حملات مقاطعة تفتح الجدل حول الأضاحي: رمز ديني أم واجب اجتماعي مقدس

يحرص غالبية المواطنين في الدول العربية على اقتناء أضحية العيد التي تحولت مع الأزمة الاقتصادية وارتفاع الأسعار الجنوني إلى عبء كبير على الأسر وخرجت من رمزيتها الدينية لتتحول إلى مناسبة اجتماعية إلزامية يطالب الكثيرون بمقاطعتها.
تونس - أطلق رواد التواصل الاجتماعي المصريون حملة “خليها تعفن” لمقاطعة شراء اللحوم الحمراء، تزامنا مع اقتراب عيد الأضحى، في محاولة لإجبار الجزارين على خفض أسعارها، بينما يشتكي التونسيون من ارتفاع قياسي لأسعار اللحوم ومثلهم في المغرب والجزائر، فيما اليمنيون خلصوا إلى التضحية بالدجاج والطيور عوضا عن المواشي.
وينشغل المواطنون في عدة دول عربية بارتفاع أسعار اللحوم مع اقتراب عيد الأضحى بسبب تراجع أعداد قطيع المواشي مقارنة بالسنوات الماضية، وغلاء أسعار الأعلاف وحالة الجفاف.
وهذه الأزمة السنوية جعلت رمزية عيد الأضحى تفقد معناها ولم يعد المواطنون طيلة السنوات الأخيرة قادرين على تغطية مصاريف العيد والاحتفال به وتوفير الأضحية.
فالتونسيون يحرصون على اقتناء الخرفان وذبحها في منازلهم حفاظا على الشعيرة الإسلامية وتماهيا مع التقاليد الاجتماعية، حيث تعتبر الأسر أن ذبح “العلوش” ركن أساسي في احتفالها بالعيد رغم انفلات الأسعار ومطالبة عدد من المنظمات مؤسسة الإفتاء في البلاد بإجازة التخلي عن ذبح الأضاحي، من أجل استعادة الاكتفاء الذاتي من رؤوس الأغنام.
توجه بعض الأسر إلى القروض الاستهلاكية لشراء الأضحية أمر غير مقبول دينيا، وحتى اقتصاديا
ومن النادر أن يعفي التونسي نفسه من تجشم عناء توفير المال اللازم لاقتناء الأضحية مهما كلفه الأمر، وهناك من يبيع بعض أثاث البيت أو يلجأ إلى الاقتراض بهدف استعراض المكانة الاجتماعية، حيث تأخذ هكذا مناسبة طابعا إلزاميا بحكم ما يعتقد تداولا بأنه “واجب اجتماعي شبه مقدس”.
ولا يسمح المواطن لنفسه بالخروج عن “الجماعة ” بعدم اقتناء الأضحية خوفا من سخرية الآخرين أو احتقارهم حتى وانتقاداتهم المختلفة وشفقتهم لأنه سيتحول، وفق رأيه، إلى فرصة للتباهي الاجتماعي حيث تتأكد المكانة الاجتماعية بحجم قرون كبش العيد وبثمنه.
وبات من الشائع ممارسة هذا الطقس، الذي هو ديني في الأصل، لأسباب اجتماعية محضة ولا تطبق معه التعليمات الدينية ومنها “ضرورة التصدق بثلثه”. علما أن الأغلبية الساحقة من الناس يذبحون كباشها وقد لا يجد أحدهم ممن يريد التصدق فعلا من يحتاج إلى التصدق عليه في هذه المناسبة.
ويتوجه الاهتمام في الفترة الحالية نحو أسعار الأضاحي واللحوم المتوفرة وجودتها والكميات، خاصة في مناطق الإنتاج، في ظلّ أزمة تمر بها منظومة اللحوم الحمراء في تونس.
وبحسب الغرفة الوطنية للقصابين، فإن هناك نقصا في كميات الأضاحي وغلاء قياسيا في الأسعار، إذ إن سعر الكيلوغرام الواحد من اللحم الحيّ قد يصل إلى 20 دينارا، بعد أن كان السعر المرجعي السنة الماضية 18 دينارا للكيلوغرام الواحد.
ويعني ذلك أن أضحية العيد التي يتراوح وزنها بين 70 و80 كلغ تصل أسعارها إلى 1600 دينار، بالإضافة إلى مصاريف المستلزمات الأخرى للعيد، لتصل الكلفة إجمالا إلى ألفي دينار (635 دولارا أميركيا).
وتقول المصادر إن ارتفاع أسعار الأضاحي وأسعار اللحوم الحمراء، مردّه نقص الإنتاج في تونس، فالخرفان التي ولدت خلال فصل الربيع الحالي، لا يمكن أن تكون جاهزة خلال عيد الأضحى لتلبية حاجيات المستهلكين، كما أن العديد من المسؤولين يغالطون الرأي العام التونسي ويتحدثون عن توفّر الأضاحي بالكميات اللازمة.
