حين تكون الصحافة تأريخك

كنت أقرأ خلال نصف قرن مضى كل ما يقع بيدي، أذهب متسللاً لمكتبة قريبة فيها نفائس الكتب من قصص وروايات وحكايات تمنحني دفء العزلة والتأمل، لكن أدركت بعدها أن الشارع أكبر معلّم حين تكون لك عين فاحصة تلتقط الصور وتحللها وتحيلها إلى جوف ذاكرة زاخرة بالمعاني مدربة على تفسير ما وراء الصور والمشاهد.
كانت رحلة التعلم زاخرة بالتأمل، فالدراسة الثانوية كانت اختباراً لتوجهاتك في التخصص المبكر، دخلت الدراسة العلمية وتهت في فصول الفيزياء والكيمياء والرياضيات، لكن العربية ظلت شغفي الأول، حتى قادتني إلى كلية الآداب العالم الفسيح في تخصص الإعلام وفنون الصحافة ومزاوجتها بالنشر الذي تراه كل يوم يتداول في صحف ومجلاته ودورياته ذلك الزمن المقفل على أربع صحف يومية.
كانت الصحافة درساً أخلاقياً خلاقاً تعلمت منها أن الحياة في بعض المواقف الحاسمة تتطلب منك حلولاً فردية كما هي الكتابة عمل إبداعي فردي، لأن الحل الجمعي صعب المنال ويظل مجرد تمنيات في عالم لا يكوى بحروب طاحنة فرضت عليك تعلم كيف تودع الشهداء مِن حارتك المغطاة بلافتات سوداء توحدها جملة “الشهيد البطل” كانت سياقا يوميا يرافق توقك لحياة فيها بقايا أصدقاء بأثواب بيضاء.
أما العمل التلفزيوني فهو مغامرة مرئية أمضيت فيها أكثر من عشرين سنة مراسلاً منتجا محرراً، أكتب للصورة في أهم مؤسسة عربية أولى منحتني منصة هائلة لمعرفة العالم وكيف تخطو لتسير في شوارع السياسة الخطرة وألاعيبها.
درساً واحدا سمعته من كبارها حياتك أهم بكثير من أن تعّرضها للخطر أمام إنجاز تقرير يمكن أن يُعوض وكنت أوصي زملائي بذلك دوما، لكن الظروف الكونيةً كانت تضع الجميع قاب قوسين أو أدنى من الموت حتى فقدنا إخوة أعزاء بكينا عليهم، لكن الدموع هيهات أن تعيد الموتى.
الصحافة عالم مدهش حين يكون نبيلاً يحمل قضايا إنسانية تسعى لتمجيد الإنسان ومناصرة قضاياه، وفيها أيضاً مجتمع تأمري حين تتداولها أيادٍ لا علاقة لها بثوابتها أغلبها نزلت بمظلات الوساطة والمحسوبيات في غفلة من الزمن لتتسبب بكل تلك الكوارث التي نراها في عالم “صاحبة الجلالة” التي قد تتحول للأسف إلى “صاحبة الزبالة” في مواسم الخراب والتبعيات والموت المجاني في شوارع مختلة القيم تحكمها العصابات بمسميات لا تحصى.
تدرك في مهنة المتاعب الحقيقية والنبيلة أن تقرأ كثيراً لتكتب قليلاً سر النجاح في تجدد الأفكار وتخطي الإسراف والإسهال الفكري الذي يعاني منه الكثيرون بهدف إثبات الوجود. لكن الوجود الحقيقي حين تقول كلمة حق لدى سلطان جائر.