حكومة العبادي تعمق الصراع الطائفي بخيارات فاقدة للعمق الوطني

إذا كانت الحكومة العراقية تريد تحرير محافظة نينوى ومركزها مدينة الموصل من داعش، فعليها إنجاز المهمة دون الإضرار بالسكان أو التسبب في تفجير المحافظة اجتماعيا من الداخل، بعد ما زرعه الإرهاب من كراهية بين مكوناتها الإثنية والدينية والقومية، ودون أن تقود المعركة إلى المزيد من التمزق الطائفي على المستوى الوطني أو تحويل الموصل إلى أرض محروقة أو ساحة حرب وتصفيات بين الميليشيات المحلية والإقليمية.
ومن المعلوم تقديم الحكومة للاعتبارات السياسية حزبية الطابع على الاعتبار الوطني أخلاقي الطابع، فهي تخوض المعارك لتحقق مكاسب شخصية وكتلوية، ولا تستخدم السياسة لحقن دماء المدنيين والعسكريين أو تقليل الخسائر البشرية أو توسيع أفق الحلول السلمية والإدماجية المُعوّل عليها في محاصرة داعش وإضعافه؛ وإنما تفعل العكس.
فالقوة العسكرية في الوعي الحكومي الضيق أداة لفرض أمر واقع يتم استثماره سياسيا ولو على حساب الدم العراقي. وفي ظل هكذا إعلاء للعنف كوسيلة في ممارسة السياسة، لا يمكن إيجاد معنى للحديث عن حقوق الإنسان أو أرواح المدنيين أو منتسبي الجيش أو سلامة المدن.
كيف يمكن أن تفهم حكومتنا أن تحرير الأرض لا يعني طحن المواطنين أو سحق البشر أو التنكيل بالنازحين أو إرسال العسكريين إلى المجهول أو تعميق الهوة الطائفية بين العراقيين؟ ما السبيل لتوعية الحكومة بأن المصالحة والتضامن بين العراقيين هما الأمر الواقع الذي ينبغي تكريسه قبل أي تحرّك نحو أي مشروع تحرري أو إصلاحي؟
الحكومة لم تثبت للعراقيين أنها تتمتع بالرؤية الوطنية والإنسانية والأخلاقية التي تؤهلها لكسب ثقتهم
ثمة خشية من اليوم التالي لتحرير نينوى، فلا نريد لها أن تتفسخ، ويأكل بعضها البعض، وتنقسم إلى “أُصلاء” و”دواعش”، أو تكون في نظر العراقيين الآخرين وكأن مواطنيها خونة وداعشيون. ما الفائدة في أن نستعيد نينوى عسكريا ونخسرها معنويا ووطنيا، وما معنى استرجاع المكان والتضحية بالإنسان؟
لقد تسبب دخول داعش للموصل في ضعضعة الاستقرار الاجتماعي، وإثارة النعرات العنصرية والمناطقية والفئوية التي تميّز بين الناس وتصنّفهم إلى داعشيين وغير داعشيين، أو مدنيين وقرويين، أو شرفاء وخونة، أو مركز وهوامش، أو موصليين وعشائريين.
وترتكب الحكومة كارثة حقيقية إذا سمحت بتمزيق النسيج الاجتماعي لنينوى، أو انقسام سكانها على أساس الكراهية والتنافر وفق اصطفافات دينية أو مذهبية أو إثنية أو عرقية أو جغرافية أو طبقية.
المطلوب إنقاذ نينوى من داعش، وعلاجها من دائه حتى تتعافى وتسترد وتعزز وئامها الاجتماعي وتعايشها وحيويتها كمحافظة ثرية بتنوعها الديني والعرقي والثقافي، فداعش مرض أصابها بسبب اعتلال الجسم العراقي ككل، فدفعت ثمن سرطان الطائفية المستشري فيه، وعلينا كعراقيين مساعدتها على الشفاء التام. وهذا ما ينبغي أن تدركه الحكومة وألا تُسطّر بدماء العراقيين قصة فشل جديدة في الموصل الحدباء.
