حلم الصهيونية الليبرالية انتهى

واشنطن - زادت الحرب التي شُنّت على غزة منذ أكتوبر الماضي من حدة التناقضات عند المؤيديين الأميركيين لإسرائيل، وبثّت رؤية أوضح لقصة إنشاء الدول العبرية وتوسعها الفعلي، وسلطت الضوء على القمع العنيف الممارس ضد الشعب الفلسطيني المُرحّل.
ويرى نورمان سولومون، المدير التنفيذي لمعهد الدقة العامة ومؤلف كتاب “مستنقع الوحدة: اليهود وإسرائيل” في تقرير نشره موقع كونسورتيوم نيوز أن عددا كبيرا من اليهود الأميركيين أصبحوا مستعدين لتحدي المشروع الصهيوني، مشيرين إلى أن طبيعته جعلت قمع حقوق الإنسان لغير اليهود في فلسطين أمرا حتميّا.
وقالت الصحفية والكاتبة نعومي كلاين خلال احتجاج بالقرب من منزل السيناتور الأميركي تشاك شومر في بروكلين الشهر الماضي “لا نحتاج صنم الصهيونية الزائف ولا نريده. نحن نريد التحرر من المشروع الذي يرتكب الإبادة الجماعية باسمنا”.
اليهود الأميركيون أصبحوا مستعدين لتحدي المشروع الصهيوني بعد جعل قمع غير اليهود في فلسطين أمرا حتميّا
وتدهور سيط روايات “إسرائيل الديمقراطية” المعتادة في حرم الجامعات الأميركية، حيث احتج الطلاب اليهود وغير اليهود هذا الربيع على تعذيب سكان غزة وإبادتهم.
وبرزت هذه الاتجاهات حتى قبل عقد، حين شهدت مجموعة الطلاب اليهود “هيليل” اضطرابا بسبب نزاع حول ما إذا كان بإمكان قيادتها الوطنية منع فروعها في حرم الجامعات من استضافة منتقدين أقوياء للسياسات الإسرائيلية.
ونشأ هذا النزاع من تاريخ طويل من الضغط على اليهود الأميركيين لقبول الصهيونية و”الدولة اليهودية” كجزء لا يتجزأ من هذا الدين. وكان بعض الطلاب اليهود الذين “يدفعون لتوسيع حدود الخطاب المقبول” حينها “يتحدون موروثات قوية من الامتثال”.
رسالة جي ستريت إلى بايدن
أصدرت “جي ستريت” وهي منظمة ناشئة من اليهود المتحالفين مع الإدارة الديمقراطية الأميركية وتمتع بنوع من الزخم باعتبارها “البيت السياسي الذي يضم الأميركيين المؤيدين لإسرائيل والسلام”، في فبراير 2024 بيانا موجها إلى الرئيس الأميركي جو بايدن حثته فيه على اقتراح الاعتراف بدولة فلسطينية “منزوعة السلاح” باعتباره حلا يشجع قبول المملكة العربية السعودية ودولا أخرى في المنطقة لإسرائيل.
ويعادل هذا العبث بسقف منزل مبني على أساس متصدع، مع النفي القسري لغير اليهود من جزء كبير من فلسطين (ما يعرف الآن بإسرائيل)، ورفض حقهم في العودة، مع تمتع كل من يحمل الهوية اليهودية بالحق في فلسطين كلها (بما في ذلك إلى الضفة الغربية المحتلة).
وأصبح العديد من الأميركيين (يهودا وغيرهم) يشككون في السخافة المتغطرسة المتمثلة في تمكين أميركي في بروكلين من المطالبة بحقه في أراضي فلسطين مع إنكار حق الفلسطينيين الذين استُهدفوا للتطهير العرقي في بلادهم.
وبالتوافق مع الجماعات الصهيونية الأخرى، تفترض جي ستريت مسبقا أن الفلسطينيين يجب أن يكتفوا بالمناطق التي حددها المستعمرون الإسرائيليون (الذين يجب ألا يطلق عليهم اسم المستعمرين)، بينما يحتفظون بـ”حق العودة” فقط لأنفسهم ولأبناء دينهم.
وتقدم “جي ستريت” الحل المخفف باقتراحها “لاتفاق ينهي الصراع تعترف فيه إسرائيل أيضا في النهاية بالدولة الفلسطينية”.
العديد من الأميركيين يشككون في السخافة المتغطرسة المتمثلة في تمكين أميركي في بروكلين من المطالبة بحقه في أراضي فلسطين مع إنكار حق الفلسطينيين الذين استُهدفوا للتطهير العرقي في بلادهم
وتكمن فكرة جي ستريت عن الإصلاح في أن الحكومة الأميركية ستعتمد خطة “لخطوات محددة يجب على الفلسطينيين اتخاذها لتنشيط حكومتهم وإعادة تصميمها مع قيادة جديدة ملتزمة بمعالجة الفساد ونزع السلاح ونبذ الإرهاب والعنف وإعادة تأكيد الاعتراف بإسرائيل”.
