حلمي التوني فنان يرى النساء زهورا وفراشات وفواكه
خصص التشكيلي المخضرم حلمي التوني معرضه الأخير في القاهرة للمرأة، ليس فقط بوصفها شريكة للرجل في مسيرته، وإنما باعتبارها صانعة للحياة، ومكتشفة للوجود، و”بالتة” للألوان كلها. وواصل في لوحات “للنساء وجوه” رحلته التفاؤلية نحو ربيع يكسو الأرض جمالا ووضاءة وإشراقا.
يحيا الفنان كي يرسم، وبإمكانه أيضا أن يرسم كي يحيا ويضخّ أوكسجين الحياة في من حوله من بشر وكائنات وموجودات وعناصر. وإذا كان الواقع يبدو مجدبا تعيسا متجمدا، فمن مسؤوليات الفن تغييره، أو خلق واقع آخر مواز تحلّق فيه الأرواح نشوة وائتلاقا.
هذا ما يؤمن به التشكيلي حلمي التوني (85 عاما)، وسعى إلى إنجازه في معرضه الذي اختتم بغاليري بيكاسو في حي الزمالك بالقاهرة في 21 مارس الماضي، حيث تحوّل الفن إلى أسطوانات إنعاش، وشحنات إيجابية للمقاومة.
واللافت أن المعرض انتهى يوم ميلاد فصل الربيع، وهي دلالة عفوية على أن التوني تمكن من زرع ربيعه في الوجود مستبقا حضوره الموسمي، ولولا أنه معرض مخصص بالكامل للمرأة لما تمكن الفنان من رسم ربيعه بهذا القدر من الوهج والخصوبة والإشعاع.
تأتي لوحات “للنساء وجوه” استكمالا لتجربة حلمي التوني خلال السنوات الأخيرة، التي يمكن وضع عنوان عريض لها هو “البهجة”، فالفنان لا يتجاهل حالة الاكتئاب السائدة، ولا ينفصل عن حاضره ومجتمعه، لكنه يتوسم في الفن طاقة سحرية، ويجد في الألوان المتفجرة قدرة عجائبية على زرع بذور الأمل في خارطة الأرض القاحلة، وثنايا القلوب البائسة.
الفن، من هذا المنظور الذي ينتهجه التوني، حيوية خلاقة، وكبسولات مدهشة لإزالة الألم من خلال المتعة والجمال والإحساس بخصوبة الحياة وعنفوانها، ومثل هذه الحالات المكثفة قد تتجاوز وظيفة المهدئات والمسكنات، لتقود إلى المعالجة والتغيير والتحفيز على مواصلة السير فوق دروب الجراح والمآسي والإحباطات.
إذا كان السير فوق الأشواك حقيقة مريرة مفروضة، فإن استنشاق الأزهار أيضا فعل ممكن ومتاح، وبهذا التوازن يستقيم معنى الحياة، فإذا طغى الوجع على إحدى كفتي الميزان في الواقع المعيش، فإن الفن بإمكانه زيادة جرعة الأمل والبهجة في عالمه الفانتازي لمحاصرة الاكتئاب وإعادة الإنسان إلى اتزانه.
هذه المنظومة التي يعتنقها التوني واسعة المفردات، ممتدة الآفاق، فمرة يستقي خميرة النشاط والسعادة من رحيق البنفسج الآسر “ليه يا بنفسج بتبهج؟”، وتارة يقتنص من الأنغام والألحان الموسيقية الراقصة إيقاعات جديدة طازجة تصلح كدقات للقلوب المتشبثة بالأمل، كما أنه قد يلجأ إلى المرأة، لتفتح له كل البوابات والفضاءات الممكنة.
تمكن حلمي التوني ببساطة من فك شفرة الأنوثة بألوان الربيع، ومن سبر أغوار الربيع بألوان الأنوثة، فالمرأة هي التفتّح والميلاد والتخليق والبكارة والصفو، والنساء لسن بعيدات الصلة في تكوينهنّ الملموس وأرواحهنّ الزاهية عن الزهور والفراشات والفواكه والطيور.
