حرفة التلّي الإماراتية بين جهود تخليدها والخوف من اندثارها

أكشاك مجانية ودورات تدريبية هدفها تطوير استخدام التلي لمواءمته مع العصر.
الثلاثاء 2024/04/02
دقة ومهارة

تبذل الإماراتيات جهودا في المحافظة على تراث الجدات، ويتجلى ذلك في حرفة التلي التي يحاولن ألا تنقرض فيعلمنها لتلميذات وطالبات يصنعن أشرطة مجدّلة ملوّنة ولامعة، تتمّ حياكتها على ياقات الأثواب التقليدية وأطراف الأكمام والسراويل النسائية. والتلي حرفة دقيقة لا يحصل إتقانها في ساعة أو ساعتين، بل يستغرق سنة أو سنتين، إن حصل التدريب في حصّة واحدة أسبوعيًا.

العين (الإمارات) - بأنامل مصبوغة بالحنّاء تجدّل الإماراتية مريم الكلباني خيوطًا مختلفة لتصنع تصميمًا فريدًا تُزيَّن به الملابس، أمام عيون شابة ترغب في تعلّم حرفة التلي التقليدية المدرجة على قائمة اليونسكو للتراث الثقافي غير المادي للبشرية.

والتلي حرفة نسيج يدوي قديمة تمارسها الإماراتيات لإنتاج أشرطة مجدّلة ملوّنة ولامعة، تتمّ حياكتها على ياقات الأثواب التقليدية وأطراف الأكمام والسراويل النسائية. وبمرور الزمن باتت تُطرّز على منتجات أخرى مثل الحقائب.

وتقول مريم، التي تدرّب تلميذات وطالبات منذ 15 سنة، لوكالة فرانس برس إن “الهدف من ذلك إحياء التراث للجيل المقبل”، معتبرةً “أنها حرفة أجدادنا وأهلنا، فإذا لم نبادر ونعرفهنّ (الشابات) عليها ستندثر”.

في أحد أكشاك “مهرجان الحرف والصناعات التقليدية” بمنطقة العين في إمارة أبوظبي تراقب طالبة المحاسبة ريم الكتبي (23 عامًا) يدَي الحرفيّة السبعينية وهي تنسج على مخدّة مدوّرة تسمّى “موسدة” مثبّتة أمامها على حامل معدني، خيوطًا أحدها فضيّ اللون.

وتشرح مريم التي ترتدي عباءةً سوداء وبرقعًا ذهبيًّا تقليديًا، أن التعليم “يكون نظريًا في البداية وبعدها سمعيًا ثمّ لمسيًّا”.

التلي حرفة نسيج يدوي قديمة تمارسها الإماراتيات لإنتاج أشرطة مجدّلة ملوّنة ولامعة، تُحاك على ياقات الأثواب التقليدية وأطراف الأكمام
التلي حرفة نسيج يدوي قديمة تمارسها الإماراتيات لإنتاج أشرطة مجدّلة ملوّنة ولامعة، تُحاك على ياقات الأثواب التقليدية وأطراف الأكمام

تحاول ريم أن تحفظ الخطوات التي تعدّدها المدرّبة لتعيدها بدورها وتؤكد أنها بدأت تتعلّم العام الماضي لتصنع تصاميم لنفسها، لكنها تتوقف في فترة الدراسة.

وتقول “كل مرة أرى فيها التلي أتذكر الهوية الإماراتية، هذا شيء نادر ومميز”. ولا توجد معلومات دقيقة حول الفترة الزمنية التي نشأت خلالها الحرفة.

ويؤكد خبير التراث الثقافي في معهد الشارقة للتراث في الإمارات محمد حسن عبدالحافظ لفرانس برس أن “هناك في مجال التراث الثقافي غير المادي صعوبة كبيرة في تحديد تاريخ العنصر أو متى بدأ تاريخيًا بالضبط”.

لكنّه أشار إلى أن ضمن شروط تسجيل الحرفة على لائحة اليونسكو أن تكون قد تناقلتها أجيال متعددة “على الأقل من الأجداد وصولًا إلى الأحفاد”.

وتروي الحرفيّة مريم، التي تتقن التلي منذ كانت مراهقة، أن بناتها لم يتعلّمنَ الحرفة منها، بينما حفيدتها البالغة من العمر ثلاثة أعوام تتربّع إلى جانب جدّتها أرضًا وهي تضفّر الخيوط، وتطرح عليها أسئلة كثيرة.