وتشمل الخطة “خطوات محددة يجب على إسرائيل اتخاذها لتخفيف الاحتلال وتحسين الحياة اليومية في الضفة الغربية، وقمع عنف المستوطنين ومعالجة الأزمة الإنسانية في غزة”.
وسيقدم بايدن “اعترافا أميركيا بالدولة الفلسطينية، وإعادة التأكيد على مبادرة السلام العربية والضمانات الأمنية لجميع الأطراف، والالتزامات بدعم القانون الدولي”.
وتضع أخيرا “قرارا من مجلس الأمن الدولي الذي يؤكد الدعم العالمي للرؤية وعملية التفاوض ومعاييرها التي تؤدي إلى اتفاق الوضع النهائي وقبول فلسطين دولة كاملة العضوية في الأمم المتحدة”.
ويبقى اقتراح “المبادرة الدبلوماسية الشاملة” الذي وضعته جي ستريت هو الأمر اللافت للنظر.
ولا يتصور أي عنصر في رؤية جي ستريت “الجريئة” الجديدة تنازل إسرائيل عن الأراضي التي احتلتها في سبيل “تهويد” أجزاء متزايدة من فلسطين.
واعترض الصهاينة الأميركيون الليبراليون والإدارات الأميركية أحيانا على أحدث “الحقائق على الأرض” غير القانونية وغير الأخلاقية التي فرضتها إسرائيل، قبل قبولها لاحقا بصفتها حقائق ثابتة لا يمكن التراجع عنها.
وصدق مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان مؤخرا حين أكد أن “التسارع الكبير في بناء المستوطنات يفاقم أنماط القمع والعنف والتمييز ضد الفلسطينيين التي طال أمدها”.
وقال فولكر تورك”يبدو أن سياسات الحكومة الإسرائيلية الحالية تتسق، إلى حد لم يسبق له مثيل، مع أهداف حركة المستوطنين الإسرائيليين المتمثلة في توسيع سيطرتها الطويلة الأجل على الضفة الغربية، بما في ذلك القدس الشرقية، ودمج هذه الأرض المحتلة في دولة إسرائيل بشكل مطرد”.
مطابقة خطة نتنياهو
يتطابق اقتراح جي ستريت بدولة فلسطينية “منزوعة السلاح” مع خطة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لاحتفاظ إسرائيل بـ”السيطرة الأمنية” على كل فلسطين إلى حدود نهر الأردن.
وكتب الباحث الإسرائيلي ديفيد شولمان، خلال الأزمة الأخيرة، أن “موجة المشاعر المعادية لإسرائيل التي تشمل أعدادا كبيرة من سكان العالم الغربي لم تنشأ فقط من حرب غزة، مع خسائرها المدنية غير المحتملة والمجاعة الجماعية التي تمر بها. وتعكس هذه الموجة بعمق أكبر الاشمئزاز المبرر من الاحتلال المستمر، واستمراره الأبدي والأكثر وحشية من أي وقت مضى، وسياسات السرقة الجماعية والفصل العنصري التي يتمحور حولها”.
وتواصل جي ستريت محاولتها لإنشاء مجموعة ضغط إنسانية لإسرائيل، دون التشكيك في مشروع الاستيطان والطرد غير العادل الذي أنشأ هذه الدولة في المقام الأول واستمر فيها منذ ذلك الحين.
وبينما تصور الصهيونية الليبرالية نفسها بديلا للتطرف الذي يتبناه نتنياهو، يفترض توقها إلى “السلام” إدامة التجاوزات والمكاسب الإسرائيلية الأساسية على مدى السنوات الـ75 الماضية، وتدعو شعبا مهزوما ومستعمرا إلى القبول والخضوع.
ويشهد حلم الصهيونية الإنسانية انهيارا. ولكن جي ستريت تبقى يائسة للتمسك بخيالها المحتضر، مثلها مثل الجماعات اليهودية الراسخة الأخرى واليهود الأميركيين المتراجع عددهم.
وأصبح حل الدولتين لأرض فلسطين هشا أكثر فأكثر. لكن منظمات مثل جي ستريت والغالبية العظمى من الديمقراطيين المنتخبين يرفضون الاعتراف بأنه أصبح غير منطقي بسبب المستوطنات الإسرائيلية المتواصل توسعها والقومية اليهودية المتصاعدة الراضية بحل إبادة الشعب الفلسطيني الجماعية.
ويساوي الإطار المفاهيمي في جي ستريت بين كونك “مؤيدا لإسرائيل” والحفاظ على عقيدة دولة يكون فيها اليهود أكثر مساواة من غيرهم.
وبالنظر إلى الماضي، يتطلب هذا النهج التعامل مع الغزو الصهيوني التاريخي على أنه بين الضروري والنقي.
ويرى هذا النهج بالنظر إلى الحاضر والمستقبل أن المعارضة الصريحة لتفوق الحقوق اليهودية ترقى إلى التطرف وتتجاوز الحدود وليست “مؤيدة لإسرائيل”.
