"خليها تعنّس" حملة كشفت اختلال مفاهيم الأسرة في مصر

كشفت حملة إلكترونية تنتقد مغالاة أسر الفتيات في المهور بمصر عن اختلال مفهوم الأسرة في المجتمع وجهل ثقافة الشباب بدور الجنسين في الزواج، وترسخ النظرة الدونية لطبيعة دور المرأة المجتمعي بتشبيهها بالسلعة الراكدة التي تنتظر المشتري.
القاهرة - يشهد المجتمع المصري سجالا بين الرجال والنساء على وقع حملة إلكترونية تحمل عنوان “خليها تعنس” كان هدفها الأساسي انتقاد مغالاة أسر الفتيات في المطالب المالية لإتمام الزواج قبل أن تتحول إلى معركة على مواقع التواصل الاجتماعي كشفت شروخا في مفهوم الشباب للزواج وترسخ النظرة الدونية للمرأة كسلعة سريعة التلف معرضة “للبوار” حال عدم وصولها إلى مستهلكها.
التفاعل السريع مع الحملة وتدشين أخرى مقابلة بعنوان “خليك في حضن أمك”، دفع علماء الاجتماع إلى التحذير من لغة الحوار المستجدة بين العنصريين الأساسيين لأي مجتمع بعد اقترابها من الردح. فالعناوين المسيئة كان يمكن استبدالها بـ”معا لمواجهة ارتفاع أعباء الزواج” أو “معا نبني أسر سعيدة”. ووصل بالبعض إلى المطالبة بقانون يجرم الترويج لأي حملات تنفر من الزواج أو تتضمن إساءات نفسية لفئات عمرية حالت ظروفها الاقتصادية من بناء أسر.
وتنبع تلك المخاوف ربما من الربط بين تأخر الزواج وانحرافات قانونية وأخلاقية تعتري المجتمع من زيادة معدلات الانحراف الجنسي والعلاقات غير الشرعية والتي يدخل فيها الزواج السري والعرفي وارتفاع معدلات الاغتصاب التي انضمت إليها أخيرا حالات زنا المحارم والاعتداءات في نطاق الأسرة الواحدة، ما يجعلها منبعا محتملا للانحراف المجتمعي ككل.
وأكد محمد المصري مُطلق حملة “خليها تعنس”، في حديث للفضائيات المصرية أكثر من مرة، أنه لم يقصد إهانة الفتاة المصرية، وإنما كان يعبر عن انتقاده للأسر التي تغالي في المهور، ما فسره البعض بتراجع شخصي عن موقفه السابق. واعتبر آخرون أن هدفه الأساسي كان مجرد محاولة للفت الأنظار وتحقيق شهرة عبر الغوص في مشكلة اجتماعية معقدة.
وتجاوزت “خليها تعنس” هدفها مع استفاضة أبناء كل جنس في الهجوم على مفهوم الأسرة كمنظومة اجتماعية، ليعتبر الذكور الزواج سجنا يقلص حرية الرجل في الخروج وتمضية وقت مع الأصدقاء ومحاصرته بمتطلبات مالية لا تنتهي، وترد الإناث بأنهن يفقدن الراحة ويتحولن إلى خادمات لإعداد الطعام وغسل الملابس وتربية أبناء دون مشاركة من الزوج، ليظهر غياب الثقافة المجتمعية التي تحدد طبيعة أدوار كل طرف وتعطي كل منهما قدرا من الحرية يسمح بالتحرك.
احتقان مجتمعي
ويزيد عنوان الحملة من حالة الاحتقان النوعي لاستنساخها على غرار حملات أخرى تتعلق بالسلع، مثل “خليها تصدي” التي انطلقت مطلع العام الحالي احتجاجا على رفع وكلاء السيارات أسعارها، و”خليها تعفن” ردا على زيادة التجار أسعار الخضروات والفاكهة، “وخليها في المصنع” التي تم تدشينها لمواجهة الزيادة المستمرة في أسعار السجائر التي تحتكرها شركة حكومية.
تظهر تلك الحملات انفصاما في مجتمع يحمل نظرة دونية للمرأة بأن وظيفتها الأساسية بيت زوجها مهما كان تعليمها أو عملها تحاشيا لحمل كلمتي “عانس” أو “بايرة” والأخيرة كلمة عامية يتم إطلاقها على البضاعة حال اقتراب صلاحيتها من الانتهاء دون مشتر.
ويقول عماد الدسوقي، موظف بإحدى الهيئات الحكومية في القاهرة (41 عاما) إنه لم يشعر بنظرة مغايرة من جانب الناس لكونه غير متزوج سواء في مجتمع المدينة الذي يعمل به أو حين عودته إلى بلدته الريفية في الإجازات، لكنه يؤكد أن الأمر يتحول إلى العكس تماما مع الإناث.
