها للتأسيس لمشهد ثقافي مغاير متجاوز لما كان عليه الحال من قبل من تظاهرات الديكور التي كلما تحدثنا في شأنها تكاثرت كالفطر، وكأنها قدر الواقع الأدبي التونسي.
كما شهدت سنة 2015 عدة إصدارات، فقد أصدر بيت الشعر مثلا ثلاثة كتب شعرية هي “مياه مؤجلة” لأنور اليزيدي، و”حتى لا يجرحك العطر” لمحمد العربي و”رماد الماء” لسالم الشرفي، كما صدرت عن دار زينب مجموعة شعرية بعنوان “لو أن للريح جوربا” لفريد السعيداني وعن نفس دار النشر صدر كتاب شعري بعنوان “مثل من فوت موعدا” لفتحي النصري، كما صدرت عدة روايات لعل أهمها رواية “ريكامو” ليوسف رزوقة ورواية “شارلي” لنبيل قديش ورواية “انتصاب أسود” لأيمن الدبوسي إضافة إلى الرواية التي تراهن على جائزة البوكر العالمية للرواية العربية “عشيقات النذل” لكمال الرياحي.
ملتقى الأدب التجريبي وملتقى قصيدة النثر سعيا إلى التجديد وضخ دماء نقية في شرايين الأدب التونسي
ما نلاحظه في الإصدارات التونسية لهذه السنة هو أن أغلب من أصدروا كتبا هم من الشباب، وما يميز أدب الشباب التونسي اليوم هو سعيه إلى التجريب والانفتاح والتجديد، لكن تبقى المؤسسات الرسمية بيد القدامى والمتكلسين إلى اليوم، وهو ما يهدد هذا المشروع الشبابي، حيث يسعى هؤلاء إلى تهميش ما يمكنهم تهميشه ومن يفلت من قبضاتهم يحاولون بكل السبل طيّه تحت عباءاتهم، مثلا من خلال تكريسه إلى حدّ شرائه وإفراغه من كل نفَس مبدع متمرد على كل ما هو سائد وسلطوي.
أيام قرطاج
انعقدت أواخر سنة 2015 بتونس الدورة 17 من أيام قرطاج المسرحية من 16 إلى 24 أكتوبر، وإثرها التأمت الدورة 26 من أيام قرطاج السينمائية من 21 إلى غاية 28 نوفمبر الماضي.
انتقد الكثير من المثقفين والمسرحيين سوء تنظيم الأيام المسرحية، التي كانت ميزتها هذه السنة الارتجال ونرجسية المدير الذي فشل في إدارة الأيام إذ لم يكن مطلعا على المشهد المسرحي التونسي أو فاهما لخفاياه، ثم من ناحية أخرى ساهم حجب الجوائز في تراجع مستوى العروض المقدمة والتي انحدرت بشكل مفزع من عروض عالمية إلى عروض هواة، ما يجعل مهرجانا بقيمة وعمر قرطاج للمسرح مرتبكا لم ينحُ نحو ما سبق ولم يستشرف المستقبل.
أما أيام قرطاج السينمائية فإن تميزت بحسن التنظيم، فإنها أثارت هي الأخرى حفيظة المثقفين ومتابعيها، إذ مثلت مجرد تظاهرة سنوية مناسبتية لا تواصل لها ولأعمالها مع واقعها وبيئتها ولا أساسات واضحة لها. ولكن من الممكن لهذه الأيام أن تتطور أكثر نظرا إلى أن هناك سعيا من القائمين عليها لتحسين العمل خاصة في مسألة التنظيم التي كانت جيدة في هذه الدورة.
|
وما يحسب لهذه الدورة أنها استمرت رغم الحادث الإرهابي الأليم الذي هز العاصمة تونس بتفجير انتحاري لحافلة تابعة للأمن الرئاسي وفرض حظر التجول بالعاصمة تونس، لكن الأيام تواصلت بتعديل في أوقات العروض وكان الإقبال كثيفا رغم الصعوبات، وهذا فعلا خير دليل على أن الثقافة هي الصمام الأول وخط الدفاع الأقوى ضد الإرهاب وتبعاته. ومن الممكن لهذه الأيام أن تتطور بتعويلها خاصة على الشباب وتشريكهم في التنظيم والعمل على خلق بدائل من أجل مواكبة حركة الزمن والحضارة.
