حفتر "رئيس".. حل أم مزيد من التعقيد في الأزمة الليبية

القاهرة- برزت مؤشرات تدريجية في الآونة الأخيرة باتجاه الدفع باسم المشير خليفة حفتر قائد الجيش الوطني الليبي إلى الترشح لانتخابات الرئاسة العام المقبل، والتي تعدّ أحد البنود الأساسية للمبادرات الإقليمية والدولية، وفي مقدمتها الأمم المتحدة لتسوية الأزمة الليبية.
تتراوح مؤشرات الدفع بحفتر إلى المجال السياسي ما بين حملات تفويض شعبي له برئاسة البلاد شهدتها بعض المدن الشرقية، وإيماءات أوروبية صريحة، منها تصريح وزير الخارجية البريطاني بوريس جونسون لإحدى الإذاعات البريطانية إثر زيارته لليبيا في الشهر الماضي بأن قائد الجيش الوطني تعهد بالتخلي عن الحكم العسكري، إذا نجح وأصبح رئيسا للبلاد، بل إن فايز السراج رئيس حكومة الوفاق الليبي ذاته عبّر في شهر يوليو الماضي عن عدم ممانعته ترشح حفتر للرئاسة، طالما أن الشعب سيختار مرشحه في انتخابات نزيهة.
تلاقت هذه التطورات مع تحركات حفتر الأخيرة، التي تشي بطرح نفسه كزعيم سياسي، أكثر من كونه قائدا عسكريا مؤثرا في موازين المعادلة الليبية، وبخلاف زياراته الخارجية خلال سبتمبر الجاري إلى تونس والكونغو برازافيل، ومن قبلها، استقباله لوزراء أوروبيين من بريطانيا وفرنسا وإيطاليا في بنغازي، عُدّ قائد الجيش الوطني طرفا سياسيا رئيسيا في الحوار حول تسوية الأزمة الليبية مع السراج، سواء في لقاءات مباشرة في الإمارات (مايو الماضي)، وفرنسا (يوليو الماضي)، أو اجتماعات لأطراف الأزمة مع المسؤولين في كل من أبوظبي والقاهرة والجزائر وموسكو، الأمر الذي يطرح تساؤلا حول: لماذا تصاعد الرهان على المشير حفتر لرئاسة ليبيا، وهل ثمّة عوائق قد تقف حائلا أمام ذلك السيناريو المحتمل؟
الجزائر تتحفظ على الصعود السياسي لحفتر لأنها تخشى من إضعاف تحالفاتها ومصالحها المتركزة في غربي ليبيا
لا يمكن عزل الرهان على حفتر لرئاسة ليبيا عن طبيعة أزمة هذا البلد منذ العام 2011، وهناك اتفاق عام بين قوى الداخل والخارج على أن أحد مداخل الاستقرار يكمن بالأساس في بناء مؤسسة عسكرية ليبية موحدة وغير مسيّسة تستطيع احتكار القوة والسيطرة الأمنية على الحدود، بعدما خلّف انتشار السلاح والميليشيات ليس فقط فوضى أمنية، وإنما أعاق المسار السياسي وبناء مؤسسات الدولة، وسمح بتصاعد تهديد الجماعات الإرهابية بانتماءاتها الداعشية والقاعدية، وتطاير شظاياها إلى الجوار الإقليمي.
لماذا قائد الجيش
شكّلت مساعي حفتر لبناء مؤسسة عسكرية نظامية تسيطر على وظيفة الدولة الأمنية مع انطلاق عملية الكرامة قبل أكثر من ثلاث سنوات في سياق مكافحة الإرهاب في الشرق، استجابة لمواجهة أحد المسببات الرئيسية للفوضى الليبية، الأمر الذي أثمر تغييرا في موازين القوى عبر السيطرة الميدانية للجيش الوطني على معظم مدن الشرق باستثناء درنة، فضلا عن الهلال النفطي في الوسط، كمورد رئيسي للدخل القومي.
ساند حفتر خلال هذه السنوات تحالفات قبلية وسياسية متعددة في الشرق، أعادته إلى الخدمة العسكرية، ثم تمّ تعيينه قائدا للجيش الوطني في مارس 2015، إضافة إلى تحالفات أخرى قبلية سواء مع أطراف من التبو في الجنوب والزنتان وورشفانة في الغرب، وتعزّزت تلك التحالفات بدعم إقليمي من مصر والإمارات للجيش الوطني، في إطار سعي البلدين لمكافحة الإرهاب، فضلا عن مجابهة قوى إقليمية مناوئة، مثل، قطر وتركيا والسودان دعّمت بالمقابل تحالفات مناوئة لحفتر من الإسلاميين ومصراتة في غرب ليبيا.
