حق المواطنة في الهند: صراع داخلي بارتدادات خارجية

تتواصل الاحتجاجات في الهند منذ ديسمبر 2011 منددة بقانون الجنسية الذي يمنح حقوق المواطنة الهندية للسيخ والهندوس والزرادشتيين القادمين من الدول المجاورة، ويستثني منها المسلمين، في خطوة تتجاوز تداعياتها الشأن الداخلي ليكون لها تأثير على دول الجوار والدول الإسلامية، التي يرى القوميون الهندوس أنها أولى باستقبال اللاجئين المسلمين.
نيودلهي- يعيش الشارع الهندي على وقع مظاهرات حاشدة بدأت منذ إقرار البرلمان في 11 ديسمبر 2019 قانون يقضي بمنح الجنسية الهندية للاجئين من دول مجاورة مختلفة، لكنه يستثني المسلمين. وحاول رئيس الوزراء الهندوسي ناريندار مودي طمأنة المتظاهرين وتهدئة المنتقدين لهذا القانون، الذي يحول الهند إلى دولة عنصرية بامتياز، بتبريرات زادت غضب الشارع من التحولات الطارئة في المجتمع والسياسة.
قد يبدو هذا الجدل، في ظاهره، شأنا داخليا، لكن بمراجعة التصريحات وحجج الحكومة الهندية في تبرير ما اعتبر تمييزا ضد المسلمين، الذين يشكلون أكبر أقلية في البلاد و14 في المئة من سكانها، يتبيّن أن لهذه الخطوات تداعيات آثارها لن تطال فقط الهند، ثالث أكبر دولة من حيث عدد المسلمين في العالم، بل ستجد لها صدى في علاقات الهند بالدول المسلمة، وسيكون لها تأثير على دول إقليمية تستقبل عددا لافتا من الهنود، ومنهم المسلمون، على غرار دول الخليج العربي.
وكانت الحكومة الهندية قالت في ردها على الانتقادات إن السبب وراء عدم إدراج المسلمين ضمن الفئات المذكورة في القانون هو قدرتهم على اللجوء إلى الدول الإسلامية في مختلف أنحاء العالم. وشدد على ذلك الوزير الأول في ولاية غوجارات، فيجاي روباني بقوله “للمسلمين 150 دولة يمكنهم العيش فيها، لكن بالنسبة للهندوس هناك دولة واحدة فقط، وهي الهند”.
وفي تصريح آخر لا يقل عنصرية، قال يوغي أديتياناث، الوزير الأول في ولاية أوتار براديش، في تعليقه على الاحتجاجات المنددة بقانون الجنسية، هؤلاء “الإرهابيون” يجب “إطعامهم الرصاص وليس البرياني”، مضيفا أن “الاحتجاجات التي تحدث في أماكن مختلفة في دلهي ليست بسبب تعديل قانون الجنسية. لكنها تحدث لأن هؤلاء الناس يريدون منع الهند من أن تصبح قوة عالمية”.
بموجب القانون الجديد، تمنح الجنسية الهندية للبوذيين والمسيحيين والهندوس والبارسيين والسيخ الذين فروا من باكستان وأفغانستان وبنغلاديش بسبب الاضطهاد الديني قبل عام 2014. ولا يشمل اللاجئين الروهينغا المسلمين الذين فروا من الاضطهاد في ميانمار أو جاؤوا من باكستان وغيرها.
وتقول الحكومة الهندية إن هدفها يكمن في توفير ملاذ للأقليات الدينية المضطهدة القادمة من هذه الدول المجاورة وهي دول إسلامية. لكن، يخشى جل منتقديها من أن تكون الخطوة محاولة أخرى لتهميش المسلمين الهنود بشكل أساسي. وترتكز هذه القراءة على مقترح إنشاء السجل الوطني، الذي يشترط على المسلمين إثبات “مواطنتهم” من خلال تقديم وثائق ومستندات تثبت ذلك كي يُعترف بهم كمواطنين هنود، فتكون وطأة تلك الآثار تبعية وتراكمية. كما أجاز القانون لغير القادرين على إثبات مواطنتهم أن يستردوا الجنسية وفقا للقانون الجديد؛ باستثناء المسلمين.
