حسين ماضي لبناني وهب المفردة البصرية قوة اللغة

ترسم عصفورا فيكون عصفورك الذي لا يشبه أي عصفور آخر. ترسم شجرة فتكون شجرتك التي تتشبه أوراقها بأحلامك. الطبيعة تلهمك غير أنك في الوقت نفسه تستولي على مفرداتها لتضمها إلى قاموسك الشخصي. تلك موهبة لا يتمتع بها الكثير من الرسامين.
شغف حسين ماضي الذي توفي قبل وقت قصير بالطبيعة جعله يتخطى مرحلة القرب منها، ليقيم في قلبها ويتلمس الطريق إلى جوهرها. إنه يرسم وينحت لا بإلهام منها بل كما لو أنه يؤدي عملها. هو الحارس اليقظ الذي يؤدي جزءا من مهمته من خلال التقاط أحلامه قبل أن تشتبك بها عناصر الطبيعة. في اللحظة التي يطبق المشهد على حقوله يهرب ماضي بلقيته.
الطبيعة وماتيس
لقد اكتسب الفنان من الطبيعة واحدة من أهم عادات جمالها.
لا تنتظر الطبيعة كثيرا حتى تتغير. كل لحظة تمر تجلب معها شجرة مختلفة عن تلك التي سبقتها. لهذا فقد تعلم ماضي كيف يكون وفيا للحظة جمال، لو لم يهرب بها لكانت قد فنيت.
ينحدر الفنان من ماضي الطبيعة ليؤسس لمستقبله الشخصي. ترف ورخاء وهدوء. هذا ما تعلمه من الفرنسي هنري ماتيس. معلمه الخيالي الذي شاء أن يطور تجربته ونجح في ذلك.
لقد تعامل ماضي مع ملهمه الأسلوبي ماتيس بالطريقة نفسها التي تعامل من خلالها مع ملهمته البصرية الطبيعة. التقط لقيتك الجمالية واهرب.
وكما أرى فإن ماضي ظل وفيا لمصدري إلهامه من غير أن تكون له حاجة إلى إنكار ذلك. فقد كان مخلصا لمفهومه الشخصي عن الجمال. وهو مفهوم يمزج الزهد بالنشوة، التخلي بالفتنة، القلة بكثرة ما تنطوي عليه الطبيعة من محرضات جمالية.
حسين ماضي يرسم وينحت بخطوط تحمل الكثير من الرسائل الشعرية.
لديه خطط لتغييب المعنى من أجل أن يكون الجمال حاضرا. حينها لا يكون العصفور سوى زقزقته ولن يكون الديك سوى صيحة صباحه ولن تكون الشجرة سوى خضرتها العابرة.
بين الرسم والنحت
ولد حسين ماضي عام 1938 في قرية بقعاتة كنعان بقضاء كسروان. عام 1962 أنهى دراسة الرسم في الأكاديمية اللبنانية للفنون. بعدها انتقل إلى روما ودرس في أكاديميتي بيلي أرتي وسان جاكومو. ما بين عامي 1973 و1986 عاش متنقلا بين روما وبيروت حيث كان يمارس تدريس الرسم في الجامعة اللبنانية. حين عاد من روما أصبح أستاذا في معهد الفنون الجميلة ببيروت. عبر عشرين سنة قضاها ماضي في روما رساما ونحاتا وحفارا تعلم تقنيات فن الفريسكو والموازييك. عام 1965 عرض لأول مرة أعماله في روما. بعدها أقام أكثر من ستين معرضا شخصيا.
حصل الفنان على جائزة الصالون الخامس لمتحف سرسق لسنة 1965/ 1966 وجائزة الصالون الثامن للنحت لعام 1969/1968 التي قدمها المركز الثقافي الإيطالي. كما نال الجائزة الأولى للحفر في إيطاليا عام 1974. إضافة إلى ذلك فقد تم تقليده وسام نجمة التضامن من قبل الحكومة الإيطالية عام 2003.
يقول الفنان “في روما لم أترك تقنية لم أدرسها وأتعامل معها، لأنني عاهدت نفسي منذ البدايات أن أختار كل ما من شأنه أن يضفي قيمة ومعنى على منجزي الفني، وإلا سأصبح مجرد مكرر ومجتر للأشياء من غير إضافة أو معنى. هذا العهد جعلني أخوض منذ البداية في مجال التقنيات المتنوعة، فتعاملت مع الحفر على الحجر والخشب واللينوليوم وصب البرونز إضافة إلى الفريسكو والموازييك وغيرها من التقنيات والمواد المختلفة. ومعها جميعا كنت أحاول إغناء تجاربي حتى أتمكن من الوصول إلى تبسيط تعابيري واختزالها ضمن خصوصيتي إلى أقصى درجة ممكنة”.
