حكمة الحيوانات الحزينة

بغداد ـ من المعروف أن المختبرات الطبية تستخدم الحيوانات في التجارب الطبية، فكثير من الحيوانات لها بعض الأعضاء الجسمانية المشابهة لما يملكه الإنسان، لكن ذلك لا يسري على بحوث الطب النفسي بسبب تعقيد النفس الإنسانية وأمراضها. ورغم ذلك فهنالك القليل من النماذج الحيوانية للأمراض النفسية، وكثيرا ما تنتهي تلك التجارب باستنتاجات شائكة تثير الجدل.
يمكن عدّ (اختبار بورسولت) من أقدم النماذج الحيوانية للاكتئاب، وقد ابتكره عالم النفس والصيدلة روجر بورسولت ونشر تفاصيله في ورقة بحثية عام 1977، ويتمثل بكل بساطة في وضع فأر في دلو مملوء لنصفه بالماء، فيحاول الفأر الخروج من الدلو وهو يسبح حثيثا بكل الاتجاهات، لكن الخروج مستحيل. يبقى الفأر يحاول بنشاط ثم ما يلبث أن يقل حماسه، ثم يتوقف عن المحاولة. وقد عد بورسولت ذلك اكتئابا، فهنالك يأس واستسلام وتباطؤ في الحركات ووهن، وهي كلها أعراض اكتئابية. وقد لوحظ أن الفئران التي يتم إعطاؤها مضادات الاكتئاب تستمر بالمحاولة ولا تستسلم، ويعتبر ذلك دليلا على فعالية الأدوية. كانت تلك تجربة بسيطة لا تكلف سوى دلو وفأر وماء، لكننا سنرى بعد قليل أن هناك جدلا مهما في مناقشة الاستنتاجات الناتجة عن تلك الدراسة.
قبل أن نستعرض تلك المناقشات دعونا نلتفت إلى طبيب نفسي آخر قضى بعض وقته الثمين وهو يراقب الدجاج متأملا. ففي بحثه المنشور عام 1987، قام الطبيب النفسي المشهور بدراسته للحيوانات جون برايس بنشر بحث عن سلوك الدجاج داخل المجموعة. إن للدجاج تراتبية، هذا بالإضافة إلى تراتبية الديكة، فهناك دجاجة تكون مفضلة ولها الأولوية في الطعام والتزاوج وغيرها. وعندما تكبر دجاجة شابة جديدة في القطيع تقوم بنقر الدجاجة المسيطرة لإزاحتها من مكانها لينتهي الأمر إما بتسيد الدجاجة الجديدة على القطيع أو بقاء السابقة. وحسب هذا الطبيب النفسي فإن عدد النقرات تبدو كأنها محسوبة تقريبا فلا تزيد عن عدد معين، وكذلك الفترة الزمنية التي تأخذها عملية العراك بالنقر محدودة وثابتة تقريبا، فخلال مدة محددة تستسلم الدجاجة التي خسرت وتفسح المجال للفائزة لتتربع على أعلى الهرم باعتبارها المسيطرة لتحظى بالأولويات. واعتبر برايس أن الدجاجة التي تستسلم يظهر عليها شيء هو أشبه بالاكتئاب، فهي تصير متثاقلة بطيئة الحركات ومستسلمة كأنها فاقدة للأمل.
إلا أن برايس يلمح لشيء سيكون مثار جدل فهو يقول إن سلوك الدجاجة المستسلمة يجنبها الهجمات المستمرة من الدجاجة المسيطرة، وكأنه يبرر الاستسلام ويقول إنه مفيد. كأنه كان يحاول القول: إن من الحكمة أن نحاول لفترة ما، ثم إذا لم نر نتيجة مفيدة من محاولاتنا فمن الأفضل الاستسلام لتجنب الأذى.