وفقا للدستور، الهند هي دولة علمانية وتقبل بجميع الأديان، وهو موقف يتزايد التشكيك فيه، وسط سياسات حزب بهاراتيا جاناتا (حزب الشعب) برئاسة رئيس الوزراء ناريندرا مودي، التي تقود نحو دولة هندوسية. وتنسف ممارسات من قبيل قانون الجنسية وإحصاء سكاني مثير للجدل، وإنشاء السجل الوطني، والمواقف العنصرية من قبيل التصريحات كما بناء معبد هندوسي مكان مسجد يعود إلى القرن السادس عشر، وعود مودي بأنه سيكون رئيس وزراء لجميع الهنود. وقال إنه ما من داع لتخاف الأقليات.
ويقول آنوبهاف غوبتا، المدير المساعد لمعهد سياسة مجتمع آسيا، ومقره في نيويورك، إن “سمعة رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي العالمية تلطّخت”، لافتا إلى أن قانون الجنسية المثير للجدل يلخص الاتجاه الحاد الذي قرر اعتماده في ولايته الثانية، والذي يتماشى مع الأهداف الأيديولوجية الهندوسية التي وضعها حزب بهاراتيا جاناتا، والتي تتعارض مع الأسس العلمانية للهند.
ويضيف غوبتا “فاز مودي بولاية ثانية لرئاسة الوزراء، لكنه هدم مصداقيته وقلّص من قاعدة داعميه بتهديد هوية الهند العلمانية والديمقراطية”. وتوسعت قائمة منتقدي سياسات البلاد، حيث عبّر كبار رجال الأعمال، مثل الرئيس التنفيذي لشركة مايكروسوفت ساتيا ناديلا (ذو الأصول الهندية)، عن قلقهم بشأن قانون الجنسية. ودعا أكثر من 100 مسؤول هندي متقاعد، بما في ذلك بعض وزراء الخارجية السابقين، الحكومة إلى إلغاء القانون. وتحت الضغط الشعبي الذي واجهوه، قرر نجوم بوليوود انتقاد الحكومة تضامنا مع المحتجين الذين يعانون من القمع.
وإذا استمرت الاحتجاجات دون أن تتغير الأمور، سيزداد الضغط على حكومة مودي، التي تقود البلاد، وفق شاشي ثارور، نائب الأمين العام السابق للأمم المتحدة والذي يشغل حاليا منصب عضو البرلمان عن المؤتمر الوطني الهندي، “نحو حكم استبدادي عنيف وغير متسامح وغير ليبرالي”.
ومنذ ديسمبر الماضي، يخرج الآلاف من الهنود، وخاصة الطلاب، إلى الشوارع مطالبين بإلغاء القانون. وعشية الانتخابات المحلية (8 فبراير 2019)، ازداد الوضع توترا بعد أن وقعت ثلاث هجمات بإطلاق نار بالقرب من موقع احتجاج في دلهي. وقال سانديب شاستري، أستاذ العلوم السياسية “بالنسبة لحزب بهاراتيا جاناتا، فإن انتخابات الولاية هي استفتاء على قانون تعديل المواطنة. إنهم يحاولون بناء شعور بأن الأمة كلها في خطر”.
أمواج عاتية
تماشى تضخم نزعة الهندوس المتطرفين في الهند مع الاتجاه العالمي المتمثل في صعود الشعبوية اليمينية المتشددة، لكن الخبراء يحذرون من أن الأمر أكثر خطورة في الهند من حيث تركيبة المجتمع، كما من حيث الموقع الجغرافي، وخصوصية العلاقة بين الهند وجيرانها.
ويعبر على ذلك دانيانيش كامات، خبير في الشرق الأوسط وجنوب آسيا، قائلا في تحليل نشره موقع syndicationbureau، “إنها مسألة وقت فحسب؛ قبل أن تثور الأمواج العاتية الناجمة عن السياسة الداخلية للهند عبر بحر العرب، بل إنّها مسألة غير مسبوقة وتبعث على القلق، وربما تتغلغل إلى العلاقات الهندية بالشرق الأوسط وتؤثر فيها سلبا”.
