حملة شعبية لترميم "السكاكيني" أغرب قصور القاهرة

نموذج فريد للمعمار الإيطالي من القرن الـ19 يقاوم الاندثار والإهمال، وتماثيل لأسود وحيوانات وأطفال تنتشر على جدران القصر.
الجمعة 2018/10/19
قصر يجذب أنظار المارة والعابرين
يرتبط قصر “السكاكيني” الفريد بأهالي حي الظاهر في وسط القاهرة، وهو يعد رمزا وجدانيا ومعماريا مرهونا بكل مار بميدان الحي الرئيسي، حيث يقطن أجمل وأغرب القصور المصرية، وهو ما أثار الأهالي لتدشين حملات شعبية تطالب بإنقاذ القصر التاريخي من الإهمال، وترميمه للحفاظ على نسقه المبهر والعتيق.

القاهرة - أعادت حملة شعبية قادها أهالي حي الظاهر في وسط القاهرة لجمع تبرعات لإعادة ترميم قصر “السكاكيني” باشا، الجدل حول أحد أجمل القصور العربية في القرن 19.

وبات المبنى الأكثر شهرة في المنطقة والفريد بشكله وطابعه الفني مهددا في ظل استمرار إهماله، والذي أفقده الكثير من بريقه مع مرور الزمن.

ويرى أهالي الحي أن ترميم وتطوير قصر السكاكيني باشا يفضيان إلى العديد من المكاسب، أولها إحياء مبنى لا يتشابه مع غيره من قصور مصر، وهو تحفة فنية مهملة. فيما يعد المكسب الأهم والأشمل إحياء القاهرة الخديوية، وهي المنطقة التي تعج بكثير من الآثار الإسلامية والمسيحية واليهودية، ما يعتبره البعض أهم مشروعات الحكومة في مجال التطوير الحضاري، ويُمثل نقطة بداية لتطوير منطقة شعبية بدأت تواجه آثار التكدّس السكاني وغلبة العشوائية على المباني الحديثة.

ورغم قيام هيئة الآثار في العام الماضي بترميم جزئي لواجهة القصر وطلاء بعض التماثيل والزخارف الخارجية له، إلا أن خبراء الفن والمعمار يرون أن عملية الترميم محدودة، وتفتقر للمهنية بسبب ضعف الموارد المالية المخصصة لها، والمشهد العام مازال مهملا.

ويقول المهندس المعماري أسامة إسحاق، أحد سكان حي السكاكيني القدامى لـ”العرب”، إن وزارة الآثار اكتفت بطلاء واجهة القصر قبل شهور باللون الأزرق، وتلميع بعض التماثيل البديعة المحفورة على جدرانه من الخارج، وكان ينبغي إعادة القصر إلى ما كان عليه وقت البناء مثلما جرى مع الكثير من المباني وسط القاهرة.

تماثيل السيدات عاريات الصدر التي تتكرر على واجهات القصر، سمة نادرة في العمارة المصرية

ويؤكد أن القصر الذي بناه أحد المهاجرين الشوام إلى مصر ويُدعى حبيب غبريال السكاكيني سنة 1897، يُمكن تحويله إلى مزار فني كبير، لأنه أحد الشواهد النادرة على فن “الروكوكو” في مصر.

ويعد فن “الروكوكو” أحد أشهر الفنون المعمارية التي بدأت من باريس في بدايات القرن الثامن عشر ميلادي، وركز  فنانوها على الزخارف المنحوتة والمصورة النابعة من مشاهد الجمال، وانتشر في أوروبا، ثم انتقل إلى بعض بلدان الشرق بواسطة معماريين وفنانين أوروبيين، ويعد قصر السكاكيني نموذجا لذلك الفن في مصر. ويرى إسحاق أن القصر مثال جيد للعمارة الإيطالية الحديثة، التي مزجت بين سمات عصر النهضة والنظم المعمارية الحديثة في أوروبا.

وشهدت مصر خلال النصف الأخير من القرن التاسع عشر غزوا معماريا إيطاليا، إذ قدم إليها مهندسون ومعماريون إيطاليون وبنوا العديد من القصور والمباني الفريدة في القاهرة والإسكندرية.

وتجولت “العرب” في ميدان القصر، لكنها واجهت صعوبة لدخوله بسبب غلقه أمام العامة والمختصين لأسباب غير معلومة لسنوات طويلة منذ إدراجه تحت وزارة الآثار المصرية.

وتحمل واجهة القصر الخارجية مهابة خاصة، بسبب طبيعة النقوش الدقيقة في جدران المبنى وتماثيله المحيطة. وتبلغ مساحته نحو 2700 متر، ويرتفع المبنى لطابقين بكامل المساحة تعلوهما أربع قباب صغيرة، وترتفع ثلاثة طوابق أخرى بمساحة 600 متر تمثل البهو الواسع في المنتصف، تعلوه شرفة مستديرة مغطاة بقبة كبيرة، وتوجد ست بوابات كبيرة للقصر، وفوق الباب الرئيسي مدون اسم حبيب سكاكيني وإلى جواره عام 1897 كتاريخ للبناء.

ومما يلفت الانتباه تعدد نوافذ القصر وتنوع أشكالها وأحجامها، حيث يبلغ عددها 400 نافذة تتوزع بنوع من التوازن على الواجهات الأربع، وتعلو هذه النوافذ عقود على شكل محاريب قائمة على أعمدة مستديرة بعضها يأخذ شكل جسد بشري.

وبين الزخارف نلمح حرف “إتش” باللغة الإنكليزية مكررا في حليات دائرية أعلى المدخل وفوق بعض التماثيل الجانبية في إشارة إلى اسم صاحب القصر حبيب باشا السكاكيني، كما يتوزع ثلاثمئة تمثال لرجال ونساء وأطفال بعضهم عار على كافة الواجهات.