وتلك الملاحظة الأخيرة هي ما ركز عليها الطبيب النفسي راندولف نيس حين صار ينشر بحوثه عن فوائد الحزن نشوئيا، ففي كتابه المترجم للعربية (أسباب وجيهة للمشاعر السيئة) يرجعنا إلى اختبار بورسولت الذي ذكرناه أعلاه، ويشير إلى أن هناك عددا من البحوث بينت أن سلوك الفأر حين يستسلم هو أكثر حكمة من سلوكه تحت مضادات الاكتئاب التي تجعله يستمر بالمحاولة غير المثمرة. فحين يستسلم الفأر يبقي خطمه فوق الماء ليتنفس وهو يطفو بلا حركة منتظرا فرصة أكثر ملاءمة للهروب، بينما حين يتم إعطاؤه الأدوية فهو يبقى يحاول إلى درجة الإنهاك ومن ثم الغرق! أليس الاستسلام حينئذ، هو عبارة عن استراتيجية مؤقتة لاستثمار فرصة قادمة مواتية على نحو أفضل؟
سلوك الفأر حين يستسلم هو أكثر حكمة من سلوكه تحت مضادات الاكتئاب التي تجعله يستمر بالمحاولة غير المثمرة
ويذكر نيس على نحو مواز كتاب عالم الأحياء المتخصص في الطيور والحشرات هينريش بيرند بعنوان (اقتصاد النحلة) المنشور سنة 1989، والذي يتكلم فيه عن رجوع النحل لخليته حين تشتد سرعة الرياح مما يجعل طيرانه صعبا، وتصير جهوده في امتصاص الرحيق من الزهور مضاعفة، فكأنه يفضل توفير تلك الجهود لوقت أكثر مواتاة.
ومثل الألم الجسدي الذي ينبهنا بضرورة التوقف وفحص مصدر الألم، فإن للحزن وظيفة وهي عدم الاستمرار في التحمس لمشروع يكون احتمال النجاح فيه غير موات. ويجدر بنا هنا أن نذكر العواقب الوخيمة التي يجلبها اضطراب (الهوس) على المصاب وذويه حين يقدم في نوبة الفرح المرضية تلك، والانشراح والنشوة الزائدة، على الإقدام بمشاريع واضح فشلها منذ البدء، إلا أن تحمسه يعميه عن المنطق.
بالطبع فإن هذه المقالة لا تقصد أن تقول إن اضطراب الاكتئاب هو شيء طبيعي، بل هي محاولة لتوضيح الفرق بين الحزن الطبيعي كرد فعل منطقي، وبين اضطراب الاكتئاب الذي يكون بلا مبررات كافية ويحتاج لعلاج جدي ومهم قد يشمل مضادات الاكتئاب، بل في بعض الحالات يستدعي العلاج بالصدمات الكهربائية لإنقاذ المريض.
وعودة على الآية القرآنية الكريمة التي بدأنا فيها هذه المقالة من سورة النحل، يقول تعالى مخاطبا النحل (واسلكي سبل ربك ذللا). تقول التفاسير إن (ذللا) هي حال من السبل، أي أن السبل مذللة لك وسهلة، وهناك تفسير آخر يقول إن (ذللا) هي حال من النحل، وتعني في هذا السياق مطيعة منقادة. وهنالك استخدام استعاري آخر لجذر (ذل) في القرآن وذلك في الآية (وأخفض لهما جناح الذل)، ويقصد هنا عدم التكبر والتواضع كما نفهم من السياق. نرى في حكمة أجدادنا أنهم حين يهمون بعمل شيء ويرون أن هناك كثيرا من الأمور تعارضه وتعرقله يتوقفون لبرهة يعيدون حساباتهم، ولو وجدوا أن العراقيل كثيرة يؤجلون الموضوع لوقت وظرف آخر مرددين قوله تعالى (وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم).
لقد كانت هذه المقالة دعوة لكي ندرك أنه من الحكمة أحيانا تغيير استراتيجياتنا أمام بعض الأهداف الصعبة المنال خصوصا في الأوقات غير المواتية، وأن نتقبل الحزن أو الانكفاء أحيانا، وأن نفرقه عن اليأس المرضي. وهي كذلك دعوة للتأمل في المخلوقات والتواضع وتعلم بعض الحكمة من مخلوقات بسيطة: فأر ودجاجة ونحلة.