ويذهب في ذات السياق آنوبهاف غوبتا لافتا إلى أنه على الرغم من عدم تأثر علاقات الهند وحكومات الدول ذات الأغلبية المسلمة في الشرق الأوسط وأيضا في جنوب شرق آسيا تأثيرا واضحا، يمكن أن تشوش التقارير الناقدة لأجندة مودي القومية الهندوسية (والتي برزت في قضية كشمير وقانون الجنسية) على مكانة الهند في المنطقتين. كما تأثرت قوتها الناعمة وتشوّهت صورتها كبلاد ديمقراطية، حيث تراجعت مرتبتها في مؤشر الديمقراطية.
تداعيات خارجية
يركز دانيانيش كامات، في تحليله، على علاقات الهند بدول الشرق الأوسط، وبشكل خاص دول الخليج العربي، التي تستقطب عددا لافتا من المهاجرين الهنود. ويرى الباحث، الذي يسدي مشورات للحكومات بشأن السياسات والمبادرات الاستراتيجية، أن الصراع السياسي القائم في الهند يجب أن يثير اهتمام الخارج أيضا، وخاصة الشرق الأوسط.
ويقول كامات إن “الحكومات المتعاقبة في الهند استطاعت أن تحقّق ما تطمح إليه بلدان أخرى من الحفاظ على علاقات طيبة مع جميع بلدان المنطقة في الشرق الأوسط؛ ولكن سرعان ما ستنفك تلك العلاقات الودية وتنحل”، لافتا إلى هذا الوضع يضع حلفاء الهند في الشرق الأوسط أمام مفترق طرق إما تجاهل هذه الأزمة المتصاعدة، وإما انتقادها ضمن سياق مواجهة استهداف المسلمين في ميانمار والصين والهند، ضمن سياسة قد تعد تدخلا في شؤون داخلية للهند.
ويشير جيمس دورسي، الباحث في السياسات الدولية بجامعة نانيانج في سنغافورة، إلى أن الوقوف في وجه المعتدين على حقوق الأقليات المسلمة المهددة يعدّ اختبارا أساسيا لدول مثل السعودية والإمارات التي تبذل جهودا عالمية لتعزيز التسامح وتناصر القضايا التي تهم ما يزيد على مليار ونصف مليار مسلم في مختلف أنحاء العالم.
الهنود في الخليج
النقطة الأخرى التي يلفت إليها كامات الاهتمام، ويمكن أن تمس دول الخليج بشكل مباشر، هي قضية الهنود المهاجرين؛ حيث يقول “تنتظر الهنود المسلمين هوة سحيقة وهلاك حتمي، لأنّ وجود خطر احتمالية عدم تمتعهم بالجنسية وحرمانهم من حقوقهم وترحيلهم يحيط بهم من كل مكان، وهو الأمر الذي سيمتد صداه ليصل إلى دول الجوار مباشرة”.
تستضيف دول مجلس التعاون الخليجي 7 ملايين هندي، يمثلون أكثر من 60 بالمئة من المغتربين هناك. من بين هذا المجتمع، توجد نسبة كبيرة من الهنود المسلمين. وبطبيعة الحال، إنّ أي توتر يصيب النسيج الاجتماعي الهندي سيكون له أثر في التماسك المجتمعي بين الهنود الموجودين في دول الخليج. وهنا يتساءل كامات “ماذا ستفعل دول الخليج إذا وجدت نفسها فجأة تستضيف عددا هائلا من الهنود المهمشين و’البدون؟”.
وفي تغطية أخرى ركزت على موقف دول الخليج العربي، وتحديدا السعودية والإمارات مما يجري في الهند، نشرت مجلة الدبلوماسي الأميركية تحليلا لكبير تانيجا تناول العلاقات بين نيودلهي والعاصمتين العربيتين، وكيف يلعب تقارب أكثر من عقد من المتغيرات الجيوسياسية والاقتصادية الجديدة التي فرضت تغييرا على قواعد اللعبة في كبرى العواصم العالمية، دورا في تحديد المواقف.