وتقول جي ستريت عن نفسها اليوم إنها “تنظم الأميركيين المؤيدين لإسرائيل والسلام والديمقراطية لتعزيز سياسات الولايات المتحدة التي تجسد قيمنا اليهودية والديمقراطية الراسخة التي تساعد في تأمين دولة إسرائيل كوطن ديمقراطي للشعب اليهودي”.
وفي سيرة ذاتية غير منشورة، كتب الحاخام الصهيوني السابق في بالتيمور موريس س. لازارون “توصلت أخيرا إلى استنتاج مفاده أن الصهاينة كانوا يستخدمون الحاجة اليهودية لاستغلال أهدافهم السياسية… كل شعور مقدس لليهودي، كل غريزة إنسانية، كل قلق عميق الجذور على الأسرة، كل ذكرى عزيزة، أصبح كل هذا أداة مُستغلة لتعزيز القضية الصهيونية”.

وسيتوجب على اليهود إعادة تقييم مؤلمة للمشروع الذي يفرض دولة “يهودية” في فلسطين. وسيعني فهم العمى المتعمد وخداع الذات اللذين يسهلان إساءة معاملة غير اليهود في فلسطين التخلي عن المسكنات المراوغة للمواقف الإنسانية الزائفة من مجموعات مثل جي ستريت.
ولا يمكن أن يعني الكفاح الأساسي ضد معاداة السامية استمرار إهانة شعب آخر وقمعه. وبعد أكثر من 75 عاما من الاستيلاء العنيف، وبينما نتحدث بشراسة عن الرغبة في السلام، يجب حل الانفصال بين هذا السعي المزعوم للسلام وتأكيد السيطرة الصهيونية على الأرض.
ومهما كان قدر النوايا الحسنة، تشكّل جي ستريت السبيل المألوف للصهيونية الأميركية الليبرالية التي تواصل دعم إخضاع الشعب الفلسطيني، مع أنماط ثابتة من العنف المميت.
وقد ضغطت جي ستريت بقوة لحشد المساعدات الأميركية التي تزود إسرائيل بالأسلحة لإلحاق خسائر جماعية.
ويتناقض دعم جي ستريت لمواصلة إرسال كميات هائلة من المساعدات العسكرية لإسرائيل مع موقفها الإنساني.
وكتب الباحث بن عامي “يجب ألا تكون المساعدات الأميركية لإسرائيل صكّا على بياض. يجب أن تخضع الحكومة الإسرائيلية لنفس المعايير التي يخضع لها جميع متلقي المساعدات، بما في ذلك متطلبات احترام القانون الدولي وتسهيل المساعدات الإنسانية”.
وأصبح في 2024 شعار “مؤيد لإسرائيل، مؤيد للسلام” تناقضا لفظيا، مع امتداد الإنكار إلى نقطة الانهيار. وليست إسرائيل الآن الخيال الذي يريد مؤيدو جماعات مثل جي ستريت تصديقه.
ويتطلب تجاوز مقبرة الحلم الصهيوني الإنساني التمسك بوهم تمحور المشكلة حول نتنياهو وحلفائه في الحكومة اليمينية المتطرفة. ولكن لا يمكن فصل بلد ما عن مجتمعه.
وكتبت الصحافية ميغان ستاك في مقال رأي في صحيفة نيويورك تايمز “لقد تصلبت إسرائيل، وتعدّ علامات ذلك واضحة للعيان… لغة مجردة من الإنسانية، ووعود بالإبادة من القادة العسكريين والسياسيين، واستطلاعات الرأي التي وجدت تأييدا واسعا للسياسات التي أحدثت الدمار والمجاعة في غزة، وصور سيلفي لجنود إسرائيليين يتجولون بفخر في الأحياء الفلسطينية التي سحقتها القنابل، وحملة قمع حتى على أشكال المعارضة الخفيفة بين الإسرائيليين”.
ويواصل مسؤولو جي ستريت الحديث عن دولة فلسطينية. لكن “حل الدولتين” أصبح مجرد حل للصهاينة الأميركيين الليبراليين، والديمقراطيين المنتخبين، والنقاد المتنوعين الذين يواصلون محاولة تفادي ما أصبحت عليه إسرائيل بالفعل.
وكتب آرييه نيير، أحد مؤسسي هيومنرايتسووتش، مؤخرا “أنا مقتنع الآن بأن إسرائيل متورطة في إبادة جماعية ضد الفلسطينيين في غزة”. وتبقى هذه حقيقة مروعة يواصل قادة جي ستريت التهرب منها.
وأصبح شعار مؤيد لإسرائيل، مؤيد للسلام” في 2024 مروعا. وترفض جي ستريت الدعوة إلى إنهاء المساعدات العسكرية الأميركية لإسرائيل بينما تواصل تلك الدولة استخدام الأسلحة والذخائر الأميركية للقتل والإبادة الجماعية.