ويرجع الاتحاد التونسي للفلاحة والصيد البحري – أكبر منظمة تجمع المزارعين في تونس – القفزة في أسعار المواشي إلى عدة عوامل، من بينها التغيرات المناخية التي أفضت إلى ندرة الأمطار، وتراجع الأعلاف الخضراء، وارتفاع سعر الأعلاف الموردة كليا من الخارج.
ويقول خبراء في السياسات الزراعية إن تغير القدرة الشرائية للمواطن يتزامن مع ارتفاع كلفة إنتاج قطيع المواشي، لأن الفلاح يلجأ إلى الأعلاف الموردة كليا من الخارج التي ارتفعت أسعارها واضطرب توريدها بسبب الحرب في أوكرانيا، إلى جانب تقلص مساحات المراعي الطبيعية بسبب التغيرات المناخية وتراجع الأمطار.
وتعزف عائلات تونسية كثيرة عن اقتناء الأضحية بسبب الغلاء، وتتجه أخرى إلى شراء أضحية مشتركة للعائلة الموسعة.
الأضحية في تونس فرصة للتباهي الاجتماعي حيث تتأكد المكانة الاجتماعية بحجم قرون كبش العيد وبثمنه
ويدعو البعض إلى مراجعة منظومة اللحوم الحمراء لتفي بحاجيات المواطن خلال العيد وباقي أيام السنة بالضغط على كلفة الأعلاف، وتشجيع الفلاح على إعادة قطيع المواشي إلى أرقامه المعتادة.
وتنتج تونس سنويا حوالي 120 ألف طن من اللحوم الحمراء، إلا أنها تشهد تراجعا في معدل استهلاك الفرد للحوم الحمراء من 11 كيلوغراما سنويا، قبل عام 2011، إلى 9 كيلوغرامات سنويا حاليا، وهو من أضعف المعدلات العالمية، التي تؤكد تأثير تدهور المقدرة الشرائية للمواطن على نوعية وجودة الغذاء.
ويدعو العديد من النشطاء على مواقع التواصل في الجزائر والمغرب ومصر وتونس إلى مقاطعة شراء أضحية عيد الأضحى المبارك بسبب ارتفاع الأسعار وصعوبات مادية واجتماعية.
وسبق أن حثت نقابة الأئمة في تونس مفتي الديار التونسية على إطلاق فتوى تجيز مقاطعة شراء أضحية العيد على خلفية الغلاء المتفشي في الأسواق وتدهور القدرة الشرائية للمواطنين.
وقالت النقابة إنها تؤيد مقترحا لإصدار فتوى رسمية لمقاطعة شراء الأضحية بسبب ارتفاع الأسعار ومحدودية العرض في الأسواق. وحالة السخط متفشية أصلا بين التونسيين بسبب ارتفاع الأسعار الذي ضرب أغلب المواد الاستهلاكية منذ أحداث الثورة في 2011.
واعتبر رئيس المنظمة التونسية لإرشاد المستهلك لطفي الرياحي أن الحل الوحيد لتحقيق التوازن من جديد الذي يتعلق بقطيع الخرفان وتعديل أسعاره، التي شارفت على بلوغ 60 دينارا للكيلوغرام الواحد، هو الحد من عمليات الذبح التي يتعرض لها، مشيرا إلى أن توريد أضاحي العيد لن يعدل من مستوى الأسعار المرتفعة للأضاحي كما أنها ستبقي على فرضية ذبح جزء من القطيع المحلي.
ومع بقاء فترة قصيرة على عيد الأضحى بالمغرب تتزامن مع جدل في استيراد الأضاحي وارتفاع أسعار اللحوم بالأسواق وتضرر القدرة الشرائية للمواطن بعد فترة رمضان، يحمل نشطاء عبر مواقع التواصل، مؤخرا، مطالب مكررة بإلغاء هاته المناسبة، لتفعّل بذلك نقاشا بين ما هو ديني واقتصادي.
وتنطلق مطالب إلغاء عيد الأضحى لدى النشطاء، التي تتجدد سنويا، من “انحصار المواطن البسيط في دوامة الأعباء المالية، واللجوء المتكرر إلى القروض الاستهلاكية، وارتفاع أسعار المواد الغذائية، والمحروقات، وغيرها من الظروف الاقتصادية التي تجعل مثلا اقتناء أضحية عيد يصل ثمنها إلى 4 آلاف درهم صعبا وله عواقب مالية مستقبلية”.
ومع توالي سنوات الجفاف بالمغرب، لا تزال الحكومة ترى استيراد رؤوس الأغنام حلا لتلبية الطلب المتوقع قبل موعد عيد الأضحى، في وقت تتعالى مخاوف المواطنين من عدم قدرتها على توفير أسعار مناسبة.
ويطرح خبراء دينيون واقتصاديون أن يقتني المواطن أضحية العيد إذا استطاع إلى ذلك سبيلا، فيما يقترح الاقتصاديون أن “يتشارك المواطنون في الأحياء أضحية العيد وتكون موحدة”، مجتمعين بذلك حول “ضرر خطوة عيد الأضحى وسلبياتها”.