ويرى محللون أن الرياض وأبوظبي صارتا تنتهجان سياسة خارجية أكثر واقعية وتتبعان دبلوماسية أكثر اتزانا. وهذا ما يحدد مواقفهما وعلاقاتهما مع الهند أو مع غيرها من الدول. وهنا، يلفت تانيجا إلى أزمة كشمير الأخيرة، خلال أغسطس الماضي، وكيف كان لزيارة مستشار الأمن القومي الهندي، أجيت دوفال، إلى الرياض من أجل تقديم تفاصيل خطوة الهند المُتعلّقة بكشمير، وقع إيجابي.
التأثير على إيران
تتميز دبلوماسية الهند في منطقة الشرق الأوسط بروابط دبلوماسية متينة مع السعودية وإسرائيل وإيران، التي يأتي اسمها أيضا على قائمة المتأثرين بتطورات الوضع الداخلي في الهند. ويتحدث دانيانيش كامات، في تحليله، عن هذه التأثيرات مشيرا إلى أن القادة الإيرانيين قد يجدون صعوبة بالغة في تجاهل الأحداث الجارية في الهند. فلوقت طويل، حاول حزب بهاراتيا جاناتا وضع الشيعة الهنود في موضع سياسي، لتكون قوة موازية للهنود المسلمين السنة.
وفي خطوة غير مسبوقة في هذا السياق، سُمح للرئيس الإيراني حسن روحاني بإلقاء خطاب علني من مسجد من القرن السادس عشر، الذي يعتبر ذا أهمية تاريخية للشيعة الهنود في عام 2018. ونظرا لأن قانون الجنسية الجديد ينذر بإثارة غضب المسلمين الهنود من كافة الطوائف، فقد اندلعت الاحتجاجات أيضا من مراكز شيعية في الهند.
أي توتر يصيب النسيج الاجتماعي الهندي سيكون له أثر في التماسك المجتمعي بين الهنود الموجودين في دول الخليج
وعلى الرغم من علاقاتهم الودية، لم يتراجع القادة الإيرانيون في ما مضى عن انتقاد سياسات نيودلهي الداخلية. ففي عام 2016، أشار المرشد الأعلى علي خامنئي بوضوح إلى كشمير وفلسطين في أحد خطاباته، الذي كان يوجه فيه انتقادا لاذعا لنيودلهي، كما أشار إلى كشمير مرة أخرى في العام الماضي، وذلك بعدما ألغت نيودلهي الحكم الذاتي للإقليم وفرضت حكما مباشرا. مع ذلك، يقول الخبراء إنه لن يكون من السهل على إيران استغلال الوضع واللعب في الملعب الهندي كما هو الحال مع شيعة دول الشرق الأوسط أو في نيجيريا.
خطر المتشددين
ثار رجال الدين الإسلاميون والقادة المسلمون في الهند، إضافة إلى الجامعة الإسلامية في دلهي احتجاجا على فكرة توطين الهندوس والسيخ داخل الهند، واستثناء المسلمين. وأضربت الجامعة الإسلامية في دلهي مع الطلاب المسلمين الذين كانوا يحرقون الحافلات والممتلكات العامة، مطالبين بإدراج المسلمين أيضا في قائمة الأشخاص الذين يتم منحهم الجنسية.
يحذر الخبراء من أن السياسات الهندية ضد المسلمين تعمل على تأجيج مشاعر المتشددين وتقدم فرصة للجماعات المتطرفة في الهند وباكستان والمنطقة. وكتب طارق فتاح، الصحافي الهندي الكندي قائلا “وإذا أردنا مشاهدة الهند من خلال عدسة وسائل التواصل الاجتماعي والبيانات التي أدلت بها النخب الحضرية من الطبقة الوسطى في اليسار، فإن البلاد تواجه حالة من الفوضى قد تفضي إلى كارثة… سيجد الإسلاميون المتشددون فيها ذريعة”.