خطة الدولة لقهر جماعات الضغط في مصر

الدولة المصرية نجحت في تفكيك الجماعات الإرهابية ونفوذ الإخوان والسلفيين، والآن تجد نفسها وجها لوجه مع لوبيات مدنية متمركزة في مواقع متعددة، وهي تعمل على تطويقها ثم القضاء عليها. لكن فكرة قهر اللوبيات مطلقا قد تكون مخيبة للآمال بأن تدفع إلى خلق لوبيات جديدة ردا على ضغوط الدولة.
في كل الدول توجد جماعات ضغط (لوبي) تدافع عن مصالحها بطرق مختلفة، وورث النظام المصري الحالي مجموعات كثيرة من هذه النوعية في المجالات السياسية والاقتصادية والأمنية والرياضية والإعلامية والثقافية والمجتمعية والتفريعات الناجمة عن كل منها، وعمل مبكرا على تقويض أجنحتها وتحمل تكاليف الارتباكات كي تكون يد الدولة هي الأعلى.
هذا تفسير واقعي لما يحدث في مصر من معارك خفية، حيث قررت الدولة التخلص من اللوبيات المدنية التي تشكلت خلال العقود الماضية واتخذت لنفسها منهجا ثابتا في التعامل مع روافدها حتى تصل في النهاية إلى إحكام القبضة على الجميع.
يمكن أن تكون لهذه السياسة ارتدادات قاتمة، فعندما قررت القاهرة كسر جماعات الضغط وعدم التهاون مع أجنحتها الممتدة كان الجيش المصري هو رأس الحربة والأداة القوية في هذه المعركة الطويلة، وقد تكون هذه المواجهة مكلفة لاحقا إذا شعر المواطنون أن الجيش بات مردفا لكل أجهزة الدولة.
من المهم أن تكون أجهزة الدولة فوق الجميع، ومن الضروري ألا تكون هناك أذرع تنال من هيبتها، ومن الواجب أن يتم تطبيق العدل والقانون، خاصة أن الدولة المصرية واجهت مرحلة خطيرة من الفوضى عقب مرورها بثورتين شعبيتين خلال فترة وجيزة، خلّفتا الكثير من الأمراض السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وكان لزاما على أيّ نظام وطني وضع حد لها قبل أن تزداد الأمور تعقيدا.
تم التعامل مع الأحزاب السياسية بصورة تنهي الفوضى في انتشارها، ففي مصر أكثر من مئة حزب يصعب على المرء معرفة خمسة منها وطبيعة الأدوار التي تقوم بها وحجم تأثيرها الحقيقي من دون أن يتم تقنين عمل الأحزاب وتهيئة المجال لتمارس دورها بطريقة سليمة، حيث فتحت عملية إنهاء الفوضى المجال لخنق الأحزاب ووضع العشرات منها في غرفة العناية الفائقة وتحقق القهر بلا تصحيح لأوضاعها.
كان القهر مهمّا في حالة القضاء على الجماعات الإرهابية التي تمركز غالبيتها في منطقة سيناء لفترة طويلة، وهددت في وقت من الأوقات هيبة الدولة وصلابتها وبدت عدم مواجهتها نيلا من إرادة الدولة نفسها، حتى تمكن الجيش المصري من إنهاء انتشار ظاهرة بؤر المتطرفين في سيناء، وعدّ القهر إيجابيا تماما.
اقتربت الدولة من المجال الاقتصادي لإنهاء تحكم بعض رجال الأعمال في مفاصله الرئيسية في التصدير والاستيراد وخلافه، والتخلص من سطوة جماعة الإخوان على سوق العقارات وتجارة العملة وبعض السلع الغذائية، وتمت مواجهة كل هؤلاء على دفعات متدرجة، وأخذ نفوذهم في التلاشي، وقدرتهم على الاحتكار تتراجع.
بدأ هذا القهر جيدا، غير أن نتيجته يمكن ألا تكون كذلك على المدى البعيد، فحتى الآن لم تتم تهيئة الأجواء المناسبة أمام القطاع الخاص النظيف ليحل مكان نظيره غير الشريف، وهي خطوة إذا نجحت الدولة في تطبيقها سوف تجني من ورائها مكاسب كبيرة في مجال تشجيع دعم الاقتصاد وجذب الاستثمارات.
المشكلة أن نتيجة القهر صبّت في صالح الشركات التابعة للمؤسسة العسكرية عن قصد أو دونه، وهو ما يؤدي إلى زيادة الضغوط الخارجية والداخلية، ويمكن أن تحرج النظام المصري الراغب في التخلص من جماعات الضغط بأنواعها المتباينة.
