خط الثلث الجلي يتلألأ ذهبًا على ثوب الكعبة

كسوة الكعبة تظل رسالة غير منطوقة، تُرسلها المملكة سنويًا إلى العالم الإسلامي، بأن العناية بالكعبة ليست مسألة شكل، بل عقيدة، وهوية.
الخميس 2025/06/05
صورة بصرية تتجلى فيها جماليات الخط العربي

تحمل كسوة الكعبة المشرفة أبعادًا روحية وفنية سامية، تمزج بين جلال المكان وروعة الخط العربي، الذي يُطرز ومن خيوط الذهب والفضة على حرير أسود فاخر، تُنسج لوحة تتجسد فيها قدسية القبلة ومركزية الشعيرة.

منى (السعودية) ـ  يحيط كسوةَ الكعبة المشرفة حزامٌ مزدان بخط الثلث، متناسقة في تصميم هندسي رائع يعكس انتظام خطوات الطائفين حولها، لتصبح الكسوة رمزًا بصريًا يعبر عن الركن الخامس من أركان الإسلام، جامعةً بين قدسية الشعائر وإبداع الصنعة.

وتنساب الآيات القرآنية الكريمة بخيوط من الذهب والفضة، على نسيج الكعبة المنسوج من الحرير الخالص، فتزهو بخط الثلث الجلي المركب، الذي اختير لدلالات الوقار والانضباط التي يحملها، لتُوازي قدسية المكان، وتليق بمقام الشعيرة، في صورة بصرية تتجلى فيها جماليات الخط العربي.

وأوضح الخطاط عبدالرحمن المالكي، من مجمع الملك عبدالعزيز لكسوة الكعبة المشرفة لوكالة الأنباء السعودية، أن اختيار خط الثلث يتجاوز حد الزخرفة، ليختزل أكبر عدد من الكلمات في مساحة ضيقة، كما تفعل الحشود في طوافها حول البيت العتيق.

ويُطل خط الثلث على كسوة الكعبة، عبر صناعة خاصة تمنحه الحياة، وتعمل أيادٍ سعودية بإتقان، خلف كل خيط وكل غرزة وكل قطعة من فضة وذهب، فيشارك 159 سعوديًا بين حائك ومُطرّز في عمل منضبط، يشبه خلية النحل، في بيئة لا تعرف الفوضى، وبدقة تُقاس بالملليمتر، وإتقان يُحتذى به.

ويشهد مجمع الملك عبدالعزيز لكسوة الكعبة المشرفة، مراحل صناعة الثوب الاستثنائي، من أجود أنواع الحرير الطبيعي الخالص المستورد من إيطاليا، من حرير صافٍ، يُصبغ بالسواد العميق، ثم يُطرّز بخيوط فضية مطلية بماء الذهب من ألمانيا، حيث تُعد من أفخم الخامات عالميًا، وكذلك بطانة تضم نحو 7400 خيط منسوج بعناية تُجسّد التعقيد البصري والدقة الفنية، وتخدم قيمة دينية سامية.

وتمثل ستارة باب الكعبة، التاج البصري والروحي، وتُغزل التفاصيل الذهبية الأكثر دقة وتُطرّز الكلمات الانتقائية كلفظ الجلالة “الله”، و”سبحان الله وبحمده”، وأيضًا “يا حي يا قيوم”، وغيرها من التسابيح.

Thumbnail

وتتوزع المذهّبات بين الخط والزخرفة، وتُحاط بالحزام المطرز الذي يلتف حول الكعبة من أعلاها، وتتدلى تحته “القناديل” كعلامات للطواف، منها ما كُتب عليه: “الله نور السماوات والأرض”، فيما تُرصّ “الصمديات” في الأركان الأربعة كسور من التوحيد البصري، تُكتب فيها سورة الإخلاص: “قل هو الله أحد، الله الصمد”، بلغة نسيجية دقيقة، وتخضع أعلى نقطة عند الميزاب، لمعالجة خاصة لأنها ذروة الارتفاع والدقة.

ويشمل العمل داخل المجمع، أيضًا الستارة الداخلية للكعبة وستارة الحجرة النبوية، في منظومة إنتاج تتلاقى فيها الدقة الصناعية مع القداسة.

ومع كل موسم تثبت الكسوة صلابتها ورونقها تحت شمس مكة ورياحها وأمطارها، لا لأنها فقط صُمّمت لذلك، بل لأنها صُنعت من خامات استثنائية، بخيوط فاخرة من الحرير والذهب والفضة، تجعل من الثوب تحفة متينة بقدر ما هي مهيبة، وتبلغ تكلفة الكسوة السنوية 25 مليون ريال سعودي، تتكفل بها الدولة ممثلة بخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود، وتُستبدل مرة كل عام بعد موسم الحج، ضمن طقوس إدارية وروحية تراكمت خبرتها لأكثر من 100 عام من الإشراف السعودي المباشر.

وتظل كسوة الكعبة رسالة غير منطوقة، تُرسلها المملكة سنويًا إلى العالم الإسلامي، بأن العناية بالكعبة ليست مسألة شكل، بل عقيدة، وهوية، والتزام يزداد رسوخًا ولا يضعف مع الزمن.

يُشار إلى أن رفع ثوب الكعبة في موسم الحج، والذي يُعرف باسم “تشميـر الكعبة” أو كما يسمّيه العامة “إحرام الكعبة”، ليس عبادة بحد ذاته، بل يُؤدى لاعتبارات وحِكم تختلف باختلاف العصور. ففي الأزمنة القديمة، كان رفع الكسوة يُعد بمثابة إعلان عن قرب موسم الحج، ودلالة واضحة على دخول وقت هذه الشعيرة العظيمة واستعداد مكة المكرمة لاستقبال ضيوف الرحمن القادمين من شتى بقاع الأرض لأداء الركن الخامس من أركان الإسلام.

كما كان رفع الكسوة يُساهم في حماية ثوب الكعبة من التمزق أو التلف أو الاتساخ نتيجة الازدحام الشديد. ومع مرور الزمن، أصبح هذا العمل تقليدًا سنويًا ثابتًا، يحظى بعناية واهتمام كبيرين من قِبل الحكام المسلمين، ويتم رفع الثوب قبل بدء موسم الحج بمدة كافية لهذا الغرض. ومن بين أهدافه أيضًا منع بعض الحجاج أو الزوار من محاولة اقتطاع جزء من الكسوة بغرض الاحتفاظ بها كتذكار أو طلبًا للبركة.

18