مع تغيّر قواعد اللعبة لصالح الجيش الوطني في الشرق، تبنّت القوى الأوروبية، خاصة إيطاليا وفرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة مقاربة براغماتية تقضي باستيعاب حفتر، جنبا إلى جنب مع رهانها على حكومة الوفاق المعترف بها أمميا، لإنقاذ اتفاق الصخيرات من عثرته، بسبب رفض مجلس النواب المادة الثامنة من باب الأحكام الإضافية التي وضعت المناصب الأمنية في يد مجلس رئاسة الوزراء.
|
وعنت تلك المادة مباشرة تهميش حفتر الذي صار قائد مؤسسة عسكرية باتت ظهيرا رسميا لمجلس النواب، بل إن صعود الرجل مثّل – في أحد مضامينه غير المباشرة – تعبيرا عن محاولة بعض قوى الشرق إنهاء التهميش السياسي والتنموي الذي تعرّضت له طيلة العقود الماضية، وكانت سببا في انطلاق المعارضة المسلحة ضد حكم القذافي من بنغازي.
لكن المقاربة الاستيعابية لحفتر – التي برزت على لسان وزراء خارجية أوروبيين عديدين – لم ترافقها أطروحات محددة حول كيفية حدوث ذلك، بل على العكس، بدت هناك محاولات دولية لموازنة نفوذ الجيش الوطني عبر بناء قوة أمنية، كظهير أمني لحكومة الوفاق من خلال قوة الحرس الرئاسي التي تأسست بقرار من السراج في مايو 2016 كمؤسسة عسكرية لتأمين المنشآت والحدود.
وتعززت المحاولات مع نجاح قوات البنيان المرصوص بتطهير سرت من داعش نهاية العام الماضي، لكن قوة الحرس الرئاسي لم تجد تفعيلا على الأرض بسبب خلافات الميليشيات في طرابلس ومصراتة ذاتها. في الوقت نفسه، تمدد الجيش الوطني الليبي من الشرق والوسط إلى الجنوب، مع نهاية النصف الأول من العام 2017، وتصاعدت تهديداته باجتياح العاصمة طرابلس.
مع امتلاك حفتر قوة عسكرية أخذت طابعا نظاميا نسبيا وسيطرت على غالبية أراضي ليبيا، مقارنة بهشاشة الوضع الأمني لغرمائه في الغرب، سارعت القوى الأوروبية إلى خطب ودّ قائد الجيش الوطني، خشية تمدّده نحو طرابلس، الأمر الذي قد يعني قلب المعادلة كليا؛ علاوة على مساع أوروبية لممارسة سياسة استباقية لتحجيم النفوذ الميداني لحفتر واستيعابه صعوده، عبر التركيز على مسار سياسي من دستور وانتخابات برلمانية ورئاسية، وتوحيد المؤسسة العسكرية في إطار تعديلات اتفاق الصخيرات.
عقبات وتحديات
ربما يجد سيناريو صعود حفتر إلى السلطة قبولا لدى بعض القوى الأوروبية، حال جاء على قاعدة التداول السلمي الديمقراطية والالتزام بمدنية الدولة، كما قال وزير خارجية بريطانيا مؤخرا، لكن ذلك السيناريو ربما يواجه عراقيل.
أول هذه العراقيل أن ثمّة احتمالا قويا لنشوء معارضة داخل الشرق الليبي لتحوّل دور حفتر من المجال العسكري إلى السياسي، خاصة أن له معارضين داخل مجلس النواب ذاته وخارجه، بخلاف أن البعض قد يربط ذلك السيناريو بإعادة إنتاج تجربة القذافي، وإن كان ذلك فيه قدر من المبالغة لتغير السياقات الليبية ونشوء تعددية سياسية واسعة بعد 2011 بات من الصعب على سلطة ليبية تجاوزها.
المقاربة الاستيعابية لحفتر التي برزت على لسان وزراء خارجية أوروبيين لم ترافقها أطروحات حول كيفية حدوث ذلك
ثانيها، أن هنالك عدم قبول داخل الغرب الليبي عموما، بما يحويه من فواعل إسلامية ومصراتية، لسيناريو رئاسة حفتر، بالنظر إلى غلبة العوامل المناطقية والقبلية على السلوك السياسي الليبي، فضلا عن طبيعة العلاقة الصدامية بين حفتر والتيار الإسلامي، على خلفية اتهامات قائد الجيش الوطني لجماعة الإخوان بدعم الإرهاب.