وقال عمر الكتاني، وهو خبير اقتصادي، إن “إلغاء عيد الأضحى بالمغرب ستكون له عوائد سلبية كبيرة، خاصة أن نسبة البادية بالمغرب هي الكبرى”، لافتا إلى أن “المستفيدين من هاته المناسبة هم الفلاحون. أما المتضررون فيمكنهم عدم اقتناء الأضحية طالما أن تكاليف المعيشة صعبة”.
وأوضح الكتاني لموقع هسبريس المحلي أن “المؤشرات الاقتصادية تقول بالفعل إن عيد الأضحى سيكون صعبا هذه السنة على المواطنين، في ظل استمرار ارتفاع الأسعار، لكن يجب ألا ننسى أنها فترة ينتعش فيها القطاع الفلاحي، أبرز محركات الاقتصاد ببلادنا، وسينتعش المهنيون وينسون فترات الجفاف القاسية”.
وبيّن أن هنالك ضررا بكل تأكيد من هذه الفترة، حيث المواطن البسيط والطبقة المتوسطة ستعيش أوقاتا صعبة، لكنه أهون مقارنة بإلغاء العيد وكبح اقتصاد المواشي والقطاع الفلاحي، الذي ينتظر هذه الفترة بفارغ الصبر.
وتابع “عيد الأضحى سنّة مؤكدة وليس عبادة، وإذا كان ضررها الاقتصادي قويا يمكن للمواطن أن يعفي نفسه عنها”، مشددا على أنه “شخصيا، ومن خلال المعطيات الاقتصادية يرى أن منافعها أقوى من مخاطرها، حيث سينتعش فعلا القطاع الفلاحي”.
واقترح الخبير الاقتصادي أن “يقتني المواطنون في الأحياء أضحيات العيد بطرق مشتركة، تمكنهم من جهة من تقديم مبلغ بسيط، ومن جهة تعزيز التضامن والتآزر..”، موردا أن “توجه بعض الأسر إلى القروض الاستهلاكية في هذه الفترة أمر غير مقبول دينيا، وحتى اقتصاديا”.
ورفض الكتاني حملات إلغاء عيد الأضحى بالمغرب عبر مواقع التواصل الاجتماعي، موضحا أن “هذا يحمّل المواطن مسؤولية هذا الوضع، في حين أن ذلك يقع على عاتق السلطات الوزارية المعنية”، مشددا على أن “من لم يستطع اقتناء الأضحية فليس عليه عيب طالما أن الأوضاع الاقتصادية ستتأزم، ويجب على هذه الفئة أن لا تخجل من الأمر وتبقى حبيسة قيود مجتمعية ترى من عدم اقتناء أضحية العيد أمرا معيبا”.
ومن الزاوية الدينية، اعتبر لحسن سكنفل، رئيس المجلس العلمي لعمالة الصخيرات – تمارة، أن “أضحية العيد سنّة مؤكدة للقادر عليها”، وأضاف سكنفل أن “نحر الأضحية يوم العيد لا يتركه المسلم القادر عليه ولا يتخلى عنه، بل يفعله، لأنه عمل خيّر يتقرب به إلى الله تعالى”. وبيّن المتحدث ذاته أن “من لم يقدر على شراء الأضحية نظرا لضعف القدرة الشرائية لديه، خصوصا مع هذا التضخم المالي الذي يعرفه العالم كله، فإن الأضحية تسقط عنه شرعا، ولا يجوز له أن يكلف نفسه ما لا طاقة له به، وله الأجر بنيته”.
وتابع رئيس المجلس العلمي لعمالة الصخيرات – تمارة، موضحا أن “الدعوة إلى إلغاء أضحية العيد تحت دعوى تدني القدرة الشرائية للمواطنين وارتفاع الأسعار تطاول على دين الله، ودعوة بغير علم، واعتداء على حقوق الناس في تدينهم، وافتئات على السلطان، وتدمير للاقتصاد الوطني، ذلك أن عيد الأضحى موسم للرزق حيث يسترزق أصحاب الماشية والجزارون وعدد من الحرفيين الذين يتصل عملهم بهذه الشعيرة التي تحمل في طياتها بعدا اقتصاديا، إضافة إلى البعد التعبدي والاجتماعي”.
وشدد على أن “الذي لا يقدر على الأضحية تسقط عنه شرعا، ولا يجوز له الاقتراض إلا إذا كان قادرا على رد ما اقترضه دون الإضرار بنفسه أثناء أداء دينه”. وتابع “سيبقى عيد الأضحى مناسبة للفرح والتكافل والتضامن والتعاضد بين أفراد الأمة أغنياء وفقراء، فالكثير من الأغنياء يمدون يد العون لإخوانهم الفقراء، وستبقى الأضحية شعيرة دينية، وشعارا من شعارات الأمة الإسلامية يبتغي بها المسلمون وجه الله تعالى نحرا وأكلا وتصدقا وهدية وادخارا”.