وتؤكد مريم أن إتقان التلي لا يحصل “في ساعة أو ساعتين، فيمكن أن يستغرق سنة أو سنتين، إن حصل التدريب في حصّة واحدة أسبوعيًا”.

وقد يصل عدد الخيوط المستخدمة إلى خمسين. أما أبسط تصميم فيُصنع من ستّة خيوط وقد يستغرق إنتاج متر واحد فقط منه ثلاث ساعات.

وترى ريم أن الشابات راهنًا “لسنَ مهتمّات كثيرًا” بالتعلّم، لكنّها تعتبر أن “الحفاظ على الحرف الإماراتية والتراث الإماراتي من حبي للبلاد وكي يبقى أثرها موجودًا”.

وفي الساحة الرئيسية في موقع المهرجان تشاهد الأميركية كايتي غايمر (35 عامًا) رجالًا يؤدون رقصة “العيالة” التراثية حاملين عصي الخيزران أو بنادق خالية من الذخيرة، على وقع أغانٍ شعبية حماسية.

وتقول كايتي، وهي مدرّسة، إنها صنعت مع صديقاتها مؤخرًا في “معرض خاص لتعليم التلي” مجانيًا أساور، واصفةً التجربة بـ”الممتعة”.

وفي أنحاء أخرى من المهرجان تصنع نساء منتجات حرفية مختلفة، من بينها “السدو” الذي يُستخدم في حياكة الخيام والسجاد ورِحال الإبل، وهو أيضًا مدرج على قائمة اليونسكو للتراث الثقافي غير المادي منذ 2011.

تصاميم فريدة
تصاميم فريدة

وتبيع أخريات منتجات تقليدية، وبينهنّ طالبة علم النفس ليلى اليحيائي (22 عامًا) التي تساعد والدتها الطبيبة البيطرية في تسويق عباءات ومنتجات أخرى زيّنتاها بالتلّي. وتقول إنهما تساهمان في المحافظة على الحرفة “من خلال الهواية”.

وتستفيد ليلى ووالدتها من الأكشاك المجانية التي تقدّمها السلطات ضمن مبادرة “سجل أبوظبي للحرفيين” الرامية إلى حماية الحرف التقليدية.

وتقول رئيسة قسم تطوير الحرف والصناعات التقليدية بالإنابة في دائرة الثقافة والسياحة في أبوظبي عايشة الظاهري لفرانس برس إن السجل “عبارة عن مسح ميداني لإمارة أبوظبي… نسجل فيه كل الحرفيات”.

وبعد التقييم تُمنح المتعلمات شهادات ورخصًا ويصبحن مؤهلات للمشاركة في فعاليات ونقل الحرفة إلى الجيل الشاب.

وتشير إلى أن حرفة التلي التي أُدرجت أواخر 2022 على قائمة اليونسكو “تُعتبر من الحرف القابلة للاندثار، لذلك حاولنا أن نستعجل للمحافظة عليها عن طريق إقامة دورات تدريبية”. وأحد أهداف المبادرة تطوير استخدام التلي لمواءمته مع العصر.

وتعرض كلثوم المنصوريّ حقائب ومباخر وأساور وقلائد وميداليات وحلقات مفاتيح مزيّنة بالتلي في متجرها. عند مدخله تجدّل الثمانينية الخيوط أمام المارّة وتعتبر أن الشابات لا يرغبنَ في التعرّف على التراث لأنهنّ لاهيات “بالألواح الإلكترونية والهواتف”. وتضيف أن التراث “يجب أن يتجدد”، سائلة “كم سنعيش نحن؟”.

ويوضح عبدالحافظ أن الإمارات اهتمّت بالحفاظ على “أنماط الحياة الاجتماعية (التي كانت موجودة) قبل تأسيس الاتحاد عام 1971… حتى بعد صدمة الحداثة ومرحلة اكتشاف النفط ورغم كل المتغيرات الاجتماعية”.

ويشكّل الأجانب حوالي 90 في المئة من سكان الإمارات البالغ عددهم 10 ملايين. ومن النادر جدًّا رؤية طابع تقليدي في شوارع الدولة الخليجية المعروفة بناطحات السحاب وغزو الرقمنة لكل مفاصل الحياة فيها.

