حوكمة الهجرة في شمال أفريقيا.. حان الوقت لنهج جديد

يتطلب وضع سياسات وإستراتيجيات وطنية للهجرة قائمة على الحقوق وتنفيذها ورصدها مزيدا من المساءلة والتنسيق بين الجهات الفاعلة في بلدان المنشأ والعبور والمقصد. وتبدو المهمة معقدة في الشمال والجنوب، لكن التحدي لا يزال كما هو ولا تزال الدوافع الرئيسية إلى الهجرة هي العوامل الاجتماعية والاقتصادية.
القاهرة - تقف حوكمة الهجرة في شمال أفريقيا عند مفترق طرق، حيث تواجه ضغوطًا من داخل القارة وخارجها.
وتقع بلدان مثل ليبيا وتونس ومصر في قلب مشهد الهجرة في أفريقيا. ومع ذلك تظل سياساتها متأثرة كثيرا بالمطالب الخارجية والمخاوف الأمنية بدلاً من النهج المتوازن الذي يعطي الأولوية لحقوق الإنسان والتنمية المستدامة.
ويُظهر هذا أولويات مجزأة، وتعاونا إقليميا غير كاف، وأطرا غير متوافقة لا تعالج الأزمة. وفي الوقت نفسه يواجه المهاجرون مخاطر تهدد حياتهم في طريقهم إلى وجهاتهم، وعندما يكونون هناك، ومرة أخرى في الوطن إذا عادوا، لمواجهة ما فروا منه في المقام الأول.
وتُعَد ليبيا مثالاً واضحاً على مخاطر إستراتيجية الهجرة المفرطة على الأمن. فاعتبارًا من فبراير 2024، كان يعيش ما يقرب من 719064 مهاجرًا من 44 جنسية في 100 بلدية، وهي مركز عبور رئيسي لأولئك الذين يحاولون عبور البحر المتوسط.
وتتسم حوكمة الهجرة في ليبيا بمراكز الاحتجاز التي تسيطر عليها الميليشيات، وانتهاكات حقوق الإنسان، والافتقار إلى سياسات متماسكة. وقد ضخت الجهات الفاعلة الدولية، وخاصة الاتحاد الأوروبي، الموارد لدعم خفر السواحل الليبي للحد من الهجرة غير النظامية. ولكن هذا يعامل الهجرة باعتبارها مشكلة حدودية يجب احتواؤها وليست قضية إنسانية وتنموية مركّبة تجب معالجتها.
ومن خلال التركيز على الاحتواء تتجاهل هذه الجهود الأسباب الجذرية للهجرة وتفشل في حماية كرامة المهاجرين وحقوقهم.
وبالنسبة إلى العديد من الناس، فإن طريق وسط البحر المتوسط، الذي يمتد من نقاط المغادرة في شمال أفريقيا مثل ليبيا وتونس إلى جنوب أوروبا، ليس مجرد طريق إلى أوروبا وإنما هو رمز للمخاطر الهائلة التي قد يواجهها المهاجرون من أجل حياة أفضل.
وفي عام 2023 تم الإبلاغ عن وفاة أو فقدان أكثر من 3105 مهاجرين ولاجئين أثناء محاولتهم الوصول إلى أوروبا عبر الطرق الثلاثة للبحر المتوسط (الشرقي والأوسط والغربي)، ما يمثل زيادة عن أكثر من 2500 حالة وفاة موثقة في عام 2022. وشكل طريق وسط البحر المتوسط 61 في المئة من هذه الوفيات.
وتسلط هذه الأرقام الضوء على الحاجة الملحة إلى التحول من الردع إلى الحماية، ومن السيطرة إلى التمكين. إن نموذج حوكمة الهجرة الذي يعطي الأولوية لحقوق الإنسان والتنمية الاجتماعية والاقتصادية ضروري للاستقرار الإقليمي على المدى الطويل.
وتعمل الاتفاقيات الخارجية مع الشركاء الأوروبيين، مثل مذكرة التفاهم بين تونس والاتحاد الأوروبي بشأن التعاون في مجال الهجرة والاتفاقيات الثنائية بين إيطاليا وأوروبا، بشكل فعال على الحد من الهجرة غير النظامية إلى أوروبا. لكنها تأتي غالبًا على حساب أولويات السياسة المحلية والتزامات تونس بموجب أطر الاتحاد الأفريقي، مثل بروتوكول حرية تنقل الأشخاص.
استجابة مصر -تشديد الرقابة على الحدود ومتطلبات التأشيرة- دفعت المزيد من المهاجرين إلى طرق غير نظامية
ويترك عدم وجود إطار وطني للجوء أكثر من 16500 طالب لجوء مسجل في حالة من الغموض القانوني، وعرضة للاستغلال والصعوبات.
وتسلط هذه الإغفالات الضوء على كيف يفشل نهج تونس لحوكمة الهجرة في تحقيق التوازن بين شراكاتها الأوروبية ومسؤولياتها تجاه المهاجرين والتزامها بالتكامل الإقليمي.
ومن خلال التركيز على مراقبة الحدود والتدابير الأمنية التي تحركها المصالح الأوروبية، تخاطر تونس بعزل نفسها عن رؤية الاتحاد الأفريقي لحرية التنقل والتكامل.
ويرى مركز الدراسات الأمنية في تقرير نشره أن الافتقار إلى سياسة محلية متماسكة ليس مجرد فشل في الحكم بل هو فرصة ضائعة لتحويل الهجرة إلى محرك للتنمية.