ويعد التمثال الأبرز لصاحب العقار نفسه، حيث يقف حبيب باشا السكاكيني ليبدو رجلا في الخمسينات بملامح معبّرة عن شخص أنيق له هيبة وحضور وقوة شخصية.

وتنتشر زخارف محفورة بهيئة تماثيل لأسود وحيوانات وأطفال على جدران القصر بصورة جميلة. ويتكرر تمثال رائع لفتاة جميلة ترتدي تاجا على جدران المبني، ويعرف التمثال باسم “درة التاج.”

وتعتبر تماثيل السيدات وهن عاريات الصدر والتي تتكرر على الواجهات الأربع، سمة نادرة في العمارة المصرية، حيث تخلو غالبية القصور من الاهتمام بتجسيد الجسد الأنثوي.

وشغلت تلك التماثيل وسائل الإعلام خلال عام 2012 عندما طالب سلفيون بضرورة إزالتها فورا من القصر، بذريعة أنها لا تصح في بلد إسلامي يحرّم تلك المشاهد، ووجود تلك التماثيل أمام أعين العامة ينطوي على إثارة للغرائز وفتنة كبرى.

"السكاكيني"

وتبدو التماثيل لافتة لنظر المارة والعابرين لتعددها وجودة إبراز التفاصيل، ما يدفع البعض إلى التوقف قليلا للنظر إليها، بينما يتعمّد بعض الصبية القاطنين إلى جوار القصر اللعب أمامها، حيث يطلقون هزلا أسماء فتيات على تلك التماثيل.

ويشير محمود سعيد، طالب يقطن بجوار القصر لـ”العرب”، إلى أن “منظر التماثيل العارية على قصر السكاكيني أصبح مألوفا لدينا وهو جزء من شكل الحي، وكثيرا ما كنا ندخل إلى القصر ونلعب حولها”.

وتجذب التماثيل طلبة كليات الفنون الجميلة الذين يأتون خلال فترة الدراسة لمحاكاة بعضها رسما ونحتا.

ويكشف عاصم عبدالله، صاحب مقهى مجاور للقصر لـ”العرب” أن سكان حي الظاهر على وجه الخصوص أكثر تسامحا وتقبلا للفنون من غيرهم، لأن المنطقة كانت في الماضي مركزا لسكن اليهود والشاميين على وجه الخصوص، والحي القديم لم يعرف، مثل الكثير من أحياء القاهرة والإسكندرية، التشدد الديني ولم تجد الجماعات السلفية لها موطئ قدم فيه.

ويوجد على بُعد العشرات من الأمتار من القصر في شارع ابن خلدون الممتد من ميدان السكاكيني معبد يهودي مهجور يُسمى كنيس كريم، فضلا عن عدة كنائس بناها السوريون المسيحيون في نفس المنطقة، ومساجد كبيرة غير بعيدة عن الميدان أشهرها مسجد السلطان الظاهر بيبرس.

ويوضح عبدالله، أن “أهل الحي اعتادوا على الحياة معا في محبة وسلام، ولا يشعرون بفروق بين المسلمين والمسيحيين وحتى اليهود عندما كانوا مقيمين في مصر.”

ويتابع، “كانت هذه المنطقة زمن بناء القصر حدائق غير مأهولة بالسكان، وبعد ذيوع صيت القصر، بدأ كبار التجار والفنانين والموظفين المرموقين في بناء بيوتهم إلى جواره.”

"السكاكيني"

وبعد ثورة يوليو عام 1952، بدأت العشوائية المعمارية الزحف على المنطقة، وباعت الكثير من الأسر الثرية قصورها وبيوتها الفخمة وحدائقها خوفا من فرض الحراسة عليها من قبل ضباط الثورة، ليتم بعد ذلك هدمها واستبدالها بعمارات سكنية شبه عشوائية. ويتداول سكان الحي حكاية السكاكيني باشا الطريفة، ويقولون إنه جاء إلى مصر من الشام، وهو طفل  صغير، منتصف القرن التاسع عشر، ليعمل في الشركة المكلفة بحفر مشروع قناة السويس.

وبرز اسمه عندما واجهت الشركة مشكلة كبيرة بسبب انتشار الفئران في منطقة حفر القناة، ولم تفلح جميع الحلول الأوروبية في إنهاء الأزمة، لكن الموظف الصغير اقترح إرسال الآلاف من القطط إلى المنطقة للقضاء على القوارض، ونجحت التجربة.

وعلم الخديوي إسماعيل، حاكم مصر وقتها، بقصة الموظف، فاجتمع به ومنحه أعمال مقاولات صغيرة لم تلبث أن توسعت ليصبح واحدا من الأثرياء وأصحاب الحظوة.

وأكد المهندس المعماري أسامة إسحاق أن القصر مر بمراحل عديدة بعد وفاة صاحبه عام 1923، إذ عاش فيه ابنه هنري حتى عام 1952، وبعد ذلك تبرّع به الورثة لوزارة الصحة لتحوله إلى متحف للتثقيف والتوعية الصحية.

وانتقل القصر بحكم القانون إلى هيئة الآثار في عام 1987 ليصبح تحت إشرافها، ومنذ ذلك التاريخ والمكان يشكو الإهمال والنسيان.

ورغم أن هيئة الآثار كانت تجني المال من القصر، إذ يتم تأجيره لبعض شركات الإنتاج الفني لتصوير أفلام ومسلسلات، إلا أنه لم يتم وضع مشروع حقيقي لإعادته إلى نسقه وقت بنائه.

"السكاكيني"

 

20