حسب علمي لم يمزج ماضي الفنون التي تعلمها بعضها بالبعض الآخر كما فعل فنانون آخرون. لقد مارس كل واحد من تلك الفنون على حدة. فكان بشكل أساس رساما خالصا ونحاتا خالصا. غير أن أشكاله ظلت تتنقل بين الفنين. وهو ما سمح له بالتعرف على القدرات الكامنة لتلك الأشكال. فالشكل الذي سبق له وأن اكتشفه مرسوما على سطح لوحته صار سواه حين تم نحته وأصبح مجسدا في الفراغ. ولهذا فإن ذلك الشكل حين يعود من النحت إلى الرسم يكون محملا بخيال جديد وطاقة تعبير مختلفة. ما لم يكن ماضي قد تعلمه أثناء دراسته تعلمه أثناء الممارسة العملية. لقد نمت أشكاله بين الفنين بطريقة قد تكون قد أدهشته شخصيا قبل أن تدهش متابعي أعماله.
الصرامة تنتج شعرا
في رسومه ومنحوتاته على حد سواء غالبا ما يكتفي حسين ماضي بمفردات قليلة. أحيانا مفردة واحدة تكفي. فهو يمارس الرسم والنحت زاهدا بالبلاغة المؤثثة بالزخرف وإن كان أحيانا يلذ له أن يستجيب لإيقاع الزخارف التي تكون جزءا من الموضوع وتضفي عليه طابعا ساحرا.
في الأساس فإن لغة ماضي هي ضرباتها الإيقاعية وليست قدرتها على التعبير. وهو من خلال تلك الإيقاعات ينشئ عالمه الذي لا يتضمن لحظة بؤس واحدة. إنه عالم سعيد. عالم النساء الجميلات اللواتي يعشن عند حدود الحلم، كما لو أنهن لم يتعرفن على الحياة الواقعية من قبل.
من وجهة نظري فإن رساما متعويا مثل حسين ماضي لم يكن يرسم إلا بعد أن تتمكن منه المفردة خياليا. سيكون الرسام بمثابة اليد التي ترسم ما يمليه خيال تلك المفردة عليها. شيء أشبه بالإيحاء الذي يحضر مثل لغز. ماضي هو رسام أيقونات حياة لا تزال قيد التداول.
صرامة ماضي في ضبط الحدود الخارجية لأشكاله تتناقض مع الطابع الشعري لتلك الأشكال. علينا أن نكون حذرين في الوصف. ذلك لأن أعمال هذا الفنان تقع خارج الوصف. فهي لا تصف وإن كانت تستعرض مفردات هي في حقيقتها نتاج خيال لا يزال في طور الاستعمال.
◙ في رسومه ومنحوتاته على حد سواء غالبا ما يكتفي حسين ماضي بمفردات قليلة، فأحيانا مفردة واحدة تكفي
سيكون علينا مع حسين ماضي أن نتعلم لغة شعرية صارمة لا تقبل أي نوع من التكرار والأهم أنها لا تستعمل العاطفة من أجل ابتزاز متلقيها. صرامة الأشكال التي يبتكرها ماضي تنتج شعرا بصريا من نوع مختلف. يود الفنان أن ننصت إلى الإيقاع باعتباره بديلا عن اللغة.
يقول الناقد الفني والرسام غسان مفاضلة عن حسين ماضي “اكتشافه المبكر لجماليات الطبيعة ووقوفه على تراثها المنثور على امتداد الأفق الموصول بمسقط رأسه في جبل حرمون بمزارع شبعا شكل له رافدا لم ينقطع عن إمداده بالمفردات والعلامات التي راح معها يستدرج مخبوءات المرئي إلى عتبات المشخص والمجرد نحتا وتصويرا”.
ستكون تلك الفكرة هي الأساس الذي يبني عليه حسين ماضي معرضه الاستعادي والذي عنونه بـ”حياة بلا حدود”. تلك هي الحياة التي عاشها. الحياة التي اخترعها وخيل
إليه أنه عاشها كما لو أنها حياة حقيقية. حين يلتفت ماضي إلى الوراء فإنه لا يرى سوى حياة تبدأ بحكاية لم تنه بعد. وهي حكايته الشخصية التي صار يرويها بلغة لم تتمكن منها الحكاية التقليدية.
إنها لغة تتماهى مع شعر، كان بمثابة الهامش.
يلذ لحسين ماضي، كما قلت، أن يُظهر متعته بالزخرفة. وهي كما أظن متعة مؤقتة يستعرض من خلالها الفنان رغبته في أن يتحرر من الأشكال التي رافقته من الأحلام إلى سطوح اللوحات. إنه يطلق من خلال تلك الزخرفة حيوية غير متوقعة ستكون بمثابة إطار لحياة رموزه التي تستمد قدرتها على العيش من اتصالها الجمالي بالطبيعة. وهو ما يعتبره الفنان جزءا من أسرار حياته.