يقود مد الخيط على استقامته إلى النقابات المهنية والجمعيات الأهلية والأندية الرياضية والإعلام والثقافة والفن، والتي نجحت في امتلاك أدوات مستقلة بذاتها فاقت أهميتها سلطة بعض الأجهزة الرسمية، وتحولت إلى ما يشبه سلطة فوق السلطة.
استلزم هذا التضخم مواجهة عاجلة من الدولة، فتم تجفيف الدور السياسي للنقابات واختراقها بصورة أدت إلى كتم صوتها السلبي والإيجابي أيضا، وهي الأزمة التي يجب إيجاد حل لها، لأن سياسة القهر تقتصر على العيوب فقط وليس المزايا.
تمكنت الدولة من تجفيف منابع الإخوان والسلفيين التي هيمنت على عدد كبير من الجمعيات الأهلية أو ما تسمى بالخيرية في مصر، وأنهت ظاهرة خطيرة نخرت المجتمع ومكنتها من الوصول إلى قاعه من خلال تقديم مساعدات لها أغراض سياسية، كانت تظهر في أوقات الانتخابات وتخدم أشخاصا وقوى معينة.
أوجدت الدولة أدواتها البديلة في شكل برامج مختلفة للحماية الاجتماعية نجحت في تقديم الدعم للفقراء بما يحد من تداعيات الأزمة الاقتصادية على شريحة كبيرة، لكن هذه الحصيلة التي يمكن أن تتمخض عن هذه السياسة لن تصب في صالح الدولة.
ففي أحد جوانبها تؤدي إلى الاتكالية وتهبط بشريحة من الطبقة الوسطى لا تجد دعما وتشجيعا نوعيا إلى الطبقة الفقيرة، بدلا من العكس، وهي من النتائج التي تضعف مناعة المجتمع في المستقبل، وتقلل من ديناميكيته في التعاطي مع التحولات الجديدة.
احتار الكثيرون في تفسير إصرار الدولة على منع حضور جمهور كرة القدم إلى الملاعب، وعندما سمحت بذلك وافقت على حضور بضعة آلاف، تم الاتفاق على وضعهم خلف حارسي مرمى الفريقين المتنافسين، في محاولة لقهر جمهور الألتراس التابع لنادي الأهلي والزمالك، وهما من أكبر الفرق التي تحظى بشعبية طاغية في مصر.
لا تعكس قلة عدد الجمهور مخاوف أمنية، فقد استضافت الملاعب المصرية الكثير من المسابقات القارية والدولية وكانت المدرجات مليئة بالجمهور عن آخرها، ولذلك فالعبرة المستفادة من ندرة الجماهير في المسابقات المحلية هي كسر أنف هؤلاء، حيث مثلوا سابقا قوة ضغط كبيرة على الدولة جعلتها تتسامح مع الألتراس ووجدت أن هذه الطريقة وسيلة للضغط على جماهير تعتقد أنها قادرة على فرض إرادتها على الدولة.
الدولة قررت التخلص من اللوبيات المدنية التي تشكلت خلال العقود الماضية واتخذت لنفسها منهجا ثابتا في التعامل مع روافدها حتى تصل في النهاية إلى إحكام القبضة على الجميع
هناك نماذج كثيرة يمكن الاستناد إليها للتدليل على فكرة قهر جماعات الضغط في مصر خلال الفترة الماضية في الثقافة والإعلام والفن وسردياتها عديدة، واستخدمت فيها الكثير من الأدوات لتصفية حسابات مع جهات تضخم دورها بما مس هيبة الدولة، بعد أن تحولت إلى قوة باتت عملية مواجهتها غاية في الصعوبة.
ولذلك جاءت سياسة القهر والتقويض والتقليص حاسمة، لأن النظام المصري يبدو غير مستعد لتقديم تنازلات تحت وابل من الابتزاز الذي تقوم به بعض الجهات.
تأتي الخطورة من التمادي في قهر كل الجماعات بلا تفرقة بينها، بما ينال من السيء والحسن منها، وهي تطبيق عملي لشعار قديم تداوله المصريون ممن أدوا خدمتهم العسكرية في جيش بلدهم قال “الحسنة تخصّ والسيئة تعمّ”، ففي أول أيام التجنيد يتلقى الجندي تعليمات لتأكيد الانضباط أن الحياة العسكرية مختلفة عن المدنية.
تحتاج سياسة القهر إلى إعادة النظر فيها، لأن الحصيلة التي سوف تفضي إليها في حالة التعميم المطلق لتحقيق هدف معين يمكن أن تكون مخيبة لآمال الدولة، فالتخلص من اللوبيات مسألة مهمة شريطة عدم خلق لوبيات أخرى، وعدم الإضرار بالنسيج العام للمجتمع والنيل من مقدراته المتعددة والتأثير على قواه الحية ممثلة في الأحزاب والنقابات والمجتمع المدني والرياضة والثقافة والإعلام والفن.