لم يقدم المرأة منفردة، وإنما كعنصر حي من عناصر الطبيعة، فهي مشتبكة دائما مع الأغصان والورود والثمار، منسجمة ومتفاعلة مع الطيور والفراشات، وأيضا مع الأسماك في غوصها في زرقة البحار، مكتسية رداء السماء، وعقد النجوم.
المرأة هي العطر المعسول الذي يحوّل الصبّارات بدورها إلى رايات فرح ومرح وبشارات بالارتواء، وهي كذلك في علاقتها بالرجل تأتي بحلتها الحمراء المشتعلة كصهللة نغمية صاخبة أو ضحكة مجنّحة، تجلس إلى جواره، أو تذوب في حضنه، وتمنحه التحقق والاحتواء، ككائن بشري في أحد وجوهها، وكأسطورة (سندريلا) أو ربة جمال في وجهها الآخر.
هذه الإشعاعات والتمثلات الأنثوية متعددة الأوجه ازدادت قوة وتأثيرا بفعل الألوان المنتقاة بعناية، كأنها أضواء، فهي “بالتة” الربيع المكتملة، باخضرارها النابض وأصفرها الدافئ وأحمرها المتدفق فورانا وجنونا، وملابس المرأة وأكسسواراتها كذلك مثل وجوهها وعطورها، بالغة الصراحة والصرامة والوضوح، لتحدث الصدمة كاملة، ويتحقق التأثير العنيف بخلق الواقع الموازي، الذي يعمل كممحاة لإزالة أثر الأحزان والآلام واجتثاث الكآبات من المنبع.
الحركة أيضا أحد أسرار نضج المرأة الاستثنائي في معرض التوني، فلا مجال للتخليق والتغيير بغير دينامية وتفجر، فالمرأة أيقونة الرشاقة في مشيها وقفزها ورقصها التعبيري، وتبخترها وخيلائها ودلالها، وطيرانها بأجنحة الفراشات وفساتين الأفراح والمناسبات السعيدة، وألعابها الطفولية بمشاركة كائنات الطبيعة المشحونة بالتطلع والإقدام.
تكتسب لوحات المعرض أبعادا تخييلية إضافية من امتزاج أبعادها البصرية المباشرة بتجليات فنون أخرى، من شعر وموسيقى وغناء وباليه، فضلا عن ثرائها وعمقها الباعثين على التأمل وإيقاظ الذهن وشحذ الشعور، فوجوه النساء وملامحهن المصوّرة بؤر مشتعلة بالأحاسيس والفيوضات النفسية والإيحاءات الفائرة.
لقد أفاد التوني كثيرا في معرضه الجديد من خبراته السابقة في تقديم ثيمات بصرية معادِلة، مستمدة من أنساق تعبيرية متعددة في الشعر والغناء والموسيقى والرقص والموروثات الشعبية، فالتشكيل لديه هو ذلك الفن الهاضم الشامل، القادر على التقاط كافة التفاصيل واستيعاب جُملة الفنون وخيوط الحياة بالكامل.
وتمكن من تجاوز عتبته الأولية “إشاعة البهجة والتفاؤل” صوب فلسفة كاملة، مصوغة من البراءة والتلقائية، فالفن هو تلك الهزة المخلخلة أو ذلك الانخطاف المفاجئ الذي ينتاب المتلقي بمجرد تجوله في أروقة المعرض، إذ يجد ذاته منفتحا على أنفاس جديدة تتخلل مسامه وتتوغل في عروقه، وتدفعه إلى إعادة النظر إلى داخله وإلى الفضاء المحيط بعيون باسمة، واثقة، راضية.
تجاوز التوني كذلك المفهوم البدائي للانتصار للمرأة، بمعنى المساواة بالرجل وقضايا النسوية وما إلى ذلك، فجاء معرضه “للنساء وجوه” إثباتا لجوهر الأنثى كمعنى أصلي للوجود، وانتصارا أوسع نطاقا للإنسان الساعي إلى استرداد بهجته وبراءته ودهشته وصفائه.