ولن تستطيع الحكومة تحرير الموصل تحريرا فعليا، مسؤولا أخلاقيا وإنسانيا تجاه الدماء والأرواح، ومثمرا على المدى الوطني والاستراتيجي، من دون مشروع سياسي وطني الطابع يُشكّل مقدمة ضرورية لأي عمل عسكري ضد داعش الذي يحتل المدينة.
|
وما لم تضع الحكومة أسس وقواعد الانتقال الشامل والجذري من المشروع المكوناتي إلى المشروع المواطني، الذي يعتنق العراقيون بموجبه هوية وطنية جامعة وقادرة وفاعلة، فإن عملية تحرير الموصل لن تكون مجدية سياسيا حتى لو نجحت عسكريا.
إن تحرير محافظة نينوى ينبغي أن يبدأ سياسيا قبل أن يكون عسكرياً. علينا استعادة نينوى من مشروع الكراهية الذي احتل العراق كله، من المشروع الطائفي التحاصصي، ومن النزعات المناطقية الانعزالية، من مشروع الانقسام والتشرذم والتفكيك. وهو تحرير سياسي وأخلاقي تحتاجه البصرة والنجف بالضبط كما تحتاجه نينوى والأنبار. فهل تتمتع الحكومة بالوعي لإدراك هذه الحقائق؟
لن تستطيع الحكومة تكريس العدالة والمساواة بين المواطنين والمواطنات وحماية التماسك الاجتماعي والسلم الأهلي في نينوى ما لم تفعل ذلك في كل البلاد، فالعراق كل لا يتجزأ، وهو وحدة سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية، والفشل في الديوانية فشل في الموصل، والإخفاق في كربلاء يجد صداه في تكريت.
والمطلوب هو مشروع وطني يضمن إنعاش الجسم العراقي بالتغذية الإيجابية ليضمحل داعش وينحسر تأثيره، فيكون التحرير متاحا بأقل قدر من الدماء والخسائر البشرية والمادية، وهذا يتطلب منظومة متكاملة من الإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بحيث تمنح المجتمع العراقي ككل جرعة أمل.
الحكومة بحاجة لخطوات سياسية حقيقية لتهيئة المناخ الوطني اللازم لاستعادة محافظة نينوى من سيطرة الإرهاب، والخطوة الأولى هي بناء الثقة، إذ ينبغي استعادة الموصل وطنيا، بمعنى أن يشعر مواطنو المحافظة بأنهم مواطنون عراقيون من الدرجة الأولى، وأن رئيس الحكومة في بغداد هو عراقي يمثلهم ويدافع عن حقوقهم دون الحاجة إلى وسطاء محليين مثل رئيس البرلمان السني، أو وسطاء إقليميين مثل تركيا أو العرب.
والخطوة الثانية هي إصدار عفو عام عن المواطنين المُغرّر بهم من أبناء المحافظة، والذين وقعوا في فخ داعش تحت تأثير ظروف سياسية أو نفسية معينة. إن بث رسائل الطمأنة إلى أهالي المحافظة مسألة حيوية، كما أن الحكومة الشحيحة في التعامل مع مواطنيها غير مؤهلة أخلاقيا لقيادتهم.
القوة العسكرية في الوعي الحكومي أداة لفرض أمر واقع يتم استثماره سياسيا ولو على حساب الدم العراقي
على الحكومة أن تثبت للعراقيين جميعا ولأهالي الموصل أنها حكومة صالحة، من خلال سياسات إصلاحية تبث شعورا إيجابيا وطنيا عاما وتجمع شمل المواطنين العراقيين من الانتماءات المختلفة، وتنتج سياقا نفسيا وطنيا مغايرا للسياق الطائفي الذي أضاع الموصل. لكن الحكومة لم تثبت إلى حد هذه اللحظة للعراقيين أنها تتمتع بالرؤية الوطنية، الإنسانية والأخلاقية، التي تؤهلها لكسب ثقتهم، فمازالت تستثمر في الوعي الطائفي وتبني عليه.
يحتاج الناس لقيادة راعية ومُلتزمة ومسؤولة وواعية، تهتم بمواطنيها وتقدر تضحياتهم في كل شبر من أرض الوطن، لكن حكومة بغداد لم تستطع تقديم هذا النموذج. لا تحرير من دون مصالحة، ولا مصالحة من دون إصلاح، هذه معادلة حلها في بغداد، وبيد حيدر العبادي نفسه ولا أحد غيره، وعليه فك رموزها، فهي وحدها التي تضمن المحافظة على العراق.
كاتب من العراق