وتمثل مصر مجموعة مختلفة ولكنها ملحة بنفس القدر من القضايا. وبصفتها وجهة ومركز عبور، تستضيف مصر حوالي تسعة ملايين مهاجر، بما في ذلك الأعداد الكبيرة من سوريا والسودان. وعبر أكثر من 514000 مواطن سوداني إلى مصر في عام 2024، ما أدى إلى إجهاد موارد البلاد وأنظمتها.
ودفعت استجابة مصر -تشديد الرقابة على الحدود ومتطلبات التأشيرة- المزيد من المهاجرين إلى طرق غير نظامية، ما زاد من تعرضهم للاستغلال والأذى.
وفي حين قد تبدو هذه التدابير وكأنها تعالج المخاوف الأمنية الفورية، إلا أنها لا تقدم حلولاً مستدامة يمكن أن تعزز الاستقرار والتنمية الإقليمية.
الافتقار إلى سياسة محلية متماسكة ليس مجرد فشل في الحكم بل هو فرصة ضائعة لتحويل الهجرة إلى محرك للتنمية
ويشكل دور مصر كمركز للهجرة تحديًا وفرصة في الوقت نفسه. ففي حين تواجه ضغوطًا اجتماعية واقتصادية، بما في ذلك البطالة والموارد العامة المحدودة، يجعلها موقعها وعلاقاتها التاريخية مع أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى والشرق الأوسط قائدة محتملة في حوكمة الهجرة الإقليمية. ومع ذلك، فإن تحقيق هذه الإمكانات يتطلب التحول من السياسات التفاعلية إلى الإستراتيجيات الاستباقية التي تعطي الأولوية للهجرة الآمنة والقانونية والمنظمة.
وتظهر هذه الحالات أن حوكمة الهجرة في شمال أفريقيا تعطي الأولوية للمطالب الخارجية على حساب التماسك الداخلي.
وغالبًا ما تركز الاتفاقيات مع الاتحاد الأوروبي على وقف الهجرة عند مصدرها، ما يقوض أطر الاتحاد الأفريقي التي تؤكد على التكامل الإقليمي وتنقّل العمالة وحقوق الإنسان. وتظل هذه الأخيرة غير منفذة بشكل كافٍ، وتعوقها العضويات الإقليمية المتداخلة والأولويات الوطنية المتضاربة.
وعلى سبيل المثال يتناقض اعتماد ليبيا على مراكز الاحتجاز التي تديرها الميليشيات وتركيز تونس على الاستغلال الخارجي مع رؤية الاتحاد الأفريقي للهجرة الآمنة والقانونية.
ولكن بدلاً من التعامل مع الهجرة باعتبارها تهديداً أمنياً، يتعين على دول شمال أفريقيا أن تتبنى سياسات تعترف بفوائدها التنموية.
وعلى سبيل المثال، تتجاوز تحويلات المهاجرين الآن الاستثمار المباشر الأجنبي في العديد من البلدان الأفريقية، ما يدل على إمكانات الهجرة في دفع النمو الاقتصادي. ومن الممكن أن تعمل السياسات التي تعزز المسارات القانونية للهجرة على تعزيز تنقل العمالة، والحد من الهجرة غير النظامية، وتعزيز الاقتصادات الإقليمية. لكن الإصلاحات ضرورية.
تحويلات المهاجرين الآن تتجاوز الاستثمار المباشر الأجنبي في العديد من البلدان الأفريقية
ومن شأن توحيد أطر الهجرة الإقليمية أن يقلل التفتت ويحسن تماسك السياسات. كما أنه من شأن الاستثمار في بناء القدرات لإدارة الهجرة، وخاصة على المستوى المحلي، أن يضمن التنفيذ الفعال للأطر القائمة.
ويتعين على الحكومات أن تدمج حماية حقوق الإنسان في سياسات الهجرة الخاصة بها، والابتعاد عن النهج العقابي مثل الاحتجاز والإعادة القسرية، وبدل ذلك التوجه نحو الرعاية المجتمعية ومسارات التنظيم.
ولا بد أن تتطور اتفاقيات الشراكة الأوروبية لتعكس نهجاً أكثر توازناً يعطي الأولوية للمسؤولية المشتركة.
وعلى سبيل المثال من شأن الاستثمار في مشاريع التنمية التي تعالج الأسباب الجذرية للهجرة، مثل الفقر وتغير المناخ، أن يخلق حلولاً طويلة الأجل تعود بالنفع على كل من شمال أفريقيا وأوروبا. كما يتعين على الاتحاد الأفريقي أن يعزز دوره في تنسيق سياسات الهجرة في مختلف أنحاء أفريقيا.
وبحلول عام 2020 لم تصدق سوى أربع دول من أصل 32 دولة موقعة على بروتوكول حرية التنقل، وهو ما يقل عن العدد المطلوب للتنفيذ وهو 15 دولة. ويعكس هذا التقدم البطيء المخاوف بشأن المخاطر الأمنية والتأثيرات الاقتصادية والسيادة الوطنية.
ويؤدي التداخل بين تفويضات المجتمعات الاقتصادية الإقليمية إلى تزايد التفتت، ما يؤخر الحوكمة المتماسكة.
وفي نهاية المطاف يجب أن تتوافق حوكمة الهجرة في شمال أفريقيا مع الأهداف الإقليمية والعالمية. لكن التحديات هائلة والفرص هائلة أيضا.
ومن خلال إعطاء الأولوية للتعاون والتنمية وحقوق الإنسان، يمكن لشمال أفريقيا تحويل الهجرة من أزمة إلى حافز للاستقرار والنمو.
والسؤال الجدير بالطرح ليس ما إذا كانت المنطقة قادرة على تحمل تكاليف تغيير نهجها، بل ما إذا كانت قادرة على تحمل تكاليف عدم القيام بذلك.