من أجل الحياة
شهدت مختلف جهات الجمهورية التونسية إقامة تظاهرة “مبدعون من أجل الحياة” التي نظمتها وزارة الثقافة التونسية في مختلف مندوبياتها ودور الثقافة والمكتبات العمومية بكافة أنحاء الجمهورية، وإن كانت البادرة طيبة في تشريك كل المبدعين من مسرحيين وأدباء وشعراء ورسامين وموسيقيين ونعتبرها محاولة خلق جسر تواصل بينهم وبين الأجيال الناشئة من خلال إقامة ورشات للإبداع في كل صنوفه ولخلق قنوات تواصل بين المبدعين وإبداعاتهم وجهاتهم وبيئاتهم وشوارعهم، ولقد أقيم الاختتام أواخر شهر نوفمبر بحفلات جهوية متفرقة قدم خلالها عمل الورشات واحتفاليات شاملة.
لكن وإن نؤكد على أن النية كانت طيبة من وزارة الثقافة التونسية إلا أن الإنجاز كان هزيلا، إذ تميزت هذه التظاهرة بالولاءات والصداقات وعدم رسم أهداف واضحة والعمل على تطبيقها، فبقيت كالعادة مجرد ديكورات وظواهر صوتية عابرة، تنسى ما إن توزع الأموال التي صرفت كمكافآت، ثم ما نلاحظه أيضا هو العمل بنفس العقلية، عقلية اقتسام الكعكة، ولا يهمّ من بعد ذلك أن نأخذ صورا لهذه التظاهرات إن نجحت أو فشلت ولا تهمّ أهدافها العميقة، ما يهمّ فقط هو الأخذ من هنا وهناك وإرضاء هذا وإرضاء ذاك، أما العمق ففارغ لا شيء فيه.
الخروج من الديكور
ما ميز سنة 2015 في تونس عامة هي العمليات الإرهابية التي ضربت بقوة متحف باردو ومنتجعا سياحيا في سوسة وكذلك عملية تفجير حافلة الأمن الرئاسي بتونس العاصمة، هذا إضافة إلى أحداث أخرى متفرقة بين محافظات القصرين وسيدي بوزيد وغيرهما.
رغم وفرة المبدعين التونسيين فإنهم لا يجدون لهم مكانة في بلدهم تونس، بل هم منسيون، وأبواب الوزارة الفولاذية العالية مغلقة في وجوههم
ثم من ناحية أخرى تهميش وزارة الثقافة السلطة المشرفة على الثقافة في تونس للكتّاب وخاصة الشباب منهم، فيبقون على هامش القرار الثقافي وبعيدا عن التأسيس للأفضل والتجاوز للواقع الثقافي الصعب، ورغم وفرة المبدعين التونسيين فإنهم لا يجدون لهم مكانة في بلدهم تونس، بل هم منسيون، وأبواب الوزارة الفولاذية العالية مغلقة في وجوههم، ثم الوزيرة وسلطة إشراف لا تماسّ لهما مع الشارع ولا علم لهما مطلقا بالمشهد الإبداعي، فحبيس المكاتب لا يمكنه أن يساهم في الإصلاح، الأمر الذي قلّص طموحات المثقف التونسي من ثورة ثقافية إلى إصلاح ولو جزئي لكن هذا لا يحدث، بل نرى العكس ينفذ بنفس الأساليب القديمة.
من ناحية أخرى تمثل الاتحادات وعلى رأسها اتحاد الكتاب التونسيين أطرا قانونية تدافع عن المبدع والكاتب، لكنها مازالت ترزح تحت يد نفس من نفخ الحزب المنحل في أسمائهم وأغلبهم لا إنتاج أدبيا له، وكان دورهم رهين دور البوليس الثقافي وهذا ما جعل الكتّاب والمبدعين الشباب خاصة يبتعدون عن الانخراط فيها بينما هي تحتكر المؤسسات الرسمية وتضيّق عليهم حتى وهم مختارون للشارع بديلا عن الحجرات التي تملؤها الرطوبة.
ويبقى الحال على ما هو عليه، ثقافة عرجاء في بلد يعاني من الصعوبات السياسية والاقتصادية ويحارب الإرهاب فقط بإمكانياته البشرية. لذلك هي دعوة يشترك فيها الجميع دعوة لإصلاح الواقع الثقافي التونسي اليوم بجدية، والنزول من المكاتب المغلقة وتغيير أساليب العمل من أجل الإصلاح في العمق.
اقرأ أيضا:
◄نواصل انتظار إنسان تونسي
◄لهم شأنهم ولي شأني
◄الحكومي والإسلاموي والوطني
◄الشباب والاختلاف عن السائد
◄ ألا تموت مذبوحا
◄إحدى الحسنيين