ويعتبر جهاز التعبئة والإحصاء الحكومي بمصر كل من تجاوز 35 من عمره سواء كان ذكرا أو أنثى في مرحلة العنوسة، ليكشف في تقرير حديث له أن عدد الإناث اللاتي لم يتزوجن بداية من الخامسة والثلاثين فأكثر 472 ألفا بنهاية عام 2017 بنسبة 3.3 بالمئة من إجمالي عدد الإناث في تلك الفئة العمرية، مقابل 687 ألفا من الذكور بنسبة 4.5 بالمئة من إجمالي عددهم بتلك الفئة.
يضيف الدسوقي لـ”العرب” أنه في بعض الأحيان قد يتعرض الرجل العانس للسخرية بالتشكيك في قدرته الجنسية من بعض أصدقائه أو زملاء العمل، غير أنه سرعان ما يدفع ذلك مدللا بعلاقات نسائية لا يخجل من إعلانها.
ووفقا للتقرير الحكومي فإن نسبة العنوسة ترتفع بين الطرفين في الحضر أكثر من الريف بسبب ارتفاع تكاليف الزواج في المدن مقارنة بالقرى، لكنها تبدو ملتصقة أكثر باختلاف نظرة المجتمع فالمرأة الريفية غير المتزوجة يتم اعتبارها “إساءة” للعائلة برمتها، بينما يقل الأمر كثيرا في المجتمع الحضري خاصة إن كانت المرأة متعلمة ولديها عمل.
وتقول حنان.م، موظفة بإحدى الشركات الخاصة بالقاهرة (40 عاما)، إن “خليها تعنس” تعبر عن مغالاة حقيقية لدى الكثير من الأسر في تجهيزات الزواج، والتي لا تتناسب مع طبيعة المجتمع المصري وظروفه، فبعض الأهالي يصرون أن يكون مؤخر الصداق مبلغا ضخما، ما يثير الخوف لدى المتقدمين لزواج بناتهم حال حدوث مشكلات تنتهي بالطلاق.
وزاد من حالة الجدل المجتمعية استثمارها سياسيا باتهام تيارات الإسلام السياسي الحكومة باستثمارها كحل لتقليل الإنجاب، ودخول المتشددين على الخط بتقديم حلولهم الجاهزة بتغيير ثقافة الفتيات في استكمال تعليمهن الجامعي الذي يؤخر الارتباط وتشجيع تعدد الزوجات للقادرين ماليا، ومطالبة مؤيدي الاشتراكية بوقف سياسات الخصخصة وعودة الدولة إلى دورها في الإنتاج وتعيين الشباب.
وتصر الكثير من الأسر أن تتزوج بناتها في شقق بنظام التمليك بدلا من العقارات المستأجرة خوفا من عدم قدرة الزوج مستقبلا على دفع قيمة الإيجار وطرده وزوجته، لكنه مطلب صعب في ظل ارتفاع أسعار الوحدات السكنية بمصر وتجاوز أسعار الكثير منها حاجز المليون جنيه (56 ألف دولار).
تشوه ديني
يرى علماء اجتماع أن التدين الشعبي السائد بمصر، والذي ازدهر في ظل ضعف وتشوه الخطاب الديني الرسمي ساهم في تحقير النظرة للمرأة غير المتزوجة، واعتبار مهمتها الأولى هي الزواج والإنجاب، فلا يزال البعض يعتبر المرأة عورة بداية في جسدها وصوتها، وأنها يجب أن تتوارى خلف برقع لا يظهر منها سوى عينيها، وأحيانا تفقد حتى هويتها كأنثى بمخاطبتها باسم نجلها الأكبر.
ويقول فؤاد السعيد، أستاذ علم الاجتماع السياسي بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية بالقاهرة، إن نظرة تحقير المرأة غير المتزوجة تمثل آفة موروثة تتسع مع الوقت نتيجة تنامي التدين الشعبي الذي هو خليط غريب بين أفكار بدوية وقبائلية متوارثة، ونصوص دينية موظفة لتعميق تلك النظرة.
ورغم أن كلمة “عانس” في اللغة والعلوم الإنسانية الأكاديمية تطلق على الرجل والمرأة بنفس القدر، ورغم عدم اعتبارها سبة في الكثير من المجتمعات المتحضرة، إلا أن الثقافة الشعبية في مصر لا تساوي بين الطرفين، فالرجل لديه الحرية الكاملة في الإضراب عن الزواج والنقيض مع المرأة غير المتزوجة التي يتم توصيفها ككائن ناقص.
وأكد السعيد لـ”العرب” أنه لا توجد مشكلة في نصوص القرآن وتعاليم الإسلام، وإنما المشكلة في الدين الذي اخترعه المجتمع ويوظف نصوصا لخدمة أعراف سائدة لديه، فغلبة الفكر الذكوري ساهمت في ترسيخ ما أشاعه التدين الشعبي باعتباره دينا وتحاول بعض النساء اللائي أثبتن للمجتمع نجاحهن في لعب أدوار بارزة، خاصة بالحضر مواجهة تلك المشكلة لكنها محاولات لا تزال فردية.