ورغم الجهود المبذولة للحفاظ على الحرفة، يتخوّف البعض من فقدانها.

Thumbnail

وتقول الإماراتية سالمة الكعبي إن التجار نقلوا الحرفة إلى المشاغل “فأصبح شراء قطع التلي أسهل، الجميع يرتديها لكن ليس الجميع يصنعها”.

وتضيف الأربعينية التي لم تتعلم حياكة التلي أن “المهرجانات والمدارس ربما مازالت تذكّر بالحرفة، لكنّ هناك خوفا من أن نراها يومًا ما في متحف”.

وكانت الشيخة لطيفة بنت محمد بن راشد آل مكتوم، رئيسة هيئة الثقافة والفنون في دبي (دبي للثقافة)، وعضو مجلس دبي، قد أكدت عام 2022 أن جهود دبي مستمرة في مجال حفظ التراث المحلي وعناصره الثقافية، مشيرة إلى أن تسجيل حرفة التلي على قائمة اليونسكو للتراث الثقافي غير المادي يُعد إنجازا يحفظ هذه الحرفة التراثية، ويضمن ديمومتها، تناغما مع نهج دولة الإمارات في صون التراث والاحتفاء به كمصدر إلهام للأجيال المقبلة يزيد من ارتباطهم بهويتهم الوطنية.

وأثنت على نجاح الجهود الكبيرة التي بذلتها دبي وأثمرت عن تسجيل حرفة التلي على قائمة اليونسكو للتراث الثقافي غير المادي خلال الاجتماع السابع عشر للجنة الدولية الحكومية للدول الأطراف في اتفاقية صون التراث الثقافي غير المادي، التي عُقدت في مدينة الرباط المغربية.

وقالت الشيخة لطيفة بنت محمد بن راشد آل مكتوم “تواصل دولة الإمارات ودبي تحقيق مزيد من الإنجازات في مجال صون التراث الثقافي المادي والمعنوي، انطلاقا من نهجها الراسخ في حماية تراثها الثقافي بكل أشكاله المادية والمعنوية، ما يرسم صورة شاملة عن هويتها الفريدة وتراثها الغني”.

وأضافت “يُعد نجاح الإمارات في تسجيل حرفة التلي على قائمة اليونسكو تتويجا للجهود المبذولة للحفاظ على التراث الإماراتي، ويعكس التزام ‘دبي للثقافة’ وحرصها على حفظ هذا التراث الغني وصونه، والتعريف به عالمياً وتسليط الضوء على قيمه الثمينة، والتأكيد على أهمية خلق البيئة الملائمة لضمان استدامة الصناعات التراثية”.

وأشارت إلى أن نجاح تسجيل حرفة التلي يُضاف إلى رصيد الإنجازات الثقافية للدولة، لافتة إلى أنه “على مدار السنوات الأخيرة نجحت الإمارات في إدراج العديد من العناصر التراثية والوطنية الفريدة ضمن قائمة اليونسكو، وتسجيل حرفة التلي يسهم في حمايتها وصيانتها وتعريف العالم بهويتنا الوطنية وعمق أصالتها. نفتخر بتراثنا الذي تتجسد فيه قيمنا وحضارتنا، ونسعى لغرسه في نفوس الأجيال الجديدة ليتناقلوه جيلاً بعد جيل، حفاظاً على الموروث المحلي والهوية الوطنية”.

والتلي حرفة تقليدية تمارسها النساء داخل البيوت الإماراتية، وهي إحدى مكونات التراث الثقافي المحلي التي توارثتها الأجيال عبر الزمن، وحرفة نسيج يدوي تقليدي تتميز بألوانها الزاهية وتصميماتها الجميلة، تقوم فيها النساء بإنتاج تصاميم مختلفة تستخدم في تزيين ملابس النساء، وتتميز القطع بأنماطها المستلهمة من عناصر البيئة المحلية، وتتراوح مدة إنجاز تصميم التلي بين بضع ساعات وعدة أشهر، بناءً على طبيعته ومدى تعقيده وعدد الخيوط المستخدمة فيه. وتطلق على تصاميم التلي أسماء مختلفة نسبة إلى الطريقة المستخدمة في إنتاجه، من بينها “ساير ياي”(الذهاب والإياب) و”بوخوصتين” أو “بوفتلتين” و”بوخوصة” أو”بوفتلة”، وغيرها.

16