يتعلق ثالث العراقيل بالمخاوف من تحوّل الانتخابات الرئاسية إلى معركة مناطقية على رئاسة ليبيا بين شرقي وغربي البلاد، بما قد ينتج صراعا أهليا وتأزما أكثر لمعضلة ليبيا، خاصة أن ثمة اتجاهات لبزوغ مرشحين منافسين آخرين منهم، مثلا، عبدالباسط اقطيط (رجل أعمال ليبي يحمل الجنسية الأميركية) الذي طرح نفسه خلال سبتمبر الجاري لقيادة البلاد، عبر انتقاد كل من السراج وحفتر، داعيا الليبيين في العاصمة طرابلس للخروج لتفويضه في الـ25 من سبتمبر الجاري.
ورابعها، أن قوى إقليمية مثل الجزائر تتحفظ على الصعود السياسي لحفتر بل وربما تعمد إلى دعم مرشحين منافسين له، لا سيما أنها تخشى من إضعاف تحالفاتها ومصالحها المتركزة في غربي ليبيا.
ويرتبط خامس عراقيل تحديات سيناريو صعود حفتر للرئاسة إلى أن بعض القوى الغربية، ومنها إيطاليا وبريطانيا، تخشى من طرح اسم حفتر في أي انتخابات رئاسية خلال وقت قريب بما يعني فوزه بالمنصب، نظرا لما حققه في السنوات الأخيرة.
ولعل هذا ما دفع وزير خارجية إيطاليا أنجلينو ألفانو مؤخرا إلى التحذير من التسرع بإجراء انتخابات، كي لا تؤدي إلى “نتائج عكسية”. والمعنى ذاته، صرّح به وزير خارجية بريطانيا، سواء عندما دعا الليبيين إلى عدم تكرار خطأ تيريزا ماي رئيسة وزراء بريطانيا في إجراء انتخابات مبكرة، أو تأكيده خلال اجتماعه مع وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون في لندن مؤخرا على إقرار الدستور والاتفاق السياسي والأمني قبل إجراء أي انتخابات في ليبيا.
|
اللافت أن خارطة الطريق حول ليبيا، التي أعلنها المبعوث الأممي غسان سلامة أمام الأمم المتحدة في نيويورك الأربعاء 20 سبتمبر الجاري، تبنّت ذلك الاتجاه الإيطالي- البريطاني، عندما تدرجت مراحلها من تعديل الاتفاق السياسي، وعقد مؤتمر وطني وإقرار الدستور ثم إجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية مع نهاية العام المقبل، ويعني ذلك أنه سوف يسبق أي صعود محتمل لحفتر للرئاسة، هندسة دستورية وسياسية وأمنية للوضع الليبي تمثّل في حد ذاتها بيئة تلجم أي تأثيرات لذلك الصعود على المصالح الغربية.
وربما يتضح ذلك لاحقا عند الدخول في تفاصيل الحوار الليبي المقرر إطلاقه في 26 سبتمبر الجاري حول تعديل اتفاق الصخيرات ومنها صلاحيات منصب الرئيس ذاته، ونائبيه وفقا للمقترح الذي يؤيده مجلس النواب للمجلس الرئاسي الراهن بتقليص عدده من 9 إلى 3، وفصله عن رئاسة الحكومة.
تعقّد مثل هذه العراقيل وغيرها سيناريو صعود حفتر لرئاسة ليبيا، وترهنه بالأساس بمدى قدرة الرجل ذاتها، باعتباره معارضا سياسيا سابقا لأكثر من 25 عاما لنظام القذافي وقائدا حاليا للجيش الليبي، على بناء سياسات وتوافقات تبدد هواجس قوى الداخل والخارج تجاهه، لجهة تعزيز الفكرة المدنية للدولة والمسار الديمقراطي وبناء مسار تصالحي مع القوى الفاعلة في الغرب أو الشرق أو الجنوب أو قوى نظام القذافي السابق.
والأكثر أهمية ضمان أن أي انتقال محتمل لحفتر من المجال العسكري إلى السياسي يوازيه بناء مؤسسة عسكرية مهنية وموحدة توفر للدولة الليبية القدرة الأمنية على إجراء أي استحقاقات دستورية أو برلمانية أو رئاسية مرتقبة دون تأثير العامل الميليشياوي. برز ذلك الأمر واضحا مع اتفاق ضباط ليبيين في القاهرة، برعاية اللجنة المصرية المعنية بليبيا في الـ18 من سبتمبر الجاري، على تشكيل لجان فنية لبحث إجراءات توحيد المؤسسة العسكرية في البلاد وإبعادها عن الصراعات السياسية والأيديولوجية.