وتلقي كلمة العانس بتبعات نفسية كبيرة على الفتيات فتجعلهن أحيانا منعزلات لتحاشي سؤال متكرر من الصديقات وكبار السن “هل يوجد مشروع قريب للارتباط؟ هل توجد علاقة في الطريق؟”، وتلاحقها التساؤلات مع أي محاولة لتغيير مظهرها الخارجي لترتبط إما بمحاولة للفت أنظار زوج محتمل وأحيانا الوصول إلى أخطر اتهام يمكن أن تصادفه بوجود علاقة سرية.
خيري حسين الناقد الفني يرى أن الدراما والسينما تلعبان دورا كبيرا في المجتمع الذي يتلقى ثقافته من رافدين اثنين، إما عبر الشاشة وإما من خلال وعاظ وشيوخ المساجد، وكلاهما يحمل نظرة دونية تجاه المرأة التي فاتها الزواج
يقول وليد هندي، استشاري الطب النفسي، “إن كلمة عانس تسبب إيذاء لمشاعر الأسرة كلها، فالفتاة تتعرض للإصابة بالقلق والتوتر والخوف والأب والأم يصيبهما الإحباط، وقد يصل الأمر إلى مرحلة الاكتئاب الحاد، فتناول المشكلات الإنسانية يحتاج إلى لغة مؤدبة دون استخدام مصطلحات مسيئة تنال من أصحابها وتصدر المشاعر السلبية لهم وتشعرهم بالدونية والنقص”.
ويضيف هندي أن المغالاة في المهور وتكاليف الزواج المرتفعة ليستا السببين الوحيدين للعنوسة، التي تتضمن أسبابا نفسية واجتماعية أخرى.
ورغم قيام نساء ناشطات على مواقع التواصل الاجتماعي بحملة “خليك جنب أمك” ليؤكدن عدم حاجة النساء إلى الزواج من رجال لا يقدرون المعنى الحقيقي له، وغير قادرين على تحمل مسؤولية بناء أسرة والإنفاق على الأبناء، إلا أن بعض النساء رفضن المجادلات النوعية واعتبرن القضية برمتها قضية هزلية لا تستحق الرد.
ووقفت بعض السيدات في صفوف الرجال في الحملة التي دشنوها ورأين ضرورة البحث وراء تطرف بعض الشباب في ما يخص الزواج، معترفات بوجود أزمة حقيقية، ليؤكدن أن القضية ليست نصرة جنس على آخر.
وتقول دعاء سليط، الخبيرة في مواقع التواصل، لـ”العرب” إن تجاوب بعض الشباب مع الحملة جاء تعبيرا عن سمة بارزة في المجتمع الافتراضي تتمثل في الانتباه بشكل أكبر للدعوات التافهة خاصة إن كانت تتشابه مع حملات أخرى تلقى اهتمام الناس مثل حملة الامتناع عن شراء السيارات، معتبرة أن المجتمع تلقى هذه الحملة باستهجان ورفضها.
صورة راسخة

ويرى علماء اجتماع ونقاد فنيون أن الثقافة المرئية كأفلام السينما والمسلسلات رسخت فكرة الخجل من عنوسة المرأة، فمن فاتها قطار الزواج تظهر في صورة كاريكاتورية بوهيمية باعثة على السخرية بفتاة تبحث عن شخص بصرف النظر عن مؤهلاته أو مزاياه أو حتى شكله وعمله.
ربما يمكن استقراء تلك الصورة من خلال الدور الذي لعبته الفنانة زينات صدقي في فيلم “ابن حميدو” لأحمد رمزي وإسماعيل ياسين وتوفيق الدقن، وإخراج فطين عبدالوهاب من إنتاج 1957 أو دور الفنانة سناء يونس في مسرحية “سُك على بناتك” بطولة فؤاد المهندس، وشريهان إنتاج سنة 1980، وحتى في السنوات الأخيرة لم تتغير الصورة كمسلسل “عاوزة أتجوز” للفنانة هند صبري من إخراج رامي إمام وإنتاج 2010.
ويقول خيري حسن، الناقد الفني، إن معظم أعمال السينما والدراما تظهر المرأة التي تتجاوز الثلاثين عاما دون زواج بشكل مسيء، فهي إما قبيحة منفرة، وإما تعاني من اضطراب عقلي. ساهمت تلك الصورة في الانطباعات الأولية التي يتلقاها أي شاب عن فتاة تجاوزت الثلاثين.
وأضاف حسن لـ”العرب”، “الدراما والسينما تلعبان دورا كبيرا في المجتمع الذي يتلقى ثقافته من رافدين اثنين، إما عبر الشاشة وإما من خلال وعاظ وشيوخ المساجد، وكلاهما يحمل نظرة دونية تجاه المرأة التي فاتها الزواج.